ذكرياتي عن أستاذنا مصطفى السباعي الفقيه المجاهد المجدد

بقلم الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات(*)

بسم الله الرحمن الرحيم

   

إنها فرصة عظيمة:

  أتاحها لي أخي الكريم الأستاذ عبد الله الطنطاوي حين طلب إلي أن أقدم لكتابه

ا لجديد عن أستاذنا السباعي-رحمه الله تعالى وأعلى منزلته في جنان الخلد-علما بأن ما يكتبه أخي أبو أسامة لا يحتاج إلى تقديم، وقد دأب هو دائما أن يقدم لما يكتبه الآخرون.

ولكنني أحسست من عرضه هذا أنه يريد مني أن أشاركه الحديث عن أستاذنا السباعي

الذي كنا نحبه سويا، ونتحدث عن روائعه وبطولاته سويا، ونسعى لحضور محاضراته، وخطبه سويا. وذلك أثناء دراستنا في المعهد الشرعي، حيث كنا دائما مع بعض، نأكل سويا، وننام سويا، وتجمعنا قاعات الدرس، وغرف المطالعة، لا نكاد نفترق إلا لنجتمع من جديد-يا سقى الله تلك الأيام-.

وإنها لفرصة عظيمة لي أن أكتب بعضا من ذكرياتي عن أستاذنا السباعي؛ علما بأنني قد قصرت في حقه كثيرا، فلم يسبق لي أن كتبت عنه شيئا، وكنت أؤخر الكتابة دائما لظروف الغربة، التي ما زلنا نعيشها منذ نصف قرن تقريبا على أمل العودة، التي تيسر لنا الحصول على ما نحتاجه من مراجع ووثائق تركناها خلفنا.

ولعل مشاركتي في خدمة مجلة حضارة الإسلام التي أنشأها أستاذنا السباعي، حينما كنت مديرها المسؤول، يشفع لي بعض الشفاعة عن هذا التقصير.

أول معرفتي بالسباعي:

تعود معرفتي بأستاذنا السباعي إلى عام 1950حينما كنت طالبا في الصف الخامس الابتدائي في مدرسة تهذيب الأبناء للجمعية الغراء في التل، حيث قدم لزيارة التل نائبان من مجلس النواب في دمشق: الدكتور مصطفى السباعي، والأستاذ محد المبارك. وكان لمدرستنا

-مدرسة تهذيب الأبناء للجمعية الغراء في التل-فرقة كشفية دأبت على استقبال الزائرين للبلدة. وكنت قائدا لهذ العرض الكشفي، وقد أعد أستاذنا يوسف فرج-رحمه الله-قصيدة في مدح السباعي، وقد طلب إ لي أن أقدم باقة ورد للدكتور السباعي، ثم ألقي القصيدة في مدحه أمام الجمهور، ولم يبق في ذهني من تلك القصيدة إلا نصف بيت وهو: “والسباعي صاحب التبيين”.

ثم ألقى الدكتور السباعي كلمة مؤثرة في الجمهور-الذي خف لاستقباله-كانت لها آثار عملية، من الاستجابة لدعوته، وحركته.

محا ضرات الدكتور السباعي:

 وفي نفس العام أخذت الشهادة الابتدائية، وانتقلت إلى معهد العلوم الشرعية للجمعية الغراء بدمشق، لدراسة المرحلتين المتوسطة والثانوية، وكنت حريصا على حضور محا ضر ات الدكتور السباعي التي كان يلقيها في مركز الشهداء، وفي مركز باب الجابية، وفي مسجد الجامعة، وغيرها من المراكز والمنتديات.

ولما انتقلنا للدراسة في كلية الشريعة بجامعة دمشق كان السباعي عميدا للكلية ومدرسا فيها، كما كان مدرسا في كلية الحقوق يدرس الأحوال الشخصية. وكنا حريصين على حضور محاضراته في كلية الشريعة وكلية الحقوق، وقد نهلنا كثيرا من هذ الينبوع ا لثر، وتأثرنا بمواقفه وبطولاته، كما تأثرنا بكتبه وتوجيهاته.

زيارة السباعي في منزله:

وبعد تخرجنا من الكلية كنا حريصين على زيارته في منزله-بشارع أبي رمانة-بصحبة أستاذنا الدكتور محمد أديب الصالح حيث كان يحثنا دائما على الكتابة في مجلته “حضارة الإسلام”.

وآخر مرة تواعدنا على زيارته-كنا في بيت أخينا الدكتور عدنان زرزور في الميدان-وكنا على وشك الانطلاق نحو منزله، إذ فجأنا خبر وفاته-رحمه الله رحمة واسعة.

شخصية السباعي:

    تعتبر شخصية السباعي شخصية موهوبة متفردة، جمعت كثيرا من المزايا والصفات التي قلما تجتمع في رجل واحد. ولقد تكلم أخي أبو أسامة في كتابه هذ عن شخصية السباعي تحت العناوين الفرعية التالية:

 تمهيد في شخصية السباعي:

– شخصية قيادية عامة، فكرية، وعلمية، وسياسية، واجتماعية.

 -ثقافته ورسالته:

– السباعي مفكراً اجتماعياً:

– في السياسية الوطنية:

– مفكراً سياسياً:

-اهتمامه بالقضية الفلسطينية

– التعاون مع العالم الإسلامي:

-اهتمامه بقضايا المرأة

 خاض غمار الحياة السياسية، والعلمية، والاجتماعية وكان فيها الأبرز والأشهر بين الزعامات المنسوبة إلى تلك الميادين، ولكن الميدان الذي صال فيه وجاهد وجال، إنما كان توعية الناس عامة بهذا الدين”.

والحقيقة أن ما ذكره أخي أبو أسامة عن شخصية السباعي حق لاريب فيه.

 غير أن شخصية السباعي تبقى أكبر من كل ما قيل فيها، ذلك لأن مواهب السباعي، والطاقات التي أنعم الله بها عليه، يتعذر على الباحث حصرها.

بل إن هذه الطاقات المتعددة، تظهر مجتمعة في كل عمل أو نشاط، مارسه السباعي، حتى ليمكن القول إن هذه الطاقات في يد السباعي يحركها كيف يشاء، بل يستطيع أن يوجهها الوجهة التي يريد:

– فإذا وجهها إلى الخطابة:

كان الخطيب المفوه الذي لا يشق له غبار، والذي يثير ببلاغته حماسة الجماهير. ويشهد  لذ لك المنابر والمنتديات، التي كان يخطب فيها، أو يحاضر فيها.

علما بأن هذه الخطب والمحاضرات كانت تسجل على أشرطة –حفظا لها، وطمعا في استماعها عند الحاجة-.

غير أن الظروف التي نزلت بالبلاد، جعلتنا لا نعلم شيئا عن مصير هذه التسجيلات، والتي كنا نرغب أن تطلع عليها الأجيال التي جاءت بعدنا، لأن ما نقوله نحن عن هذه الخطب والمحاضرات لا يرقى أبدا إلى المستوى الذي كنا نشعر به عند سماعنا لها،  وقديما قيل: من ذاق عرف.

-وإذا وجهها نحو التدريس الجامعي:

 كان الأستاذ الجامعي الذي يستحوذ على قلوب طلابه، بما يقدم لهم من اجتهادات جديدة، وأدلة مقنعة، وحجج بالغة.

– وإذا وجهها إلى البحث العلمي والتأليف:

كان مجتهدا في فهم نصوص القرآن والسنة، حريصا أن يقدم فهما جديدا ورؤية متناسبة مع واقع العصر الذي تختلف مشكلاته عن مشكلات العصور السابقة. وبذلك يكون أتى بالجديد النافع الذي لم يسبق إليه.

   – وإذا وجهها إلى الجهاد في سبيل الله:

      كان على رأس كتيبة المجاهدين في الدفاع عن القدس.

   -وإذا وجهها إلى السياسة:

 كان نائب رئيس البرلمان الذي يشارك في صياغة دستور البلاد، ويتكلم باسم الأمة كلها، ويدافع عن حقوق المظلومين والمضطهدين، بل يحاول أن ينصفهم بما يقدم من مقترحات تشريعية.

   -وإذا وجهها إلى الصحافة:

    كان الكاتب الصحفي الذي بدأ ينشر مقالاته الوطنية في مجلة الفتح القاهرية في سن   مبكرة. كما أنشأ جريدة المنار الدمشقية اليومية، وجريدة الشهاب الأسبوعية، ومجلة المسلمون الشهرية، ثم مجلة حضارة الإسلام الشهرية.

ومقالاته في هذه الصحف والمجلات تحتاج أن تجمع في كتاب، لتكون بين أيدي الباحثين والدارسين.

-وإذا وجهها إلى النشاط الإذاعي:

 كان المحدث البارع، والنا قد الاجتماعي الذي يتتبع أخطاء السلوك الخلقي، ويسعى إلى تصحيحه، مراعيا في ذلك كله مستوى السامعين، كما هو الحال في أحاديثه الإذاعية التي جمعها في كتابه “أخلاقنا الاجتماعية”.

 -وهكذا يمكن أن يقال في كل نشاطاته وأعماله الأخر.

وأعود الآن إلى حديثي عن الذكريات:

-لعل أكبر عمل سعى لإنجازه السباعي هو إسهامه في تأسيس كلية الشريعة بجامعة دمشق،

 حيث كان يشعر بالحاجة الملحة –وهو يقود حركة إسلامية-إلى ضرورة دراسة الإسلام دراسة علمية حقيقية، ومن ثم كان حريصا على هذا الصرح العلمي أن يقوم، وأن يسهم في نهضة البلاد.

وقد شعر السباعي بأن ضغوطا تمارس على رئيس الجمهورية-هاشم الأتاسي-أخرت صدور المرسوم، ومن ثم فقد زار القصر الجمهوري، ووقف أمام الرئيس قائلا لن أذهب حتى يوقع المرسوم-ضاربا بيده على الطاولة-حيث انكسر زجاج الطاولة، الأمر الذي أدى إلى اعتقاله. وفي الصباح أفرج عنه، ووقع المرسوم.

عمادة كلية الشريعة:

ويذكر أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا-رحمه الله-أن عمادة كلية الشريعة عرضت عليه، وعلى أمثاله من أساتذة الجامعة، ولكنهم اعتذروا عن ذلك لأنها كلية ناشئة، ومستقبلها مجهول.

فالقبول بمثل هذا العمل ربما يكون مغامرة لا داعي لها. غير أنه قال:

لكن لما عرض الأمر على الدكتور السباعي وافق بلا تردد، وهذا يدل على شجاعته وإخلاصه.

وزارة الأوقاف:

وقد عرض على السباعي أن تكون الكلية تابعة لوزارة الأوقاف-يريدون إبعادها عن الجامعة حتى لا تتأثر بقية الكليات بإشعاعها-فرفض السباعي ذلك، وقال:

 لابد أن تكون في الجامعة. فقالوا له: ليس في الجامعة مكان شاغر. فقال:

نحن في السنة الأولى نحتاج إلى غرفة واحدة.

فلما كانت السنة الثانية قال لهم: نحتاج غرفة ثانية.

 وتكرر مثل ذلك في السنتين الثالثة، والرابعة.

قال السباعي: وهكذا فتحناها غرفة غرفة.

خطة الدراسة:

أما خطة الدراسة التي انتهجتها الكلية، فقد كانت فريدة من نوعها، حيث جمعت إلى مقررات الشريعة التقليدية عددا من مقررات كلية الحقوق، كالقانون المدني، والقانون الجزائي، والقانون الدستوري، والاقتصاد السياسي. كما جمعت عددا من مقررات كلية الآداب، كالنحو والصرف، والفلسفة الإسلامية، والتصوف. بالإضافة إلى مقررات مبتكرة، كمقرر نظام الإسلام، ومقرر حاضر العالم الإسلامي.

والهدف من كل ذلك أن يكون خريج الكلية على درجة من العلم، تسمح له بمعرفة الواقع الذي يريد تنزيل الشريعة عليه، كما تسمح له بمعرفة الشريعة التي يريد تنزيلها على هذا الواقع. وفعلا يشعر خريج الكلية بالثقة والأهلية لمواجهة التحديات التي يمكن أن تواجهه، أو تعترض طريقه، نتيجة دراسته لهذه العلوم المتنوعة.

نظام الامتحانات:

فإذا أضفنا إلى ذلك نظام الامتحانات المتشدد الذي وضعته الكلية، والذي يجعل درجة الامتياز من نصيب المؤلف أو الأستاذ، بينما يحصل الطالب الأول على درجة جيد جدا، والطالب الثاني على درجة جيد عرفنا مقدار الصعوبة التي يواجهها طالب الشريعة.

مشروع للدراسات العليا:

ولما زار الدكتور مصطفى حداد-رئيس الجامعة فيما بعد-كلية الشريعة واطلع على نظامها قال من العجيب أن كلية الشريعة-التي هي آخر الكليات تأسيسا-إلا إنها الكلية الوحيدة في الجامعة، التي وجد فيها مشروع للدراسات العليا منذ تأسيسها.

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على بعد نظر القائمين على تأسيس هذا الصرح العلمي،

  وعلى رأسهم أستاذنا السباعي –رحمه الله وأجزل مثوبته-.

زيارة لرئيس الجامعة:

وبعد وفاة استاذنا السباعي أتيحت لنا فرصة زيارة أستاذنا الدكتور أحمد السمان -رحمه الله – رئيس الجامعة، وعميد كلية الحقوق سابقا-والذي درّسنا مقرر الاقتصاد السياسي-.

وأثناء الحديث جاء ذكر الدكتور السباعي، فقال الدكتور أحمد السمان: أنا ما رأيت مثل هذا الرجل: لما أسست كلية الشريعة بمساعيه، كان أول عميد لها، وقد أعطي من الصلاحيات أن يعين فيها من الأساتذة من شاء بالرتبة التي يشاء-باعتبارها كلية جديدة-والعجيب أن كل الذين عينهم جعل رواتبهم أعلى من راتبه، مع أن القلم بيده، ثم قال: لما توفي السباعي كان راتبه التقاعدي (355) ليرة سورية، يقول الد كتور أحمد السمان: من يفعل هذا في هذا العصر؟

ثم يضيف الدكتور أحمد السمان قائلا:

 لقد أهديته كتابي “الاقتصاد السياسي” وبعد قراءته للكتاب، جاء ليقول لي:

 لقد قرأت كتابك، ولكنني لم أجد فيه إشارة إلى” الاقتصاد الإسلامي”.

فقلت له: وهل هناك شيء اسمه الاقتصاد الإسلامي؟ قال نعم.

 فقلت له ألف لنا فيه كتابا. وسنضيفه بعد ذلك إلى بقية المذاهب الاقتصادية.

فكان أن دعا إلى محاضرة عامة في مدرج الجامعة، يتحدث فيها عن ” اشتراكية الإسلام “.

ثم زاد فيها، وحولها إلى كتاب.

هذه قصة تأليفه لكتاب “اشتراكية الإسلام”، لا كما يدعيه البعض-ممن لا علم له[1]-من أن الكتاب جاء لتسويغ ما فعله عبد الناصر من قوانين الإصلاح الزراعي، والتأميم. علما بأن عبد النا صر قد استغل الكتاب بإعادة طبعه

طبعة شعبية، وتوزيعه على نطاق واسع، ليضفي على قوانينه مشروعية.

 لكن هذا لم يكن من قصد المؤلف أبدا، ولا خطر في ذهنه، بدليل أن المؤلف لما كان نائبا في البرلمان عام1950 سمى جبهته البرلمانية: “الجبهة الاشتراكية الإسلامية” مما يدل أن الفكرة قديمة في ذهنه، ولا علاقة لها بقوانين عبد الناصر.

ولا شك بأن الكتاب أثار جدلا كبيرا بخصوص التسمية، مما جعل المؤلف يعقد الندوات لتوضيح مراده، وقد حضرت له أكثر من ندوة في هذا الموضوع، إحداها كانت:

 في قاعة مكتبة الجامعة:

 حيث شارك فيها عدد من أساتذة كلية الشريعة منهم أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا، وأستاذنا الشيخ المنتصر الكتاني وغيرهم.

وأذكر أن الشيخ الزرقا-الذي كان أكبر سنا من السباعي-قال في تلك الندوة بلهجته الحلبية: ” أنا سأتكلم من باب حصوة بتسند جرة “مشبها نفسه بالحصوة، والسباعي بالجرة.

إلا أن هذه الحصوة-على صغر حجمها تسند الجرة الكبيرة-وذلك من باب التواضع-

 وهو يريد بذلك وقوفه إلى جانب السباعي في ما ذهب إليه من اشتراكية الإسلام.

في منطقة الروضة:

 أما الندوة الثانية فكانت شمال منطقة الروضة-ولا أذكر الآن اسم المنتدى-غير أن أحد الحاضرين قال للدكتور السباعي-بصوت عال-:

إن الإمام أحمد هجا الاشتراكية شعرا-يريد به الإمام أحمد حميد الدين ملك اليمن-.

غير أن السباعي وإن أدرك المراد-إلا أنه تجاهله، وقال متعجبا:

الإمام أحمد بن حنبل؟ فانفجر الجمهور بالضحك.

وكانت هذه عادة السباعي-في خطبه ومحاضراته-إذا وجد الفرصة مواتية لطرفة، فإنه لا يبخل بها على الجمهور، لأنها تجدد النشاط، وتشيع جوا من الرضى.

في كلية الحقوق:

وأذكر مرة أنني كنت أحضر له محاضرة في كلية الحقوق-في مقرر الأحوال الشخصية-وكان الموضوع يتعلق بالزواج المبكر، وكان السباعي من المرغبين فيه، وقال للطلبة:

 إن الذين يتأخرون في الزواج هم إخوان الشياطين-ولم يكن السباعي متزوجا بعد-.

فسأله أحد الطلبة: هل أنت متزوج يا أستاذ؟

فأجابه-وكان سريع البديهة-: أنا أخوكم. فضحك الطلبة، وتجدد نشاطهم.

في قاعة مكتبة الجامعة:

كما أذكر مرة أنه كان يلقي محاضرة عن المرأة-في قاعة مكتبة الجامعة-وقالت له إحدى الطالبات بأن المساواة بين الرجل والمرأة يجب أن تكون في كل شيء.

فقال لها السباعي: تصوري أنك تعملين في إصلاح السيارات، ثم جئت إلى بيت الزوجية مزينة بالشحار، والزيت، والشحوم. فكيف يستقبلك الزوج؟ فهل مثل هذا العمل يناسب المرأة؟

في مستشفى المواساة:

ومن ذكرياتي مع أستاذنا السباعي أنني كنت أزوره في مستشفى المواساة، حينما كان مريضا، وقد منعه الأطباء من مزاولة أي نشاط، حتى لا يؤثر ذلك على صحته.

غير أن همة أستاذنا السباعي كانت أكبر من أن تستجيب لطلبهم، فكان كثيرا ما ينير المصباح

الخافت، ويقوم بتدوين حكمه في كتابه: “هكذا علمتني الحياة” وكانت الممرضة تتعجب من فعله هذا، وتظن أنه عاشق يكتب رسائل الحب، وكان يعطينا ما كتبه من مسودات الكتاب لنبيضه له.

مراعاته مستوى من يخاطبهم:

لما كنا في المرحلة الثانوية: كنا على موعد معه-في مركز الشهداء-في لقاء خاص بالطلبة الثانويين، وبعد ساعتين يكون لقاؤه بالطلبة الجامعيين.

 وقد حضرت اللقاء الأول-باعتباري من الطلبة الثانويين- وقد خطر لي أن أحضر اللقاء الآخر، لأرى الفرق بين اللقاءين.

وقد تحدث مع الطلبة الجامعيين حديثا آخر، بعيدا كل البعد عن حديثه السابق، مراعيا في ذلك مستوى المرحلة الجامعية.

موقفه من العلماء والمشايخ:

  لقد عانى أستاذنا السباعي من مواقف العلماء المعا صرين والمشايخ الشيء الكثير. ومن ثم فقد ذكرهم في كتابه:” هكذا علمتني الحياة” وفي كتابه: “أخلاقنا الاجتماعية” كما ذكرهم في كتابه “اشتراكية الإسلام” بعنوان: “مع المعترضين” أي: الذين اعترضوا على بعض ما جاء في كتابه” اشتراكية الإسلام” مثل الشيخ وهبة سليمان الغاوجي-رحمه الله-وكان أرسل إلى أستاذنا بعض الملاحظات حول كتابه، فما كان من أستاذنا إلا أن نشر هذه الملاحظات-في مجلته حضارة الإسلام-أولا، كما نشر غيرها-ثم رد على الجميع تحت عنوان: “مع المعترضين”، ثم أضاف ذلك إلى الطبعة الجديدة من الكتاب.

 ويحسن بالقار يء الكريم أن يعود إلى الكتاب المذكور ليطلع على الملاحظات، والردود عليها.

ولقد لقيت الشيخ الغاو جي بعد وفاة السباعي بأعوام -في مدينة الشارقة-وتذاكرنا شيئا من هذا الماضي، فلم يسعه إلا أن يقول: لقد كان السباعي عالما كبيرا.

إن ما جاء في كتب السباعي-حول العلماء-جدير أن يكون تحت الأضواء، وبخاصة في هذه المرحلة التي سقط فيها كثير من المنتسبين للعلم-ابتغاء عرض قريب، أو خوفا من طاغية مستبد-ليعرف المسلمون مواقع أقدامهم في هذا المعترك الهائج، الذي انزلقت إليه الأمة، والذي جعل حياتها جحيما لا يطاق.

ومن هنا نرى من واجبنا: أن نقتطف بعض القطوف من كتب السباعي، حول العلم والعلماء:

يتحدث السباعي في كتابه “هكذا علمتني الحياة” عن صنوف العلماء، وصنوف العلوم ، وعلوم المجتمع، وما يتصل بذلك فيقول:

صنوف العلماء:

العلماء ثلاثة:

 -فعالم ابتغى وجه الله والدار الآخرة، فهذا كالزهر العبق يسرك منظره، وتنعشك رائحته.

 -وعالم ابتغى مع الدار الآخرة الدار الدنيا، فهذا كالورد، فيه مع الرائحة الجميلة، بعض الأشواك التي لا تؤذي غالباً.

– وعالم لا يريد إلا الدنيا، فهذا كالشوك في الأرض الجرداء، لا فائدة منه إلا أن يكون وقوداً للأفران.

صنوف العلوم:

العلوم في أهدافها ثلاثة:

 -فعلم للدار الآخرة، فإن صحِبته النية الخالصة نجَّى من النار.

– وعلم للدنيا، فإن صحِبته العزيمة الصادقة، نجَّى من الفقر.

– وعلم للهو، ففيه المهانة في الدنيا، والهلاك في الآخرة.

العلوم للمجتمع:

العلوم للمجتمع ثلاثة:

-علوم الفقراء: وهو ما تحتاج إليه الأمة الضعيفة لتستوي على قدميها، كعلم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وما أشبهها.

-وعلوم الأغنياء: وهو ما تحتاج إليه الأمة القوية، لتستمر في أداء دورها الحضاري، كعلوم الذرة والفضاء، وكل ما يؤدي إلى تطور المكتشفات والمخترعات.

-وعلوم المترفين: وهو ما يشغل به بعض أبناء الأمم القوية أنفسهم من بحوث لا تزيد في تطور الحضارة، ولكن توسع آفاق المعرفة النظرية، كأبحاث علم النفس الحيواني، من عواطف الحب عند الحيوانات، ودقائق معيشتها وما أشبه ذلك.

-وبعض الناس عندنا يريدون أن نكون من المتخمين، وبطوننا خاوية-.

النباهة بين العلماء:

إذا أردت أن يكون لك شأن بين العلماء، فتخصص في فرع من فروعه، وشارك بقدر ما تستطيع في فروع الثقافة العامة.

تواضع العلماء:

من أبرز أخلاق العلماء: تواضعهم، فإذا رأيت فيهم مغروراً متكبراً، فثق بأن عنده من الجهل بقدر ما عنده من الكبر والغرور.

من ثمرات العلم:

من أبرز ثمرات العلم: التصاون واحترام النفس، فمن وجدته يفعل ما لا يليق، ويهين نفسه لأهل الجاه والنفوذ، فثق بأنه أرض بور، لا تثمر ولا تزهر.

ما لا يتم علم العالم إلا به:

ثلاثة أشياء لا يتم علم العالم إلا بها: قلب تقي، وفؤاد ذكي، وخلق رضي.

رسلة العلماء:

أما ما جاء في كتابه ” أخلاقنا الاجتماعية”: فكان بعنوان: “رسالة العلماء”:

 -وهذا الفصل لم يذع من الإذاعة السورية-كما هو شأن الفصول السابقة-وهو في غاية الأهمية. ولعل من المناسب أن نقتطف منه بعض ما جاء فيه:

لقد قدم لهذ الفصل ببعض الآيات، والأحاديث، والأقوال المأثورة عن السلف الصالح:

﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ (2).

إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين وألهمه رشده (3).

العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم(4).

من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا،

لم يجد عرف الجنة (يعني ريحها) (5).

ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار (6).

مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه (7).

إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره. ولكن اتخوف عليكم منافقاً عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون (8).

صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والفقهاء «الأصمعي».

قيل للشعبي: أفتني أيها العالم! فقال: إنما العالم من اتقى الله!

لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا على أهلها.

                                                   «عبد الله بن مسعود».

العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلب كما يزل الماء عن الصفا.

                                                         «مالك بن دينار».

كان العلماء ربيع الناس، إذا رآهم المريض لم يسره أن يكون صحيحاً، وإذا نظر إليهم الفقير لم يود أن يكون غنياً، وقد صاروا اليوم فتنة للناس.

                                                        «الفضيل بن عياض».

إن من شيوخي من استسقى بهم المطر، ولا أقبل حديثهم (أي لغفلتهم يأخذون عن الكذابين).

                                                        «مالك بن أنس».

 سئل خالد بن صفوان عن الحسن البصري فقال: كان أشبه الناس علانية بسريرة، وسريرة بعلانية، وآخذ الناس لنفسه بما يأمر به غيره، يا له من رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم، واحتاجوا إلى ما في يديه من دينهم.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه: أي رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له! فقال له: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض؟

   وبعد هذه النصوص المقتبسة يقول أستاذنا:

هذه كلمات من كتاب الله وحديث رسوله والسلف الصالح، تحدد مهمة العالم ورسالته وأخلاقه، وما ينبغي أن يكون عليه بينه وبين الله، وبينه وبين الناس.

 ونستطيع أن نوجز القول في رسالة العالم بأنها:

 فهم الشريعة وتفهيمها، وحفظها على الناس من تحريف المبطلين، وعدوان الظالمين.

 ونستطيع أن نوجز القول في خلق العالم بأنه:

 خشية من الله، وإشفاق على الناس، ونصح لأولي الأمر، ووقوف في وجوه الطغاة، وتجرد عن حظوظ النفس وشهواتها، ويقظة في مداخل الأمور ومخارجها، واستهانة بالأخطار في سبيل الله عز وجل.

ولقد كان سلفنا الصالح منذ عصر الصحابة والتابعين فمن بعدهم، تغلب في علمائهم هذه الصفات، فكانوا مبعث خير، ومصابيح هداية، وأدلة طريق.

-كانوا كما قال أحمد في الشافعي-: «كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن».

 وما بلغوا هذا المبلغ في أمتهم إلا لأنهم كانوا كما قال خالد بن صفوان في الحسن البصري: «أشبه الناس علانية بسريرة، وسريرة بعلانية».

والمسلمون لا يفتقدون علماءهم كما يفتقدونهم في حالتين:

 جهل بالدين، وعدوان عليه.

فإذا كان الجهل: كانوا ألسنة الحق، التي تكشف الشبهات، وتزيح المفتريات.

وإذا كان العدوان: كانوا ألسنة الصدق التي تضع الأمور في مواضعها، فلا ضعيف يُظلم، ولا فقير يُهان، ولا شعب يُضطهد، ولا طاغية يتأله.

ثم كانوا من وراء ذلك: الحكمة التي ترد للمجنون عقله، والقوة التي تكبح في الطاغية طيشه، وبذلك كانوا: كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس.

وبعد هذ الاستهلال يقول أستاذنا السباعي:

أما وقد تحدثنا عن مختلف مظاهر الضعف في أخلاقنا الاجتماعية، فقد وجب أن نمسَّ برفق وحذر، أخلاق علمائنا في العصر الحاضر، وموقفهم من أرزاء المجتمع ومشكلاته، وصفاتهم التي تقربهم أو تبعدهم عن أخلاق صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وأخلاق صحابته وعلماء الصدق والتقى في تاريخ الإسلام.

ثم يقول: قد لا نخطئ الصواب حين نصنف علماءنا اليوم إلى خمسة أصناف:

الصنف الأول:

علماء أبرار أتقياء، مخلصون لله في عبادتهم وعلمهم، ولكنهم منعزلون عن الدنيا، لا يعرفون من مشاكل المسلمين قليلاً ولا كثيراً.

 وتراهم أشبه ما يكونون بعلماء الإسلام في المئات الأخيرة من السنين، حين غلب عليهم التصوف السلبي الانعزالي، فإذا هم يرون النجاة والقرب من الله، في البعد عن الدنيا وعن أهلها وعن أحداثها.

وهذا ما أدى بالمسلمين إلى أن يقعوا فريسة للطغاة والظالمين في تلك العصور، إذ ترك هؤلاء العلماء مهمة الدفاع عن حقوق المسلمين وكرامتهم وعقيدتهم، فعاث الطغاة فساداً دون أن يجدوا من يذكرهم بالحق، ويردهم إلى الخير، ويخوفهم نقمة الشعب أن لجوا في العدوان المبين، كذلك فعل أسلافهم من قبل، وكذلك هم يفعلون اليوم.

ولا أدري هل يذكرون في عزلتهم ما أوجب الله على العلماء من النصح والتعليم والهداية والذب عن حرمات الله؟

أم يتأ ولون ذلك كله على ضوء بعض الأحاديث التي تحث على العزلة، وما لأكثرها أصل في السنَّة، ولظاهر الصحيح تأويل يتفق مع مبادئ الشريعة وقواعدها، ولست أدري كيف يفعلون بقول الله عز وجل:

﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ( 1).

ولمن يتركون القيام بهذا العبء إن هم سمحوا لأنفسهم أن يتخلوا عنه؟

 وهل تراهم نسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» ( 2)؟.

إن القيام بالنصيحة والتعليم والدفاع عن الإسلام هو أفضل عند الله من نوافل العبادة..

ولقد فهم المسلمون الأول هذا على حقيقته، فما استباحوا لأنفسهم أن ينقطعوا عن الناس إلى العبادة-مع كثرة الخير، وقلة الشر في عصورهم-. فكيف في عصرنا هذا؟

قال شهاب بن عبد الله الخولاني:

خرج سعد – وكان من أصحاب يعلى بن أمية – حتى قدم على عمر المدينة، فقال:

 أين تريد: فقال: الجهاد.

 فقال له عمر: «ارجع فإن عملاً بالحق جهادٌ حسن» (1).

 فهذا قول عمر في عالم يخرج للجهاد.

فكيف بمن يعتزل الناس، ويؤثر العافية على البلاء، والسكينة على الجهاد، والسكوت على النصيحة ؟…

وما كان عمر بالذي يرى العمل بالحق خيراً من الجهاد، لولا أنه علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهمه من فقه الدين وتشريعه.

قال أبو هريرة: «غزونا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عُيينة طيبة الماء غزيرة، فقال واحد منا: لو اعتزلت الناس في هذا الشعب! ولن أفعل ذلك حتى اذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره للرسول صلى الله عليه وسلم فقال له:

” لا تفعل. فإن مقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته في أهله سبعين عاماً » (2)..

ألا ليت علماء الشريعة المعتزلين أمتهم فلا ينصحون ولا يردعون..ليت هؤلاء ذكروا دائما هذه القاعدة الخالدة من قواعد الإسلام :

 “إن مقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته في أهله سبعين عاماً»

الصنف الثاني:

أوفياء للإسلام يغارون عليه، ولكنهم طيبوا القلوب، حسنوا النية، يمنحون صبغة

 «التدين» لكل من يتقرب إليهم بتقبيل يد، أو طلب دعوة، او حضور مجلس ذكر.

وكم رأينا من استطاع من خداع هذا الفريق المخلص من علمائنا، فأوصلوه إلى مقاعد الحكم وندوة النيابة، ودعوا إلى تأييده في الانتخابات، وخطبوا له في المساجد، وهتفوا باسمه في المجالس، وأوسعوا له المديح فيما يكتبون ويتحدثون.. وهو من أشد الناس بعداً عن الإسلام وأخلاقه، وأكثرهم ميلاً إلى خصومه وأعدائه.

 ولقد كان قليل من الحذر واليقظة-لدى هذا النفر من العلماء-كافياً لأن يجنب المجتمع سيطرة أمثال أولئك المخادعين المتاجرين بالدين..

ولكن أنى لهم ذلك، وهم قوم تغرهم المظاهر، ويخدعهم تقبيل الأيدي، وانحناء الظهور، والتماس البركات؟

وأشد ما يؤلم النفس أن تراهم وهم يحوطون هؤلاء المخادعين المتاجرين بالإسلام بالحب والتأييد، لا يألون جهداً في مهاجمة المصلحين، وتأليب الجماهير عليهم، وتخذيل الناس عن تأييدهم، ولا يتورعون ان يصفوهم بالمروق وقلة الدين والاستغلال!

إي والله .. المتاجرون بالدين هم أهل الدين والتقوى عند هؤلاء. والمنافحون عنه والمتحملون عداوة الأشرار والملحدين في سبيله، هم أهل الاستغلال والمروق والإلحاد!.

و والله ما نظلم القوم فيما نتحدث عنهم:

﴿ وما شهدنا إلا بما علمنا ﴾ وإن ضحاياهم من دعاة الإصلاح ما يزالون احياء يرزقون، ومن أركبوهم فوق ظهور الناس لا يزالون فجاراً يعبثون.

ويرحم الله عمر الذي كان يقول: «لست بخب والخب لا يخدعني».

وإذا كان مالك رحمه الله يقول:

«إن من شيوخي من أستسقي بهم المطر، ولكني لا أقبل أحاديثهم» لغفلتهم وانخداعهم بالناس، فهل ترى من مصلحة الإسلام والمسلمين أن يفسح لأمثال هؤلاء أن يسهموا في قيادة الجماهير، أو يتدخلوا في السياسة، أو يوجهوا أمور الدولة؟!

لقد كنا ننكر على من يقول ذلك، ونعتبره حرباً على الإسلام و المسلمين..

 أما الآن فاللهم لا!، اللهم لا !..

الصنف الثالث:

علماء غيورون على الدين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكنهم يغفلون عن روح الشريعة ورسالتها الاجتماعية.

 إنك لتراهم يعنون بالصلاة والصيام وشعائر الدين دون غيرها من مقاصد الشريعة، وهم لا يهتمون بها على أنها مدرسة لتعليم الناس وتهذيب أخلاقهم واستقامة سيرتهم كما يتحدث القرآن عنها:

 ﴿ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾( 1)

 ولكنما يعنون بها كما تقع من الناس اليوم: طقوساً باهتة لا تهذب خلقاً، ولا تطهر روحاً. ومن أجل ذلك تراهم يرضون عن الرجل يصلي معهم في المساجد، ويسرع إلى إجابة النداء، وهو آكل للربا، ظالم للناس، معتد على أموالهم، مستغل لجهودهم.

إنهم يرضون عنه كل الرضى إذ يرونه صائماً يعظم العلماءء.. وهو سفاك هتاك للأعراض والحرمات.. كأن هذه الصلاة يريدها الإسلام ستاراً للخداع والتضليل، أو كفارة عن الجرائم الاجتماعية الكبرى..

إنهم يغفلون عن حديث يرددونه في حلقاتهم العلمية كثيراً، حديث تلك المرأة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: انها تقوم الليل، وتصوم النهار، ولكنها تؤذي جيرانها! فقال عليه السلام: «هي في النار» (2).

وينسون ما يرددونه في خطبهم ومجالسهم من:

«أن امرأة دخلت النار فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا فلَا هي أَطْعَمْتها، وَلَا هي تركتهَا تَأكل مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» ( 3).

ومن العجيب أن غيرتهم على الدين تحملهم على إنكار المنكرات الفردية التي تقع من بعض الناس، فينكرون على من يلبس الخاتم من الذهب –وهو حرام في الشريعة – ولا ينكرون على الحاكم الذي يرتشي، والغني الذي لا يزكي، والنائب الذي لا يبالي بكرامة الشعب وصيانة حقوقه.

ولو سألتهم-وهم العلماء بالشريعة-: أيهم أعظم إثماً عند الله:

  – من يرتكب معصية التختم بالذهب؟

 أم معصية الذي يأكل الحقوق، ويخون الشعب، ويظلم عماله وفلاحيه؟

 لما حاروا جواباً، ولما وجدوا بداً من الاعتراف بأن الآثام الاجتماعية، التي تتعلق بحقوق الشعب أكبر جريمة عند الله من الآثام الفردية، التي لا تؤذي إلا صاحبها.

وهؤلاء مع اهتمامهم بالحقير الصغير، وغفلتهم عن العظيم الخطير من شؤون الأمة، جامدون في فهم نصوص الشريعة، يستمدون أحكامها من كتب المتأخرين، على أنها شريعة انزلها الله لا يجوز البحث فيها أو العدول عنها، ولو تغير العرف وتبدلت المصلحة، وأصبحت دنيا الناس اليوم غير دنياهم بالأمس!..

وإذا طلبت إليهم أن يعملوا عقولهم وفقههم في نصوص المتأخرين على ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها العامة، ولَّوا عنك وجوههم وهم يصرخون: أنت رجل تريدنا على أن نجتهد؟ لقد أغلق باب الاجتهاد!

 وما نحن بالذين نريدهم على أن يكونوا مجتهدين-كأبي حنيفة، والشافعي-ولكنما نريدهم فقهاء بشريعة الله فاهمين لمقاصدها، لا حفّاظاً للفروع الفقهية من غير نظر وتدبر.

نريدهم ان يعيشوا في زمنهم لا في زمن الماضين، وأن يفهموا عادات قومهم وبلادهم لا عادات الغابرين الأقدمين، وهم يعلمون قبل غيرهم ان الأحكام المبنية على عرف تتغير إذا تغير العرف، وأن كثيراً من أحكام الفقه نصوص اجتهادية استنبطها الفقهاء على ضوء الأعراف والعادات القائمة، وهم كانوا يعلموننا في حلقات دروسهم:

 «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان».

 وأن كثيراً من وجوه الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه-وهم في عصر واحد-.

 فكيف لا يكون ذلك بيننا وبين الفقهاء الذين باعدهم الزمن عنا مئات من السنين ؟..

وأشد هؤلاء غفلة وأقتلهم جموداً، من يحرصون على السنن والمندوبات، ولا يبالون بالفرائض والمحرمات، فلا همَّ لهم حين يجتمعون إلى الشباب إلا أن ينكروا عليهم حلق لحاهم وكشف رؤوسهم وتصفيف شعورهم، قبل أن يهتموا بحفظ عقائدهم وصيانة إيمانهم.

وإذا ساق القدر إليهم شاباً ذا نزعة دينية كان أول ما يحملونه عليه أن يطلق لحيته، ويعفِّر شعره، ويعتزل الناس، وينصرف إلى المساجد، ويكثر من الأذكار والأوراد.

 وأنا لا أنكر أن اللحية ودخول المساجد وذكر الله من آداب الإسلام وسننه.

 ولكني أنكر أن نقتلع شبابنا من عصرهم الذي يعيشون فيه، لنغرسهم مع الموتى قبل مئات السنين!

إن عصرنا الذي نعيش فيه عصر حركة وعمل وتطور عجيب سريع، فلا يتحمل منا هذه البلادة المتزمتة، ولا هذه الروحانية السلبية، ولن يحتمل الشباب هذا الجو مهما استجابوا له أول الأمر، ولا بد من أن يغلبهم الزمن ويجرفهم التيار، فإذا لم نهيئهم له كانت النكسة شديدة، والردة قاسية مؤذية..

وقد شاهدنا هذا فيما رأيناه من بعض الشباب الذين انجرفوا في تيار الروحانية المتبلدة السلبية، فإذا هم بعد حين من أفجر الشباب وأشدهم كرهاً لتعاليم الإسلام وأدبه الراقي الكريم!..

الصنف الرابع:

علماء فجار أشرار، يتكسبون بالدين، ويتاجرون بالشريعة، ويتقربون إلى كل فاجر وطاغية وظالم وسارق بالتأييد والدعاء… وكم ابتلي الإسلام بأمثال هؤلاء! وكم كانوا عليه نكبة في تاريخه القديم والحديث!

أو ما بلغك عن شيخ الأزهر الذي أفتى بكفر الإخوان المسلمين وإخراجهم من حظيرة الدين؟ أو ما بلغك عنه أنه أيد إلغاء المحاكم الشرعية، وذهب إلى الطاغية يهنؤه على هذه الخطوة التقدمية؟

أوما رأيت كيف يسارع بإصدار الفتاوى إلى الطغاة بمهاجمة خصومهم من دعاة الإسلام والحق والفضيلة، بينما هو يسكت عن جرائم التحلل الأخلاقي الذي ينشره الظالمون، وعن مهاجمة الإسلام والأزهر – الأزهر الذي يأكل شيخه باسمه ويعيش من ورائه – ذلك لأنه فيما يهاجم وفيما يسكت، إنما يتوخى رضا الحاكم المستبد، ويخشى غضبه وسطوته؟

فأية قيمة لعلم يَلعن صاحبه في الدنيا ويورده في الآخرة عذاب الجحيم؟

أية قيمة لعلم يجعل صاحبه كالحذاء في رجل الحاكم الظالم، يلبسه متى يشاء، ويخلعه متى يشاء؟

أية قيمة لعلم يأكل به صاحبه دينه قبل أن يأكل دين الشعب، ويدوس به كرامته قبل أن يسمح للطغاة أن يدوسوا كرامة الناس؟

يرحم الله محمد بن واسع ما أعظم فقهه في دين الله حين كان يقول:

«لأن تطلب الدنيا بأقبح مما تطلب الآخرة، خير من أن تطلبها بأحسن مما تطلب به الآخرة!…»

إي والله! لذلك الفاسق الفاجر الذي يرتكب كل معصية لتكون له الأموال واللذات.. أقرب إلى الله من ذلك العالم الفاجر الذي يمشي في ركاب الطغاة، ويمرغ وجهه على أعتاب الظالمين، ليضمن رئاسة أو جاهاً، أو ليتأثل مالاً أو متاعاً..

وفي بعض الآثار: إن الزبانية لأسرع إلى فساق حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان، فيشتكون إلى الله، فيقول: ليس من علم كمن لم يعلم!..

وليست جريمة هؤلاء في أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ويغضون عن جرائم الظالمين بالرئاسة أو الوزارة أو الوظيفة، ويرقصون على جثث إخوانهم من دعاة الإسلام، وينعمون على حساب بؤسهم وتشردهم واضطهادهم، كما يقول المثل العربي «نَعِم كلبٌ ببؤس أهله»..

ليست جريمة هؤلاء في هذا فحسب.

 بل الجريمة في رأينا: أنهم خانوا الله ورسوله وأمانة المسلمين، خانوا أمانة الأمة فباركوا اللص، وقد كان من حقها عليهم أن يمسكوه متلبساً بالجريمة، ثم لا يفلتوه إلا بالعقاب،

أو المتاب!

وأيدوا «الجزار» وقد كان من حقها عليهم أن ينتزعوا منه السكين، لا أن يشحذوها لتكون أمضى في رقاب العابدين والمصلحين والمجاهدين.

 وانتصروا للطغيان وقد كان من حقها عليهم أن يثوروا في وجهه، ليحملوه على الاستقامة، أو يسلموه إلى الهزيمة.

فإن لم تكن في أعصابهم: دماء الثائرين.

 فلتكن في نفوسهم عزة الرجال، حين يرادون على الضيم فيقولون: «لا».

فإن فقدوا في أعصابهم جرأة الأبطال، وفي نفوسهم كرامة الرجال.

 فهلا حياء كحياء النساء المصونات ينأين بسمعتهن عن معاشرة الدُّعَّار ونظرات الأشرار ؟!

وحين يخون هؤلاء – وهم يلبسون لباس الدين – أمانة الشعب ويتعاونون مع جزاريه ولصوصه، يكونون أسوأ دعاية للدين في أوساط الملحدين، وأكبر عامل على يأس الناس من دينهم وتحولهم إلى عقيدة أخرى تنقذهم من الظلم والعبودية..

فماذا ينفع الدين بعدئذ أن يدعو هؤلاء إليه، ويسخروا أقلامهم لنصرته، ولو كانت لهم فصاحة سحبان، وعلم أبي حنيفة، وأدب ابن المقفع ؟ !..

ومن الذي يصدقهم بعد ذلك في الإيمان بما يقولون وما يدعون، وأعمالهم كانت تكذبهم وتستنزل عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ؟..

الصنف الخامس:

علماء مصلحون يفهمون الشريعة على أنها نظام للمجتمع، وإسعاد للناس، وتحرير للجماهير، وهؤلاء-على ندرتهم-يُقاوَمون من الأصناف الأربعة السابقة من العملاء، كما يُقاومون من أعداء الإسلام ودعاة الإباحة. بل إن الحرب التي يشنها أولئك العلماء على هؤلاء المصلحين أشد وأنكى وأضر بالإسلام والمسلمين من حرب الملحدين والمتحللين.

ولقد رأينا بأعيننا كيف تشن عليهم الحملات الظالمة من فريق المتزمتين والمعتزلين والمتجرين بالدين وأعوان الظلمة والطغاة، بما يوهن الصف الإسلامي، ويفتح فيه الثغرات لأعداء الإسلام، وأعداء الشعب على السواء.

إن في سجون مصر الآن علماء يقطعون الأحجار، ويلبسون ثياب المجرمين، ويعاملون بالزراية والمهانة، لأنهم فهموا العلم جهاداً ونصيحة وتعباً ومعاملة مع الله عز وجل.

 فإذا رأوا المنكر أنكروه، وإذا التقوا مع الجاهل نصحوه، وإذا ابتلوا بالظالم وقفوا في وجهه ليردوه ويهدوه.

 وإذا كانوا مع مستغلي الشعب من أغنياء وزعماء ورجال أحزاب، واجهوهم بالحق الذي جعله الله أمانة في أعناق الذين أوتوا العلم.

هذه هي جريمتهم التي زجوا من أجلها بالسجون، وقيدت أرجلهم بالحديد، وسيقوا إلى مقالع الأحجار، كما يساق القتلة واللصوص والأشرار والمجرمون!

ويا ليتهم سلموا من ألسنة إخوانهم من علماء الدنيا الذين سخرهم الطغيان ليخدعوا الناس باسم الدين، فإذا هم أداة تخدير للشعب، وزراية بالعلماء المصلحين، وتمجيد للفسقة والمغتصبين.

لقد كان ما يلقاه أولئك المصلحون المعذبون ممن يتسم بسمة العلم، أشد مما يلقونه من ألسنة الجاهلين وسياط السفاحين!..

وهؤلاء العلماء المصلحون غرباء عن مجتمعهم، غرباء عن جماعتهم، غرباء عن حكامهم ورؤسائهم، يحملون من هموم الشعب ما لا يحمله رجال السياسة مجتمعين، ويعيشون في أوساط الشعب عيشة تشبه عيشة الأنبياء والقديسين.

فهل سلمت لهم بعد ذلك أعراضهم وكراماتهم، هل سلم دينهم من تحامل المتطفلين على الدين الآكلين به؟ هل سلمت سيرتهم من تشويه الأقلام المستأجرة من كتاب وصحفيين؟

هل سلمت حياتهم من التهديد بالقتل والاغتيال والسجن والتشريد من قبل الطغاة أو الساسة المتحكمين؟..

هؤلاء-على قلتهم ومحنتهم، والعداوات التي تحيط بهم-: هم وحدهم الأمل المرتجى لنهضة الأمة وتحررها وانعتاقها، من الفوضى والجهل والخمول، والاستغلال والاستعباد..

هؤلاء هم الذين يعيشون في مجتمعنا: كالروح للجسم، والهواء للرئتين، و«الشمس للدنيا، والعافية للناس»…..

وبعد: فهذه ذكرياتي عن أستاذنا السباعي-نضر الله وجهه، وأعلى في جنان الخلد منزلته-.

وتلك شذرات من أقواله وأفعاله وبطولاته، أرجو الله أن تكون قدوة لشبابنا الذين لم يروه، ولم يستمعوا إلى خطبه وحسن بيانه، ولم تكتحل أعينهم برؤيته، وهو يحمل هم الأمة على كاهله،

لم يمنعه من القيام بالواجب مرض نزل به. بل كان أثناء المرض يتابع نشاطه في الجامعة، بهمة علية، ونفس رضية، وهو يصول ويجول في ميدان الدعوة بقلمه، ولسانه، وسنانه.

 لقد كان السباعي قائدا بالفطرة، وعالما ربانيا، أنجز الكثير في عمره القصير. فسلام عليه في الخالدين” مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا “-جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم-وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن في عدد من الجامعات.

الهوامش:

[1]   من هؤلاء الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله-

اترك تعليق

  1. يقول أيمن خير الله:

    أستاذي الكبير فضيلة الدكتور أحمد حسن فرحات …

    جزاكم الله خير الجزاء على ما كتبتم عن أستاذكم العالم المجاهد مصطفى السباعي رحمه الله ..

    كلمات نيرات أكبر من مجرد تقديم لكتاب .. لقد أمتعتم القلوب والعقول معا بحسن بيانكم، وصدق عاطفتكم، وعمق أفكاركم.. لقد غصتم فأخرجتم دررا نادرة، وقطفتم فوائد ما كان لنا أن نحصّلها لو لم تسطّروها .. فبارك الله بكم وجعلكم نورا ينير الدرب للباحثين عن الطريق …

    ولقد أحسنتم أيما إحسان في نقلكم لجواهر مباركة من كلام السباعي.. تأثرَتْ بها القلوب، وذرفتْ لها العيون.. فلله درّه ما أندر ما يجود الزمان بمثله !!

    أكرمكم الله سيدي ورضي عنكم .. وأعاننا على الوفاء ببعض حقكم 💐

    تلميذكم المحب/ أيمن حسن خير الله

  2. يقول صلاح خليل:

    بارك الله فيكم ونفع بكم وزادكم علما

  3. يقول تلميذكم: أحمد الشتيوي:

    جزاكم الله خيرا دكتورنا الحبيب على هذا التقديم الموفق والذي من خلاله أحببنا هذا العلم الشامخ والبطل المجاهد اللامع، كما حببنا تقديمكم هذا في الاطلاع على باقي كتبه الشيخ وأعماله، أسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته آمين.