توبة الجماعات والحركات

بقلم د. محمد محمد الأسطل(*)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإنَّ للجماعات والحركات توبةً كالأفراد، وجرت العادة في صدر كل عام هجريٍّ أو ميلاديٍّ أن يتواصى الناس بمحاسبة النفس وتقييم الذات والتخطيط لما هو آت.

وهذه المحطات الزمانية ليس لها خصوصيةٌ شرعيةٌ في موضوع هذه المقالة؛ فإنَّ قوةَ الأعمالِ غيرُ منوطةٍ بأوائل الأزمنة؛ وإنما بإقبال الأفئدة، وإنما يعتني بها الناس لوضوحها في مرور محطات الزمن.

وإذا كان الإنسان يقوم بعمليةِ مراجعةٍ شاملةٍ لحياته وأعماله وأفكاره؛ أين أصاب وأجاد؟ وأين أخطأ وأخفق؟.. فإنَّ الجماعات أولى بهذه المراجعة؛ لأنَّ الزللَ في الأفكار والأعمال يتعدى إلى الأتباع، وقد يكونون بالآلاف أو بمئات الآلاف أو بالملايين، فضلًا عن مظنة هيبة الأتباع لمناصحة القادة، أو عدم القدرة على الوصول إليهم، أو عدم تَقَبُّلِ القادة للنصيحة لو وصلت.

وهذا النقدُ المنهجيُّ للأفكار والأعمال أهم ما يكون في تاريخ ذكرى التأسيس؛ لأنَّه تاريخٌ متكرر ويُذَكِّرُ بهذه القضية، وأهل العقل والحكمة في قيادات الجماعات والحركات والمؤسسات لا يذهلون أثناء الاحتفاء بالنجاح والجماهيرية والتمدد عن التقييم والنقد وحمد الله على ما تقدم من حسنات، والتوبة إليه على ما اقتُرِف من سيئات، بل هذا عند التأمل هو الابتهاج الحقيقي، إذ يكون كل عام يمر أشبه بميلادٍ جديد في تاريخ الجماعة.

والواحد منا على المستوى الشخصي في تاريخ مولده يحمد الله أنه بلَّغه هذه السن وأمهله وستر عليه ويسَّر أمره، لكن في الوقت نفسه يكاد يقتل نفسه همًّا أنَّ هذا المقدار من السنوات مرَّ من غير كثير عمل، ومع كثير ذنب وتقصيرٍ وكسل، وتجده يرفع يديه خاشعًا خاضعًا منكسرًا: اللهم منك العفوُ على ما قدَّمت وقصَّرت، ومنك العون لأستدرك ما فوَّتُّ.

وأذكر ثلاث قضايا ينبغي أن تتضمنها بنودُ المراجعة:

القضة الأولى: موقع هذه الجماعة من الأفكار والأشياء والأشخاص:

وبيان هذا: أنَّ الجيل المؤسس يعتني بالفكرة وتقريرها، ويعيش مع المبادئ والقيم ويتجرد لها، ويضحي في سبيلها، ويدفع الثمن من وقته وماله لأجلها، فالعطاء في الجيل الأول أصلٌ والانتفاع أمرٌ مستهجن.

أما الجيل الثاني فهو جيلٌ يعتني بالبنيان الذي أقامه المؤسسون، وإذا امتد به الزمان صار يعظمه من غير أن يدرس عوامل النجاح، وربما صار يحرص على الأنشطة واللقاءات والدورات وبناء المدارس والمؤسسات وغير ذلك من غير أن يقف طويلًا عند الأهداف الجزئية لهذه الأنشطة، وهل تحقق القصد منها أم لا؟.

والتوغل في هذا المسار يجعل الوسيلة غايةً، والغاية رسمًا لا حقيقة.

وإذا وصلت الجماعات إلى هذه المرحلة انحدرت إلى المرحلة التي تليها حيث تعظيمُ الأشخاص، والهيبةُ من مكالمتهم، والتوجسُ من نصحهم، والخوفُ من سخطهم، وصارت تكثر أخبار القيادات في حياة الأتباع والجنود، وربما آل الأمر إلى أن ينقسم الأتباع أقسامًا، وكل قسم يلتف حول شخصياتٍ بعينها.

وفي هذه المرحلة تتغلغل أمراض القلوب، من مثل الكذب وضعف الخوف من الله وعدم التوكل عليه حق التوكل، وتبدل العطاء والدفع إلى الأخذ والانتفاع، وربما صار الإنفاق على برامج العمل أمرًا مستهجنًا، ويبدأ العمل التطوعي في الاختفاء والأفول يومًا بعد آخر.

وأمام هذا المشهد لا بد من الحفاظ على الدائرة الصحية الصحيحة، وهي التي أشار إليها إمام الفكر التربوي الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في خواتيم كتابه “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس” بأن يكون الأشخاص والأشياء في خدمة الأفكار.

وفي هذه الحالة يتسم منهج التفكير بالعمق والشمول، وتدور اهتمامات الأفراد والجماعة حول القضايا العامة الكبرى، ويتسلم مراكز القيادة الأذكياء الذين يحسنون اتخاذ القرارات ومجابهة التحديات والرقي بالجماعة.

أما إن صارت الأفكار والأشياء في خدمة الأشخاص.. فينتج هنا الطواغيت، وتصبح السمة الغالبة على المجتمع هي هيمنة محبي الجاه والنفوذ وأصحاب القوة، وهؤلاء يُسَخِّرُون الأفكار والأشياء لمصالحهم الشخصية أو لطوائفهم وعشائرهم، وينحصر التفكير في أطر الطائفة أو الحزب، ويتصف التفكير بالجزئية والانغلاق.

أما إن صارت الأفكار والأشخاص في خدمة الأشياء.. فهنا تجف مادة الروح، وتطغى المادة، وتكون الهيمنة لأرباب المال والتجارات، وصانعي الشهوات، وتسود ثقافة الاستهلاك، وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية حتى داخل الجماعات نفسها، ويتوقف التفكير والفهم ويصابان بالشلل، ويشغل الناس بأشيائهم وحاجاتهم اليومية، وتصبح الأفكار والقيم مادةً استهلاكية تُزين بها اليافطات الدعائية، وواجهة المحلات التجارية.

القضية الثانية: الوقوع في التهويل أو التهوين:

إنَّ الإسلام شاملٌ للعلم والتعبد والدعوة والجهاد والحكم وغير ذلك، والأصل في الجماعات أن تكون صورةً عن الإسلام نفسه، فإذا عمدت جماعةٌ إلى جانبٍ واحدٍ من الإسلام وتركت الباقي.. فإنَّ هذا يورثها خللًا في التصور، وقصورًا في التطبيق والعمل، وظلمًا للأتباع، واستهانةً بالجوانب الأخرى من الدين، وربما تورطت بالتنظير لقلة أهميتها والحاجة إليها.

لكن قد تتعلل فتقول: إنَّ طاقتي وإمكاناتي لا تسمح لي بممارسة هذا الشمول، وقد فتح الله علينا في جانبٍ واحدٍ، فنحن نتخصص فيه ونضبطه ونكفي المسلمين أمره، وهذا طرح حسن، لكنه مقيَّدٌ بأمرين:

الأول: أن يُتَمِّمَ أعضاءُ هذه الجماعة النقص الذي عندهم بأنفسهم، أو عبر الجندية في جماعات أخرى تقوم به، وبهذا يحصل التكامل بين الجماعات، ولا ينبغي لقادة الجماعات أن يتحسسوا من الأفراد متى ظهر صدقهم وبان إخلاصهم.

والآخر: أن تقوم الجماعة بواجب تحريض الأتباع والجمهور للقيام ببقية الجوانب من خلال الجماعات والمكونات الأخرى، لا أن تقوم بتزكية نفسها والجانب الذي اشتغلت به، والقدح في الجماعات الأخرى.

والأصل في المسلم أن ينتقي من كل طائفةٍ أحسن ما فيها، وبهذا يلتقط الخير المتناثر في أرجاء الأمة؛ فإنَّ الحق اجتمع في شخص النبي صلى الله عليه وسلم حصرًا، وتفرق في أمته نثرًا، وهذا التفرق بالتوصيف المذكور معدودٌ من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد.

وقد تُهَوِّلُ الجماعات مسألةً أو بابًا من الجانب الذي اختارته، وبهذا يقع التضخيم، كما تضخمت مسألة الكرامات عند الصوفية، وولي الأمر عند طوائف من السلفية، والمصلحة عند الإخوان، والخروج للدعوة عند جماعة الدعوة والتبليغ، والخلافة عند حزب التحرير.

وهذه المسائل في أنفسها مستقيمةٌ شرعًا، والاختلال حاصلٌ في حجمها لا في صحة أصلها، فإذا كان حجمها كغرفةٍ في بيت.. فإنها تُعرض في حجم صرحٍ ضخمٍ في مدخل بلد، ويمكن العناية ببابٍ أو مسألةٍ في ظروف توجب ذلك، على ألا ينقص ذلك من قدر العناية ببقية الأبواب الأخرى.

وذلك أن في التضخيم ضررًا كالهزال، من هنا فإنَّ القائل بتلك المسألة لا يكون متعقبًا من جهة اتباعه للسلف؛ وإنما من جهة كون ذلك على غير بصيرة، وجاء الجمع بين الاتباع والبصيرة في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

والمرء يحزن عندما يجد بعض الجماعات ما زالت بنفس الخطاب من وقت التأسيس، وتكرر نفس المادة ونفس المسائل والأسلوب، وربما صاحب ذلك قصورٌ في فهم الواقع وتمييز الحق من الباطل، في الوقت الذي يتعرض له ديننا لهجماتٍ متتابعةٍ من أهل الأهواء والنحل الفاسدة.

القضية الثالثة: تأثر الأفكار والمبادئ تحت ضغط إلجاءات الواقع:

وأكثر من يتعرض لهذه القضية الجماعات الإسلامية التي تصل إلى الحكم، أو التي تعتني بالسياسة وتدنو من السلاطين.

وذلك أنَّ العالم الذي نعيش يخضع لنظامٍ عالمي، تتفرد فيه الآن الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وإن بدأت بعض الدولة تحتل مساحةً لها في المنظومة الدولية.

وبعد خروج الاستعمار من المنطقة الإسلامية وكَّل بعده أنظمةً مستبدة تقوم بمصالحه، وتمتص غضب الجماهير من إعلان الجهاد ضد الاحتلال المباشر، وعندئذٍ إذا رامت الجماعات الإسلامية أن تدخل الحكم.. فإنها لن تجد مكانًا إلا داخل النظام الدولي.

فإذا بدأ النظام الدولي يمارس ضغطه عليها وحصاره لها حتى صارت الأزمات والمؤامرات كزخات المطر.. فإنَّ هذه الجماعات تأخذ بالتصالح مع القيم الغربية على حساب المبادئ والقيم الإسلامية.

وهنا يجب على قادة الجماعات الإسلامية أن يحترسوا كثيرًا من هذا الكمين، عبر دراسة العدو من الداخل، ورصد الخطط التي تجعلهم قادرين على تحقيق المصالح في ظل الحفاظ على المبادئ، وألا يخوضوا في وادي المصلحة إلا بالقدر الذي تتيحه لهم الأحكام الشرعية.

بقي أن يشار في ختام هذا المقال إلى أمرين:

الأول: أنَّ رصيد أكثر الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي آخذٌ بالنقص يومًا بعد يوم، وهذا يستدعي الاستنفار لشن انتفاضة فكرية تقوم بعملية النقد المنهجي وتقويم المسار واستدراك الخلل وتعويض النقص.

وقلت في كتاب “فقه الاستدراك”: إنَّ الاستدراك إذا كان حاجةً في حقِّ الفرد.. فإنه ضرورةٌ في حق المجتمع، بما فيه من هيئاتٍ ومؤسسات وجماعات، في عامة الثغور ومختلف الجوانب التي تحتاجها الأمة؛ كالسياسة والعلم والجهاد والاقتصاد والإعلام والأمن والصحة والتربية والفكر.

ولا بد للباحثين من هذه الجماعات أن يكتبوا في فقه الاستدراك في التخصص الذي يحسنون التدوين فيه.

والآخر: أنَّ من أبرز معوقات المراجعة والنقد المنهجي للأفكار والأعمال هو التبرير، فصاحب التبرير يمكن أن يصل، لكن بعد زمانٍ طويل وفوتٍ كثير.

والله المستعان وحده، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


(*) من علماء غزة، دكتوراه في الفقه الإسلامي.

اترك تعليق