رؤية العالم: بعض التدبر في ألفاظ “الرؤية” في القرآن الكريم

بقلم أ.د. فتحي حسن ملكاوي

قلنا إنَّ عبارة “رؤية العالم” تتكون من كلمتين، هما من كلمات اللغة العربية الفصيحة والواضحة الدلالة، وقد استعرضنا شيئاً من حضور لفظ “العالَم” في معاجم اللغة وفي القرآن الكريم والتراث الإسلامي. أما مشتقات كلمة “رأى” وما يتصل بها من النظر والبصر فإنَّ البحث عن حضورها في اللغة وفي القرآن الكريم يفيد كثيراً في بيان المعنى المركب لعبارة “رؤية العالم” ودلالة هذه العبارة مفهوماً ومصطلحاً، ويقدّم استعمال هذا المصطلح على غيره من المصطلحات التي تستعمل أحياناً للدلالة على المفهوم الذي يتضمنه.

جاء في لسان العرب، “رأى: الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ تتعدى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين، … ورأى رأياً، ورؤية، … وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الرُّؤْيَةُ النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ، … وَيُقَالُ: رَأَى فِي الْفِقْهِ رَأْيًا. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ (أَرَأَيْتَكَ وَأَرَأَيْتَكُمْ وَأَرَأَيْتَكُمَا)، وَهِيَ كلمة تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ الِاسْتِخْبَارِ، بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَأَخْبِرَانِي وَأَخْبِرُونِي… وَيُقَالُ: رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي رُؤْيَةً وَرَأَيْتُهُ رَأْيَ الْعَيْنِ، أَيْ: حَيْثُ يَقَعُ الْبَصَرُ عَلَيْهِ … وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: تَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ؛ … أَيْ: تَكَلَّفْنَا النَّظَرَ إِلَيْهِ، هَلْ نَرَاهُ أَوْ لَا… والرُّؤْيَا: مَا رأَيْتَه فِي مَنامِك…” فتحي
وفي لسان العرب كذلك: “قال بعْضُهم: أَلَمْ تَرَ؛ أَلَمْ تُخْبِرْ، وتَأْوِيلُه سُؤَالٌ فيهِ إِعْلامٌ، وَتَأْوِيلُهُ أَعْلِنْ قِصتَهُم، وقَد تكرَّر في الْحدِيثِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فُلَانٍ، وَأَلَمْ تَرَ إلى كذَا، وهيَ كلِمَةٌ تَقولُهَا العَربُ عنْد التَّعجُّبِ مِن الشَّيْءِ، وعنْدَ تَنْبِيهِ الـمُخَاطَبِ، كقولِهِ تَعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ (البقرة: 243) … والتَّرَائِي: تَفَاعُلٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ. يُقالُ: تَرَاءَى القَومُ إِذَا رَأَى بعضُهُم بَعْضًا. وَتَرَاءَى لِي الشَّيْءُ أَي: ظهَرَ حتَّى رأَيْتُه… وفي حَدِيثِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ: “وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ”. يُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ. وَالرَّأْيُ: الاعْتِقَادُ، اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَالْجَمْعُ آرَاءٌ…. أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ): يُرَاءُونَ النَّاسَ وَقَوْلُهُ: يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ… مَعْنَاهُ إِذَا أَبْصَرَهُمُ النَّاسُ صَلَّوْا، وَإِذَا لَمْ يَرَوْهُمْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ (الأنفال: 47) وَهُوَ الْمُرَائِي، كأَنَّهُ يُرِي النَّاسَ أَنَّهُ يَفْعَلُ وَلَا يَفْعَلُ بِالنِّيَّةِ.” (ابن منظور، لسان العرب، ج 14، ص291-304).

فالرؤية في معاجم اللغة تعني هذه الأمور المتعددة، ونجد مثل هذا التعدد في المعنى في القرآن الكريم كذلك، فمنه الرؤية بالعين، حيث تنظر إلى الأشياء فتبصرها، مثل قوله تعالى: “وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد” (بالنمل:20). وقوله سبحانه: “أرنا الله جهرة” (النساء: 153). والرؤية بالقلب فهماً ويقيناً كما في قوله تعالى: “ما كذب الفؤاد ما رأى” (النجم: 11). وقوله عزّ وجلّ: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا”(يس: 71)، فالرؤية هنا رؤية قلبية تعني العلم بأنَّ الله هو الخالق، فلا أحد رأى بعينيه كيفية ذلك الخلق، يقول تعالى: “ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم” (الكهف: 51)، وفي مثل ذلك يقول ابن القيم: “وهو تَبْيينُ الحقِّ وتمييزُهُ من الباطلِ بأدِلَّتِهِ وشواهدِهِ وأَعْلامِهِ، بحيثُ يصيرُ مشهودًا للقلبِ كشهودِ العَيْنِ للمرئيَّاتِ.” (ابن القيم في مدراج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق ناصر السعودي ج1، ص 260). وقوله سبحانه: “ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد (سبأ: 6) جاء في التحرير والتنوير عن هذه الآية: هذه “شهادة أهل العلم… والرؤية علمية. واختير فعل الرؤية هنا دون (ويعلم) للتنبيه على أنَّه علم يقيني بمنزلة العِلم بالمرئيات التي علمها ضروري.” ( ابن عاشور. التحرير والتنوير، ج 22، ص 144-145.)

والرؤية: تكوين الرأي، بعد النظر في الأدلة، في مثل قوله سبحانه: “إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله” (النساء: 105). وتأتي الرؤية بمعنى الظن والتخيل والحسبان، في مثل قوله تعالى: “وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.” (الحج: 2)

واستعمل القرآن لفظ الرؤية في مجال المناظرة والحجاج مع المشركين، من باب ذكر احتمال وجود العلم بأمر معين والتفكير في النتيجة المترتبة عليه، فاستعمل لذلك لفظ “أرأيتم” في مثل قوله تعالى: “قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (الأحقاف: 4)، وقوله “قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ۖ إن الله لا يهدي القوم الظالمين” (الأحقاف: 10″ وقوله تعالى: “قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد.” (فصلت: 52)

وتعني الرؤية الإخبار والإعلام، في مثل قوله تعالى: ” أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِ” (البقرة: 258) فهذا إخبار وإعلام، ومثله كثيرٌ في القرآن الكريم، فهي رؤية بمعنى العلم الذي يخبر به الله سبحانه على حقائق تاريخيه حصلت في الماضي. ومن الإشارات إلى الرؤية بمعنى التفكر والتدبر في الحاضر قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ” (الحج: 63)، وقوله سبحانه “أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ.” (الشعراء: 7-8)، فهذه دعوة للرؤية؛ رؤية تفكُّر وتدبُّر في أحداث تقع في الحاضر أمام أعين الناس.

وكثيراً ما تأتي الرؤية في القرآن الكريم في سياق يتطلب التفكير فيما وراء الصورة الظاهرة، لاكتساب العلم والوعي واكتشاف السنن والقوانين والعلاقات عن الطبيعة والحياة والنفس، لاستخلاص الدروس وعمران الأرض. وحتى حين يتطلب الأمر الرؤية البصرية فإنّها تكون بحاجة إلى المشاهدة المنظمة التي يمكن توسيع إجراءاتها بالتفكر والتأمل المتكرر، وتسجيل المشاهدات، والتجربة العملية، واستخدام أجهزة الرؤية المقرِّبة التي تكشف عن تفاصيل البعيد، بما لا تكشفه العين المجردة (تليسكوب)، أو استخدام أجهزة الرؤية المكبِّرة التي تكشف عن تفاصيل الصغير جداً، مما لا تكشفه العين المجردة (ميكروسكوب).

وبذلك تتسع دائرة الرؤية بمعنى الإدراك العقلي الناتج من التفكير في المشاهدات القائمة أو الافتراضية ليحقق هذا الإدراك مقاصد الرؤية، سواءً كانت في أدلّة الخلق والتوحيد، أو التدبر والاعتبار، أو لفت النظر إلى توظيف المشاهد في تدبير شؤون الحياة.

وجاءت مادة الرؤية في القرآن الكريم منسوبة إلى الله سبحانه، وإلى الأنبياء، وإلى الناس، وإلى الشيطان، وجاءت الرؤيا في المنام، وجاءت مادة الرؤية بتصريفات كثيرة، بصيغ الأفعال والأسماء والمفرد والجمع، وجاءت الرؤية في أحوال الدنيا، وفي أحوال الآخرة، وجاءت الرؤية بالعين الباصرة، والرؤية بالبصيرة، والرؤية إعلاماً وإخباراً، وجاء لفظ الرؤيا بمعنى ما يكون منها أضغاث أحلام، وما يكون منها حقاً يُطلع الله عليه بعض خلقه.

ومع ما لاحظناه من سعة معاني الرؤية فإنَّ من المهمِّ تعميق هذه المعاني عن طريق معرفة ما يتصل بها من دلالات لفظي البصر والنظر، فنحن نلاحظ وأن مشتقات رأى، ونظر، وبصر، في القرآن الكريم كثيرة. فمشتقات “رأى” جاءت في القرآن الكريم في (326 آية)، ومشتقات لفظ “بصر” في (148 آية)، ومشتقاته لفظ “نظر” جاءت في (129 آية).

وجاء لفظان من الألفاظ الثلاثة في آية واحد مثال “رب أرني أنظر إليك”، (رؤية ونظر)، وقوله تعالى: “فارجع البصر هل ترى من فطور” (رؤية وبصر)، وقوله تعالى: “ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون” (النظر والبصر).

وجاءت الألفاظ الثلاثة في آية واحدة، مثل قوله تعالى: “وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون” (الرؤية والنظر والبصر). ووجود اللفظ الواحد من هذه الألفاظ الثلاثة في مكانه في الآية القرآنية يعني أمراً محدداً لا يؤديه لفظ آخر في ذلك المكان، ومن المؤكد أن لفظين في الآية الواحدة يدل كل منهما على شيء مختلف عن الآخر، وكذلك عندما نجد الألفاظ الثلاثة في الآية الواحدة.

ومن التفكُّر في السياقات التي وردت فيها هذه الألفاظ في آيات القرآن الكريم، نرجح أنَّ الأمر يبدأ بالنظر، وهو توجُّه العين إلى الشيء المرئي دون تتبع أو تعقل، ولذلك جاء الأمر بغض البصر وليس النظر: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم”، ، فإذا أتبع النظرة النظرة فحصل شيء من الإدراك والتفكر يبصر الناظر ما يريده من النظر ويتأثر به، ومنه قوله سبحانه: “ينظرون إليك وهم لا يبصرون” لأن العقل يكون منشغلاً عن تفاصيل النظر إلى الشيء المنظور بالتعقل بشيء غيره، فالبصر يتبع النظر، أما الرؤية فهي قد تشمل النظر والبصر ولكنها تنتهي بالوعي والإدراك القلبي.

ومع هذا الإجمال في العلاقة بين الألفاظ الثلاثة، فإن مزيداً من التأمل والتفكر في مواقع الألفاظ في القرآن الكريم يكشف عن تداخل المعاني بصورة يتحدد المعنى المقصود في السياق الذي ورد فيه. ففي قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، جاء قوله تعالى: “إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى”، ف”انظر” هنا تعني فكّر في الأمر، فهو “نظر عقلي”، و”ترى” تعني حديد الرأي والموقف، فهي “رؤية عقلية”، وقرار عَمَلي، فالنظر العقلي هنا مقدمة للرؤية العقلية.

وقد طلب موسى عليه السلام من ربه طلباً فيه الرؤية والنظر، فقد طمع في أن يرى الله فيدركه، بعد أن سمع كلامه فأدركه ووعاه، فكأن الرؤية المطلوبة هنا هي رؤية حسية يتحقق بها النظر الحسِّي: “فلما جاء موسى لميقاتنا وكلَّمه ربه، قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني”، فقد نظر موسى إلى الجبل بعينيه، فرأه دكَّا مهدماً، فأدرك ووعى أن طبيعته البشرية في هذه الحياة الدنيا لا تحتمل تحقيق طلبه.

ويأتي النظر في القرآن الكريم في كثير من الواقع بمعنى التفكر والتأمل والتدبر والاعتبار فيما وراء الصورة المنظورة بالعين من الآيات والعبر، وذلك في مثل قوله تعالى: ” قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ۚ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون” (يونس: 101)، وقوله سبحانه: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ۚ ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ۚ إن الله على كل شيء قدير” (العنكبوت: 20). وعلى هذا المعنى جاء عنوان كتاب أبي حامد الغزالي: “محك النظر”، وهو كتاب في المنطق. والنُّظَّار هم أهل النظر؛ أي المذاهب الفقهية والكلامية والفلاسفة.

والنظرية مصطلح على واحد من مستويات العلم والمعرفة. والمنظور هو الشكل الذي تنظر العين إليه فتراه، والمنظور رؤية كلية تحددها الزاوية أو الوجهة أو المرجعية التي تكون أساس النظر. وهو ما يسوِّغ لبعض أهل الفكر استعمال مصطلح المنظور أو “النظرة إلى العالم” بمعنى النظر العقلي الكلي الذي نقصده بمصطلح رؤية العالم.

 

وهكذا تحدثنا عن كلمتي “العالم” و “الرؤية” مما ييسر حديثنا عن المعنى المركب منهما، وهو المعنى الذي يعطي المفهوم والمصطلح لعبارة “رؤية العالم”.

اترك تعليق