د. أكرم جلال
كَتَبَ الفيلسوف والمُفكّر الأسباني جورج أوجستين سانتايانا في مقالته Reason in Common Sense والتي نشرها عام 1905، مقولة شهيرة قال فيها: (أولئك الذين لا يستطيعون تذكر الماضي محكومٌ عليهم تكراره)، وهو يشير الى العِبْرة والحكمة من دراسة التأريخ واستنباط الدروس والعِبَر.
الحضارةُ مقصدُ الأمم والشعوب، وهي الحاجز المانع بين الإنسان وهمجيّته، وأنّ الأنهيار والتّساقط الحضاري إنّما هو بداية لنهاية الوجود الأنساني للمجتمعات البشريّة، وأن الأمم بدون حضارة هي مجتمعات بدائية، أحجار صمّاء مطمورة تحت الأرض قد طواها النسيان، لتُشيد على أطلالها حضارات أخرى.
إنّ مِنَ الملاحظ على المَراجع التي أتت على ذكر مُصطلح الحضارة، أنّها لم تتّفق على تعريف محدد، جامع، موحّد، لكلّ زمان أو مكان، فقد لوحظ أنّ لهذه المُفردة صدًا واسعًا من التغاير والأختلاف في الفكرة والمفهوم والأمتداد والدلالة، وذلك لاعتبارات قد يحظى الكثير منها بالمقبولية والاشادة. ولعلّ أهم تلك الأعتبارات أنّ العديد من الأمم والحضارات وإن اشتركت وتشابهت في بعض المعايير المحدِّدة للقيام والنهوض، إلا أنها قد لا تتفق مع جميعها، فلعوامل الزمان والمكان أثر في الصياغة والأتفاق على تعريف مصطلح الحضارة. أنَّ المقصد من هذه الورقة هو ليس الإيغال في تعريفات الحضارة بقدر ما هو فهم، وتفسِر للأسباب والسنن وراء قيامها أو سقوطها.
لقد وردت كلمة الحضارة في معجم لسان العرب تحت مادة ” حضر ” ، حيث قال فيها ابن منظور (ت711هـ): (… حضَر يحضُر حُضوراً وحِـضارة. و يُعـدَّى فيقال: حضَره وحضِره يحضُره،… والحضَر: خلاف البدو. والحاضر: خلاف البادي… الحاضر: المقيم في المدن والقرى، والبادي: المقيم في البادية… ويقال: فلان من أهل الحاضرة وفلان من أهل البادية، وفلان حضَري وفلان بدَوي. …).
ولا يَخفى على أيّ دارس حَصيف للتأريخ الأنساني والفكر البشري أن يرى بعداً وجودياً، أيّدته السنن الألهية، قد قسم البشرية الي شعوب وقبائل، وطوائف ومذاهب، وأجناس وأعراق، كل يحمل مفاهيمه وأفكاره الخاصّة، ويسير بتهج قد خطّته الشرائع السماويّة أو الأفكار والنظريّات الوجودية، حتى أصبحت البشرية في زمننا تعيش التنوّع والتباين في حمل الأفكار والمفاهيم والثقافات، لِتَلعَب السنن الكونيّة لعبتها ولتدور عَجَلة الزمان دورتها، أما رافعة أو طاحنة ، عَجَلة قد تخرج الأنسان من عصر البداوة المظلم الى الحضارة المشرق، وهي نفس العَجَلة بسننها الكونيّة قد تعود بالأمم من عالم الحضارة الى البداوة والاضمحلال بل والى عالم الأندثار والنسيان.
لقد استهوى مفهوم الحضارة اهتمام الباحثين والمُفكرين في العديد من الفروع والتخصصات المعرفية، كعلماء التأريخ والأجتماع عموماً، ومؤرخي وفلاسفة الحضارات القديمة والحديثة خصوصاً، وذلك لأرتباط هذا المفهوم بالذات الأنسانية وما تحويه من طباع وخصال، لذلك يَعتبر الكثيرون أن موضوع الحضارات الأنسانسة من المواضيع الواسعة والمتداخلة، حيث نجد العديد من النظريات والدراسات قد تعمّقت في دراسة وتحليل هذا المفهوم من أوجه متعددة ومتنوّعة بغية الوصول الى فهم مشترك وتفسير مقبول ومتفق عليه حول ماهيّة الأسباب والسنن المؤثّرة في عملية نشوء وتطوّر الحضارات والأسباب التي لها تأثيراً في سقوط وتلاشي أمم وحضارات، علماً أن هذه السنن والمعايير قد تشكّل مقياساً يجري تطبيقه على جميع الحضارات منذ قيام الخليقة حتى وقتنا الحاضر.
لعل أبرز الذين كتبوا ونظّروا في هذا الشأن هو المفكر وعالم الأجتماع الأشبيلي الشهير ابن خلدون والذي كان شديد الأهتمام بقضية الحضارة ، فقد كتب وبين أسباب نهوضها وكذلك سقوطها واندثارها في مقدمة كتابه (العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر) والذي يقع في سبعة مجلدات، والتي تُعرف ب(مقدمة ابن خلدون)، ويعدّها الكثير من الباحثين والمفكرين على أنّها من أعظم ما كُتب في أصول علم الاجتماع، حيث يقول في تعريفه للحضارة أنّها (تفنّن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله)
لقد رَصَد أبن خلدون مساراً للعمران وأسّس نموذجاً للنهوض الحضاري والتطوّر الأممي مبنيّ على معايير وموازين وعناصر حدّدها واعتبرها كفيلة بأزدهار الحضارات وأشار الى مجوعة أخرى وربطها بغروب شمس تلك الكيانات الإمبراطورية وسقوطها. والأسس الخلدونيّة في النهوض الحضاري نجملها بالتالي: الطبيعة الجغرافية، والأنتقال من البداوة الى الحضر، الرؤية السياسية المتقدمة ودورها في النهوض والعمران، المال والثروة ، والعدل.
كما أضاف عنصر العصبية والتي اعتبرها أساساً لقيام الأمم والحضارات، ويُقصد بها العلاقة التي تنشئ بين الأفراد الذين تجمع بينهم رابطة الدم أو رابطة الحلف أو الولاء.
وهو بالأضافة الى هذه المعايير التي هي أسسٌ عامة تنطبق على جميع الأمم والحضارات، فإنّه أشار الى بعداً آخر مرتبط بالحضارة الأسلامية أسماه النبوّة والوحي، ولأن هذا المعيار ضارباً في عمق الغيب فهو خارج معادلات التحليل والتقييم لأنّه عنصراً يتجاوز البعد المادي، لذلك فإن الطبيعة الوجودية لا تستطيع تقييمه أو تصنيفه أو حتى الأحاطة به، وأن عدم العلم بالشيء لا يعني بالضرورة عدم وجوده، كما ذَكر.
وإنطلاقاً من بعديها الفلسفي والاجتماعي قدّم ابن خلدون في هذا الشأن نظريته الشهيرة والتي أسماها بالتعاقب الدوري للدول، فلقد أدرك أن هناك تعاقب وتتالي في الحضارات، وفي هذا النوع من التغيير قارن بين الإنسان والمجتمع، حيق يقول: “فللمجتمع عنده عمر يمر به كعمر المرء الذي يولد، ثم يكتمل نموه، ثم يهرم ويموت. وعلى هذا الأساس، تمر الدولة بالمراحل التالية: بداوة ازدهار تدهور”.
إذن فالتاريخ تحت النظرية الخلدونية هو حركة دورية متواصلة ومستمرة من البداوة إلي الحضارة وهذا الانتقال للتأريخ في ضوء نشأة الدول وانهيارها يقسّم الى خمسة أطوار (مراحل)، المرحلة الأولى هي مرحلة الظفر ونشوء الدولة على أنقاض دولة سابقة ، وتليها المرحلة الثانية حيث الحُكم والسُلطان والأنفراد بالمَجد وما يتبعه من أجراءات والتزامات، وفي المرحلة الثالثة وبعد الأطمئنان للحكم تسود حالة من الراحة والدعة والفراغ حيث يتم قطف ثمار المُلك وما تجرّه من ملذّات دنويّة ، وفي المرحلة الرابعة تتحول هذه الملذّات إلى قناعة وسكون ومسالمة ، لتأتي المرحلة الخامسة حيث الإسراف والتبذير ونتيجة لذلك تفقد الدولة هبتها فتتهاوى ثم تزول.
فالتعاقب الدوري والمراحل والأطوار التي تمرّ بها الدولة منذ نشوءها حتى اندثارها هي محصورة ومحددة بأجيال ثلاث: جيل البداوة حيث شَضَف العيش والتماسك والأقتصار على الضروري في المعيشة، ثم جيل الحضارة والعمران بفعل المُلك والسُلطان وجيل الترف. لكن الراحة والدعة والبذخ والترف هي العلة لبداية السقوط والانحلال، فتثار الفتن وتبدأ المشاكل تعصف بالحكم لتبدأ فئة أخرى من البدو تسعى للسلطة فتأخذ المُلك، لتبدأ الدورة من جديد.
وعندما نتوقّف عند الفيلسوف مالك بن نبي، أحد أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين، نجده يتناول مفهوم الحضارة بتفصيل في كتابه شروط النهضة، حيث يرى أن دورة الحضارة تبدأ بالفكرة الدينيّة، أو أي فكرة أخلاقية أخرى، لتمر بعدها بمرحلة أسماها مرحلة الروح، لتسير ممتدّة الى العقل فتصل الى أعلى مراحلها تطوراً، ولكن حينما تبدأ مرحلة تفوّق الغريزة وانحطاط الأخلاق على سلطة العقل، فإنّ ذلك إذعان ببداية مرحلة الهبوط والزوال.
يقدّم مالك بن نبي عناصر ثلاث من خلالها تتشكّل دورات الحضارات، وهي الإنسان والتراب والزمن، وهذه العناصر لا يمكن أن تكوّن النهوض الحضاري إلا من خلال الفكرة الدينية أو الأخلاقية والتي هي كالمحرّك والموجّه للعنصر الأول، وهو الإنسان، نحو الرقيّ والتقدم والحضارة. الأنسان هو قطب الرحى، فبعدما يّهئ ويوجّه أخلاقياً وثقافياً ، تبدأ مرحلة استخدام عنصر التراب وتخضيره، والاستفادة من عنصر الزمن، من أجل السير نحو نهضة إنسانية تنعكس نتائجها بقيام الحضارات وتقدم الأمم.
يقول مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة:
(أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست في ما نستحق من رغائب، بل في ما يسودنا من عادات، وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية .. وما فيها من نقائص تعتري كل شعب نائم.. فبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة، أصبحت سوقاً للانتخابات).
لذلك يعتبر البذخ والترف والدعة مظهر الحضارة المُفسدة، بل ويصل الترف حداً تفسد فيه الأخلاق وتضيع القيم وتتحول حالة التعاضد والتآزر الى تناحر وتنازع من أجل مغانم ومصالح فئوية أو شخصية وهذا إذعان ببدأ حالة الظلم والطغيان وهي أوضح سنن خراب العمران وانهيار الحضارات والأوطان.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾.
وأختم حديثي بالمعيار الأهم والذي أشار اليه ابن خلدون بعنصر النبوّة والوحي، وذكره مالك بن نبي البفكرة الدينيّة أو الأخلاقيّة. وليس من باب الإيغال في اللاهوتيات والخروج من عالم الواقع والأنغماس في الخيال ولكنها حقيقة واقعة ومشهد يتجلّى أمام أنظارنا، فنحن كأمّة اسلامية مع ما نتعرّض اليه من برامج هدّامة تهدف لإعادة قَولبة الدين الأسلامي وصياغته بما تخطط له بعض الدوائر ويخدم مشاريع المستعمر ويعينها على ذلك الأقزام من هذه الأمة، لكنّ جذوة الوحي والنبوّة وما جاء به من مكارم الأخلاق مازالت تشعّ وإن كانت الرياح على أشدّها، وأن هذه الأمة حيّة لا تموت فروحها هو الوحي وهو حيّ لا يموت. فأطوار ابن خلدون قد تجري علينا لكنّها ستصطدم لا محال بصخرة القرأن والعترة الطاهرة فهما الثقلان اللذان لا زوال لهما كما وعدنا سيد المرسلين المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فوعده وعد إلهي، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾.
في قيامِ حَضاراتٍ أو اندثار أوطان: قراءة في التعاقب الدوري للحضارة ما بين أبن خلدون ومالك بن نبي
المصدر: رأي اليوم
جميل ورائع