بقلم أ.د. وصفي عاشور أبو زيد
يوم عرفة أعظم أيام الدنيا على الإطلاق؛ إذ ثبت في السنة الشريفة أن الأيام العشر من ذي الحجة أعظم أيام الدنيا، والعمل الصالح أحب إلى الله فيها من أي أيام أخرى؛ فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسندهم عن عبدالله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما مِن أيّامٍ العَمَلُ الصّالِحُ فيها أحَبُّ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن هذه الأيّامِ -يَعني أيّامَ العَشرِ-. قال: قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ، إلّا رَجُلًا خرَجَ بِنَفْسِهِ ومالِهِ، ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بِشَيءٍ”.
وحين فاضَلَ العلماء بين أيام العشر من رمضان وأيام العشر من ذي الحجة، وذهبوا إلى ثلاثة آراء، رأْيٍ قال بأيام رمضان، ورأي قال بأيام ذي الحجة، ورأي محقق – وممن قال به ابن القيم – جمع بين الرأيين، وقال: إن ليالي أيام رمضان أفضل لأن فيها ليلة القدر، ونهارات أيام ذي الحجة أفضل لأن فيها يوم عرفة.
ويوم عرفة في حقيقته هو يوم الحضور والشهود، يوم مشهود حضوره، وحاضر شهوده، بين الله وعباده، وبين العباد وربهم، وبين الملائكة والناس، وبين الناس بعضهم وبعض.
يوم الحضور
أما أنه يوم الحضور أو يوم حضاري:
فلأنه يحضر إليه المؤمنون من كل فج عميق؛ استجابة لأمر الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [آل عمران ٩٧]، وتلبية لنداء إبراهيم الخليل عليه السلام: ﴿وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالࣰا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ﴾ [الحج ٢٧]. فيلتقي المسلمون من كل بلد يتناقشون فيما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم.
ولأن حضور القلب والبدن والنفس والعقل فيه يكون أكمل وأتم؛ وذلك أثناء أداء المناسك، وحضور المشاهد، فهذا يوم التروية، وهذا يوم عرفة، وهذا الطواف، وذاك السعي، وهنا رمي الجمرات، وهنالك ذبح الهدي، والمؤمن في ذلك كله حاضر بقلبه ونيته؛ راغبا فيما عند الله تعالى من أجر، وقاصدا باب الله وحده دون الأبواب.
ولأن الله تعالى فيه يحضر حضورا يليق بكماله وجلاله، فكل أيام السنة ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا ليلا في الثلث الأخير، أما في يوم عرفة فيكون النزول الإلهي بالنهار، ويباهي سبحانه بأهل الأرض أهل السماء كما ثبت في السنة مما أخرجه ابن حبان في صحيحه وغيره بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عرفاتٍ ملائكةَ أهلِ السَّماءِ فيقولُ: انظُروا إلى عبادي هؤلاء جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا”، وفي زيادة لأبي نعيم في الحلية: “أتَوْني شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم”. هذا الحضور الإلهي العظيم له قيمته عند المسلم: حضورا وحبورا، واستمدادا وامتدادا.
ويقترب منه في الجمال والجلال حضور الملائكة بين يدي الله تعالى في ملأ السماء، كي يحضروا مباهاة الله تعالى بأهل الأرض؛ هؤلاء الذين جاءوا من كل فج عميق واللهُ غايتهم، ومغفرة الذنوب وأداء الفريضة مقصدُهم، شعثا غبرا من آثار السفر والتعب، جاءوا من كل مكان بعيد، فحُقَّ لهم أن تكون مكافأتهم هي المغفرة والعفو والرحمات.
ولأنه يومٌ يَستحضر – من الحضور – فيه الإنسان يومَ القيامة وذلك حين يرى – وهو معهم ومنهم – مشاهد الحجيج في لباسهم وطوافهم وسعيهم وزحامهم؛ فاللباس لا خيط فيه، والناس لا تمييز بينهم، والزحام شديد وهو ما يُذكّر بيوم القيامة؛ ولهذا استفتحت سورة “الحج” بقول الله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَیۡءٌ عَظِیمࣱ. یَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّاۤ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِیدࣱ﴾ [الحج: 1-2]. ومشاهد القيامة واليوم الآخر في السورة كثرة كاثرة، مما يعزز هذا الاستحضار مع أداء المناسك والشعائر.
إن مشهد الحضور والتحضر والاستحضار غالب على يوم عرفة، وهو ما يجعل منه يوما عظيما بل يوما حضاريا، وهذا هو عمق معنى الحضارة.
يوم الشهود
وأما أنه يوم الشهود فلمعانٍ كثيرة:
لأنه مشهود من الله تبارك وتعالى أولا، فالله يشهد على خلقه ويشهد لهم بأنهم أتوه شعثا غبرا ضاحين، ويُشهد على ذلك الملائكة، ويغفر للحجيج أمام الملائكة، وكذلك الملائكة تشهد هذا اليوم، وترى رحمات الله وبركاته.
ولأنه يوم يشهد فيه المؤمنون من رحمات الله وبركاته ومغفرته وتنزلاته وفيوضاته ما لم يشهدوه في عبادة أخرى، ولا مشهد آخر ولا موقف غيره، ولا يوما آخر في السنة كلها.
ولأنه يوم ما شُهِدَ إبليس أغيظ ولا أدحر منه في هذا اليوم، فقد أخرج ابن كثير وابن حجر بسندهما عن طلحة بن عبيدالله مرسلا: “ما رُؤِيَ إبليسُ يومًا هو فيهِ أَصْغَرُ ولا أَحْقَرُ ولا أَدْحَرُ ولا أَغْيَظُ من يومِ عرفةَ. وذلكَ مِمّا يَرى من تَنْزِيلِ الرحمةِ والعَفْوِ عَنِ الذُّنوبِ إلّا ما رأى يومَ بَدْر. قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما رأى يومَ بَدْر؟ قال: أَما إنَّهُ رأى جبريلَ عليهِ السلامُ يَزَعُ الملائكةَ”.
ولأنه يوم يشهد فيه المؤمنون بعضُهم بعضا، فيلتقون، ويتراحمون، ويتصافحون، ويتناقشون فيما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، وهكذا كان الحج في عصر النبيي صلى الله عليه وسلم، واستمر الحج والحجيج على سنته من بعده.
ولأنه يوم الشهادة بحق الذي يشهد فيه المؤمنون لربهم بالوحدانية والصمدية والربوبية؛ فالأذكار والأدعية والتلبية والتهليل والتكبير كلها تشهد لله بالواحدانية والربوبية؛ فقد أخرج السيوطي في الجامع الصغير بسند حسنه الألباني في صحيح الجامع عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خيرُ الدُّعاءِ يومُ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا اللهُ وحده لاشريك له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ”. فهذا الدعاء أو الذكر هو توحيد ظاهر، وكذلك التلبية؛ فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبدالله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التلبية: “لبَّيْكَ اللهمَّ لبيكَ لبَّيْك لا شريكَ لكَ لبيكَ إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لكَ”.
ولأن الشجر والحجر يلبي بتلبية المؤمن، ويشهد لله معه بالواحدانية والربوبية، وقد أخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مُلَبٍّ يلبِّي إلّا لبّى ما عن يمينِهِ وشمالِهِ من حَجَرٍ أو شجَرٍ أو مدرٍ حتّى تنقطعَ الأرضُ من هاهنا وَهاهنا”.
ولأن المؤمنين يشهدون بين يدي الله انكسارهم بين يديه، وحاجتهم له، وفقرهم إليه، وتوجههم نحو بابه، وتمسُّحهم بأعتابه؛ يرجون رحمته ويخافون عذابه، فالمشهد شاهد ومشهود بفقر العباد إلى الله، وحاجتهم لعفوه ومغفرته وقبوله منهم عملهم وتعبهم وهجرتهم وتضحياتهم.
ولأن الإنسانية كلها تشهد وحدة الأمة في هذا اليوم؛ حيث يتوحد الزمان والمكان والإنسان في صعيد واحد بما لا يوجد في عبادة أخرى؛ فالصلوات تتفاوت زمانا ومكانا حسب الجغرافيا، وكذلك الصيام في أوله وآخره، وفي إمساكه وإفطاره، وكذلك الزكاة بالنظر لكل مكلف، حاشا الحج؛ فهو الفريضة الوحيدة التي يتوحد فيها الزمان والمكان والإنسان بما تشهده الإنسانية كلها، وقد يتأثر غير المسلمين بهذا المشهد الشاهد على وحدة الأمة فيقود بعضهم إلى الإسلام.
***
إن هذا الحضور بأوصافه الشاهدة، وهذا الشهود بمعانيه الحضارية لهو أكبر المعاني التي يمكن أن يلحظها المؤمن في يوم عرفة بل في أيام الحج جميعا، وهو معنى راشد وهادٍ يُعمق سنن الله في النفس والحياة والآفاق؛ ولهذا كان خير ختام لسورة الحج ترسيخ مشهد الحضور، وتعزيز حضور الشهود والشهادة حين قال الله تعالى: ﴿وَجَـٰهِدُوا۟ فِی ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ مِّلَّةَ أَبِیكُمۡ إِبۡرَ ٰهِیمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ مِن قَبۡلُ وَفِی هَـٰذَا لِیَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِیدًا عَلَیۡكُمۡ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِیرُ﴾ [الحج ٧٨].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال على موقع الجزيرة مباشر يوم عرفة 9 ذو الحجة 1442هـ:
مقال رائع جداً جداً ومعاني عميقه رقيقة ينبغي علينا أن نعلمها جميعا
وفقكم الله لما يحب ويرضى دكتور وصفي وفتح لكم فتحاً يسيرا ورزقكم الله سعادة الدارين والتمكين في الدين
بارك الله فيكم وأحسن إليكم، ويسعدنا متابعتكم وتفاعلكم
بارك الله فيكم وأحسن إليكم، ويسعدنا متابعتكم وتفاعلكم..