علاقة السنن الإلهية بالمشروع الإسلامي(4)

بقلم د. عطية عدلان

بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لم يتنبه الكثيرون للمعنى – فضلا عن المغزى – في قول الله تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)) (الروم: 1-7).

     هذا سياق واحد متسق تمام الاتساق، ومتماسك غاية التماسك، هذا سياق يحكي أنموذجا تطبيقيًّا لسنة الله تعالى في التهيئة لهذه الأمة؛ كلما رامت بلوغ التمكين لهذا الدين، وسعت بصدق لتحقيق ما تروم إليه فحالت الظروف دون تحقيق ما تريد، فأمّا الذين لا يعلمون عن طبيعة الصراع إلا ظاهرا من الحياة الدنيا؛ فلا يقيسون الأمور إلا بموازين القوى المادية، ولا يتنبهون للسنن الإلهية التي تعمل ولا تنتظر مشيئة العباد، فَيَرَوْنَ النّصر بعيدا، فيقعون في الإبلاس، ولا يرون للأمة طريقا إلا طريق التبعية للغالب.

    بينما السنّة الإلهية تعمل في الخفاء؛ لتهيئ الأرض لعالم جديد، يكون فيه للمؤمنين الكلمة العليا بإذن الله تعالى، وقد وقع هذا في أول الأمر لهذه الأمة وسيقع في آخرها، وقع في أول الأمر عندما دخلت القوتان العُظْمَيَانِ آنذاك فارس والروم في صراع استنزاف شديد، عَبْرَ حربين لم يكن بينهما سوى بضع سنين، يومها كانت الجماعة المسلمة تتهيأ مثلما يتهيأ أهل الإسلام اليوم، وتبحث لها عن مخرج مثلما نبحث اليوم، وقد أحاطت بها قوى الشر في جزيرة العرب ورمتها عن قوس واحدة مثلما يُفْعَلُ بنا اليوم.

    لا أدعي التطابق التام بين الماضي والحاضر، لكنّ معطيات الواقع تؤكد أنّ ما وقع من التهيئة الكونية للإمة الإسلامية في الماضي سيتحقق الآن؛ وذلك وفقا لمجموعة من السنن الإلهية التي لا ريب في استمرارها واستقرارها، مثل سنة التدافع: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (البقرة: 251)، وسنة التداول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)، وسنة الاستدراك الإلهي: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110)، وغيرها من السنن الإلهية الجارية منها والخارقة، وإنّ الأمة الإسلامية في عصرنا هذا منذ فجر الصحوة الإسلامية قد رامت التمكين للإسلام، وتحركت صوب غايتها، لكنّ العدو غلبها على أمرها، وإذا كانت الأخطاء التي وقعت منها قد تكاثرت وتناثرت فإنّ رحمة الله التي تداركت يونس عليه السلام سوف تتداركها؛ ليتحقق لها تمكينٌ ومتاعٌ إلى حين.

    لقد كانت حرب فارس والروم حربا بين القوى العظمى آنذاك، وكانت متابَعَةُ الرسول والمسلمين لها كمتابعتنا اليوم لابتداء الصراع بين الروس والنّاتو، ثم الصين وأمريكا، ولعل المعنى الصحيح لقوله تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) هو فرحهم بما تحقق لهم من نصر وتمكين جاء متزامنا مع انتصار الروم بعد بضع سنين، وذلك بإقامة دولتهم وسط محيط من العداوات، وانتصار هذه الدولة على عدوها الأقرب في بدر، ثم في مواقع أخرى انتهت بالفتح الأكبر فتح مكة.

   وإنّ الفترة التي عاشتها أوربا بعد نهاية الحرب الباردة لم تكن سوى هدنة بسيطة؛ لتعود العداوة والبغضاء التي كُتبت عليهم إلى يوم القيامة؛ حسب السنّة الإلهية الجارية فيهم: (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة: 14)، ولعل ما أَغْفَلَنَا عن هذه السنة هو نسياننا لتلك المآسي التي عاشتها أوربا في تاريخها كله، وها هي المسيرة تعود من جديد بعد هدنة كانت خاتمة للحرب الباردة؛ فإنّ الثقافات المختلفة والإرث الحضاري سوف يذكي الحرب.

    فإذا وسَّعْنا زاوية النظر قليلا للتاريخ الأوربيّ والسلوك الغربيّ في العصر الحديث؛ فسوف تتجلى لنا سنة أخرى في سورة الأنعام: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)) (الأنعام: 42-44).

اترك تعليق