بقلم أ.د. فؤاد البنا
كان الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله رحمة الأبرار عبقري دهره وفريد عصره في استثمار ما هيأ الله له من أسباب التفوق والتوفيق، وأثبتت كثير من الوقائع أنه كان نظير نفسه في أمور كثيرة، ومنها ما هو متصل بالربط بين كثير من الثنائيات التي تبدو متباعدة عند أغلب المسلمين أو متناقضة عند التيارات التي تعاني من أمية فكرية، لكنها أهم فيصل في إيضاح مدى فقه العالم من عدمه، ومن صور هذه الثنائيات:
١- ممارسته للجهاد الناعم وجهاد ذات الشوكة في آن واحد، فقد كان في مطلع حياته أحد الشباب في حركة الإخوان المسلمين الذين شاركوا سنة ١٩٤٨ في القتال العسكري في فلسطين ضد طلائع الغزاة الآتين من خلف البحار، وكان ممن قاتلوا في قناة السويس ضد جحافل المحتلين الإنجليز لوطنهم سنة ١٩٥١، وكان حينما يعود إلى مجتمعه يعود بلسما يوضع على الجرح فيبرأ، وقد استغرق الجهاد الناعم معظم حياته، حيث جاهد بالقرآن جهادا كبيرا، ومارس الجهاد التربوي في المدارس والجامعات والمعاهد العليا وفي المحاضرات العامة والندوات والمؤتمرات والمناظرات، كما فعل في مناظرته مع د. فؤاد زكريا!
وبالطبع فإن هذا الجمع المتوائم ناتج عن إدراك عميق لمنظومة الإسلام وخارطة الواقع، حيث وقف بصرامة ضد الاستعمار وبذات الصرامة ضد استخدام العنف في حل خلافات داخلية بين المسلمين مهما كانت نوعية هذه الخلافات!
٢- ممارسة الدعوة والتأليف داخل الوطن المصري وخارجه؛ فقد أنجز أكثر من مائتي كتاب وتم جمع أعماله الكاملة في مائة مجلد وستصدر تباعا، وألقى آلاف المحاضرات في القارات الست؛ ذلك أنه كان صاحب فاعلية عالية ولم يتوقف أو يضعف في أي زمن أو مكان، فهناك أدوار مارسها وكتب ألّفها داخل الوطن وخارجه، ومارس الدعوة داخل العالم الإسلامي وخارجه، وعاش في أكناف الدعوة عندما أصبح ملئ السمع والبصر كرئيس لأعلى هيئة علمائية في العالم وهو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بذات التواضع الذي كان عليه عندما كان جنديا لا يعرفه أحد وربما لا يأبه به سوى قلة من المقربين منه!
٣- جمعه أثناء التخندق بجانب قيم النهوض الحضاري في الإسلام بين الوحدة والحرية؛ وهذا الجمع المتوائم بين قيمتين تبدوان متناقضتين عند كثير من العلماء والسياسيين، ناتج عن إدراكه الوثيق لخارطة الثوابت والمتغيرات؛ فقد راى ضرورة توحد طوائف الأمة وتياراتها ومذاهبها وأوطانها وجماعاتها تحت سقف الثوابت، ورأى ضرورة التعاون مع غير المسلمين في إقامة المشتركات الإنسانية والمصلحية، مع إطلاق العنان للعقول والرؤى في مجال المتغيرات التي تنتجها مشاكل الحياة المتجددة، حيث حث على التنافس في تجديد الفروع والجزئيات وتطوير الوسائل والأساليب، وبدأ بنفسه عندما انطلق من وسائل الدعوة التقليدية إلى الوسائل المتطورة فكان أن اقتحم مجال الفضائيات في مخاطبة الجماهير، وله باع طويل مع عدد من القنوات الفضائية في هذا المضمار، وفي مقدمتها الجزيرة والشارقة وأبوظبي، ثم أسس موقعا إلكترونيا في وقت مبكر ودخل وسائل التواصل الاجتماعي بقوة.
وجمع بذات المنهج بين النقل السماوي والعقل الأرضي، ومزج بين عالم الغيب والشهادة وكذا بين الإيمان والعلم، داعيا للاستفادة من خبرات الأمم التي سبقت المسلمين في ميدان التبادل السلمي للسلطة وميادين العلوم الطبيعية بل والعلوم الإنسانية إن وجدت فيها أي فكرة نافعة للمسلمين!
٤- الجمع بين المناهج والبرامج، فقد قام باستنباط أصول المناهج التي ينبغي أن يتم السير عليها في مجال استئناف الإقلاع الحضاري للأمة الإسلامية، حيث استنبط من فقهه للوحي والواقع مناهج عديدة للتعامل مع: القرآن الكريم، السنة النبوية، التراث الإسلامي، التأريخ الإسلامي، الآخر غير المسلم مع تفريقه الواضح في هذا المضمار بين التفاعل الحضاري الخلاق والغزو الثقافي الهدام، الموقف من الآخر المسلم مع تفريقه الحاسم هنا بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم!
وفي ذات الوقت ساعد الحركات الإسلامية بكل ما يستطيع في سبيل الانطلاق من التنظير المثالي إلى العمل الواقعي، وساعدها على النزول من آفاق الشعارات العامة إلى أعماق الواقع لمعالجة آفاته وإيجاد المخارج لمآزقه وابتكار الحلول لمشاكله، وعلى سبيل المثال عندما نزل الإسلاميون في مصر الانتخابات البرلمانية تحت شعار (الإسلام هو الحل) ألّف سلسلة من الكتب تحت عنوان (حتمية الحل الإسلامي)، ظهرت تحتها عدد من الكتب وأهمها: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، الحل الإسلامي فريضة وضرورة، بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، الأقليات الدينية والحل الإسلامي، ويدخل في هذا السياق كتابه (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، وإن لم يدخله ضمن أرقام السلسلة!
٥- جمعه المتساوق بين التشدد والترخص، فقد كان متشددا في القضايا المتصلة بالأصول العامة للإسلام ومبادئه العقدية، وقيمه الحضارية، وكلياته التشريعية، وقضايا تحرر شعوبه من الاستعمار والاستغلال كما فعل في قضية فلسطين ومظلوميات الشعوب المضطهدة؛ لدرجة جعلت أعداء الإسلام وحكام الجور وتيارات الفساد والانحراف تقف له جميعا بالمرصاد؛ حيث شنت حملات إعلامية كثيفة لاغتياله معنويا، ومنعت كتبه من الانتشار، وأغلقت أمامه كثيرا من وسائل الإعلام التي كانت متاحة أمامه، ووصل الأمر إلى حد وصمه رسميا بالإرهاب من قبل عدد من الأنظمة!
وكان في المقابل مترخصا في الفروع والجزئيات، وداعية اجتهاد وتطوير في الوسائل والأساليب، مثل أفكاره ومواقفه المبيحة للتعددية السياسية والحزبية وفق النظم الديمقراطية، والتحالف مع التيارات والبلدان غير الإسلامية إذا تعلق الأمر بقواسم مشتركة يمكن التعاون في تحقيقها، والموقف من الموسيقى والغناء والفن عموما، وفتح برؤاه التأصيلية المعتدلة الباب واسعا لنيل المرأة حقوقها المشروعة بعيدا عن الانتقاص الوارد في بعض أفكار التراث الراكد، وبعيدا عن الميوعة التي يتضمنها الفكر الوارد!
وكما حاربه الجاحدون واتهموه بشتى التهم لثباته على القيم والأصول وعدم تفريطه بقضايا التحرر كقضية فلسطين، فقد حاربه الجامدون لرؤاه التجديدية ومخالفته لبعض ما شاع في الفقه التقليدي؛ لدرجة أن هناك من كفروه بسبب دعوته للتعايش مع غير المحاربين من غير المسلمين واعتباره لهم إخوة في الإنسانية، رغم استدلاله بآيات قرآنية تطلق على الأنبياء أخوة لأقوامهم الكافرين، كنبي الله هود الذي وصفه بأنه أخ عاد ووصفه تعالى لصالح بأنه أخ ثمود!
٦- ويمكن أن نضيف لهذه الثنائيات توزع عمره المديد بين العهدين الملكي والجمهوري؛ حيث بارك الله في عمره فعاش في العهدين الملكي والجمهوري، ولم يتخلّ عن دعوته في كليهما؛ ولذلك فقد سجن أيام الملك فاروق وأيام الرئيس جمال عبد الناصر، وذاق في السجون طعم المهانة الملكية والمهانة الجمهورية وعانى من العذاب الليبرالي والعذاب اليساري!
وتقلب في مختلف أنواع الابتلاء في جبهتي السراء والضراء، فلم يغب عن باله أن دخول القصور ابتلاء مثل دخول الزنازين، ولم يتوقف عن قول كلمة الحق بصراحة لا تخلو من حكمة!
تقبله الله تعالى في الصديقين ورفع درجته في عليين، وجعلنا من ورثة أفكاره النيّرة وخبراته النافعة من دون تعظيم أو تصنيم.