مقال بقلم الأستاذ/ جهاد عدلة(*)
ما رأيته في أنطاكيا، بالمنطق الطبيعي والعلمي، كان تنفيسا شديدا وعنيفا للقشرة الأرضية عن احتقان ولدته حركة الصخور على مدى سنين، لكن المنطق الطبيعي أو العلمي هو تفسير لقدرة خفية توجد هذه الأسباب، لتتفاعل فيما بينها وصولا إلى النتيجة التي رأيناها.
هذه القوة الخفية التي هي الطبيعة عند الفلاسفة الغربيين، هي الله جل جلاله عندنا، نحن المسلمين.
أستطيع أن أقول بملء فمي إنني في أنطاكيا رأيت الله تعالى تتجلى آثاره في المادة، وتنبعث من بين ركام آلاف الأبنية التي دفنت في أحشائها آمالا ومشاعر وأحلاما.
كنت أقف على أطلال أنطاكيا وليس على أرضها، بعد أن خرّت المدينة بتاريخها وأبنيتها وأحيائها صريعة في خمسين ثانية.
[ركام أنطاكية بعد دمار الزلزال]
خرجت أنطاكيا من الوجود تماما، ولا قدرة لعاقل أن يتصور إمكانية الحياة فيها في المدى المنظور، على الأقل من الناحية النفسية والشعورية عند كثير ممن كان يقطنها.
باستثناء بضع مئات من المكلومين ينتشرون حول ركام الأبنية ينتظرون جثث أحبابهم، محاطين بجنود من الجيش والشرطة، وعدد محدود من القطط والكلاب، لا يوجد أثر لحياة في تلك المدينة المنكوبة.
الرحلة من إسطنبول إلى أنطاكيا تشبه انتباهة النائم إذا استيقظ، تصلك بحبل سري يغذي فيك روح الإيمان بعظمة من أوجد الإنسان من عدم من جهة، وحقيقة هوانه على الله من جهة أخرى.
اختار لي القدر أن أنتقل من أجواء القلم والحاسوب والكتاب والكاميرا، إلى العمل في أجواء حرب، أنام نصف مستلق في خيمة تارة، وجالسا في سيارة، تحت مبنى مائل ومتصدع يمكن لأي هزة أن تحيله أطنانا من الركام فوقي، تارة أخرى، على أنه في الحالين لم تعرف عيناي النوم في الأيام الخمسة الأول من أسبوعي هناك.
[البحث عن جثث أرحامي]
اختار لي القدر أن أبحث عن جثة أرحامي وأحبابي بين عشرات الجثث، وكان يومي المضني، نفسيا وبدنيا، يبدأ على صوت الحفارة التي مهمتها إزالة الركام، ومهمتي مطالعة الجثث التي تصل تباعا، لأتعرف على أختي وصهري وأولادهما.
كم من فتاة رأيت وقد جحظت عيناها، وغادر فمَها لسانُها، فصارت إلى بشاعة وقبح بعد حسن، ومن صبي عارك الموت بزفراته.
رأيت جثثا كثيرة ماتت قبل أن تموت، وأنبأ مظهرها عن شدائد النزع وآلامه.
وشممت روائح لجثث متحللة ما تخيلت أن هذا الإنسان الذي يتأنق تارة، ويتكبر تارة أخرى، ويتجمل حينا، ويتنعم ويتزين حينا آخر يمكن أن تهبط به حقيقته الطينية إلى هذا الدرك من النتانة والسوء!
وتساءلت: هل يبقى عنصريا ومتعصبا لو علم بمآله هذا؟!
غير أن الدمار والأنقاض، والأبخرة والدخان والغبار المنبعث من أعمال إزالة الركام، لم يفعل ما فعلته وجوه المكلومين التي خط الزلزال عليها خريطة متداخلة من مشاعر فرح ظاهر لرجل يتلقى التهاني بإتمامه مهمة العثور على جثث أقاربه العشرين ودفنهم، من آخر قتلته ساعات انتظار الحصول على خبر عن خمسة جثث ما زالت مختفية بين الركام من مجموع خمس عشرة جثة هي لأبنائه وزوجه وأحفاده، ومشاعر حزن ألمّت برجل اكتشف، بعد فرحة مزيفة لعثوره على جثثه ودفنها، أنه صار وحيدا من أصوله وفروعه في عالم مزدحم.
لا يقدر كل عاقل متأمل أن يرى الدنيا في أنطاكيا بالعينين نفسيهما اللتين يرى بهما ما خارجها، ولا إلا أن يرى الدنيا في زمانين: ما قبل زلزلة أنطاكيا وما بعدها.
أستجمع كل قواي العقلية والذهنية والنفسية لأقنع نفسي بأنني أعيش اليوم في الكوكب نفسه الذي كنت كنت أعيش فيه قبل زلزلة مرعش وأنطاكيا، ولكن عبثا!
هذه الزلزلة العظيمة جزء من تغيرات مدهشة تضرب العالم بعمق وقوة، وتترك بصماتها في الأرض والنفس.
(*) كاتب وباحث وإعلامي سوري.