مناهج التغيير والبناء الحضاري من خلال السيرة النبوية (2)

✍️ أ.د. أحمد محمد زايد (*)

ثانيا: دراسة السيرة بين مناهج مختلفة:
إذا كانت السيرة النبوية صورة التطبيق الحضاري الكامل للإسلام كما ذكرنا آنفا، فإن كثيرا من المناهج التي درست بها السيرة النبوية لم تبرز هذه الحقيقة ولا تظهر تلك الصورة، كما تعددت زاوية النظر إلى السيرة، فخرجت دراسات ومصنفات تناولت السيرة من زاوية معينة أغفلت معها الرؤية الكلية لفلسفة السيرة ومقاصدها الكبرى التي بها تشكلت أمة بكل مقوماتها، وفي هذه المطلب نتناول بعض تلك المناهج ونعلق عليها لنخرج من بحثنا بما ينبغي أن تكون عليه دراسة السيرة في بحوثنا وتصانيفنا العلمية

أولا: منهج التاريخ الحولي:
وهو منهج متبع لدى كثير من الأقدمين ممن صنف في السيرة النبوية، حيث تسجل فيه أحداث كل سنة بالترتيب الزمني سردا، وقد اشتهر جمع من العلماء بهذه المنهج أمثال أبي جعفر الطبري في “تاريخ الأمم والملوك”، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي في “مروج الذهب ومعادن الجوهر”، وعز الدين بن الأثير الجزي في “الكامل”، والحافظ الجليل شمس الدين الذهبي في “تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام”، والحافظ ابن كثير في “البداية والنهاية”، وغيرهم الكثير، ويأخذ الدكتور عماد الدين خليل على هذا المنهج أنه يمارس تقطيعا للوقائع الأساسية، واختراقا لنسيجها بوقائع أخرى تتحرك في سياق مغاير، كأن يتم الحديث في السنة أو الحولية الواحدة عن الصراع ضد الوثنية واليهود والبيزنطيين والمنافقين، جنبا إلى جنب مع المعطيات التشريعية أو الدعوية أو التعبدية أو السلوكية.
➖ ويضاف إلى ما لاحظه الدكتور خليل وهو غياب المنهج النقدي في كثير من تلك المصنفات، وقد ترك ذلك أثرا سلبيا وهو أن كان أصحابه “يسلمون بالغث والسمين، ما يمكن قبوله وما لا يمكن.. الأمر الذي أضاف إلى وقائع السيرة الأساسية أجساما غريبة، وقادها إلى نوع من التضخم على حساب بنيتها الأصيلة المتفق عليها.

ثانيا: منهج المحدّثين:
“يقصد بالمحدثين الرواة الذين نقلوا الأحاديث النبوية بمتونها وأسانيدها خلال القرون الإسلامية الأولى حيث كانت الرواية والحفظ تحتل المقام الأول رغم ظهور الكتابة منذ عصر السيرة النبوية وتوسع التدوين خلال القرنين الأولين وظهور المصنفات الحديثية المرتبة على الأسانيد والموضوعات خلال القرن الثاني والثالث للهجرة..

وقد صاغ المحدثون قواعد نقدية دقيقة ضمن منهج واسع عرف بمصطلح الحديث، وبذلك سبقوا الآخرين في التنظير والتقعيد لكيفية التفاعل مع الروايات بفحصها وتطبيق قواعدهم عليها لغرض الحكم عليها قبولاً ورداً، مما أدى إلى اكتمال معلوماتهم عن الرواة والتدقيق في أحوالهم من حيث الصدق والورع والالتزام الديني، وظهرت مكتبة ضخمة في علم الرجال، أثرت في فن الترجمة للأعلام في سائر العلوم التي ظهرت في الإسلام، وأهم المحدثين الذين عنوا بأخبار السيرة النبوية هم أبان بن عثمان، وعروة بن الزبير بن العوام، وعاصم بن عمر بن قتادة، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، ومحمد بن إسحاق، وسليمان بن طرحان التيمي، والوليد بن مسلم الدمشقي، ومحمد بن عائد الدمشقي، وأبو معشر السندي، وهؤلاء جميعاً إما ثقات أو صدوقون عند أئمة النقاد – ماعدا أبا معشر السندي فإنه بصير بالمغازي ضعيف بالحديث – وقد قبلت مروياتهم إما بإطلاق وإما بقيود كما في مراسيل الزهري التي عدت ضعيفة، وكما في عنعنة محمد بن إسحاق والوليد بن مسلم، فإنهما مدلسان، وبذلك يمكن القول بأن السيرة النبوية حظيت بنخبة من أهل العلم دونت أخبارها وصنفتها، وبذلك تم حفظها وأمكن الثقة معلوماتها، وهذا مما هيأه الله تعالى لسيرة نبيه ﷺ

➖وعلى الرغم من موثوقية النصوص التي أوردها هؤلاء وفق قواعد الرواية إلا أن هناك ملحوظة هامة تعد مأخذا علي هذا المنهج هي (التجزيء) حيث تروى الحوادث مقطعة مجزأة، الأمر الذي يحول دون إخراج السيرة بصورة متكاملة مترابطة تعطي تصورا كليا شاملا عن الحياة الإسلامية الأولى بكل مشتملاتها وأركانها، غير أن هؤلاء الأعلام بمنهجهم الدقيق كفونا البحث عن الصحة والموثوقية ويسروا على الباحثين في السيرة والناظرين فيها مؤنة هذا العمل العظيم، وما علينا إلا أن نضع هذه النصوص المحققة في صورة متكاملة ونقوم بعملية فهم وتحليل واستنباط قوانين النهوض والتغيير الحضاري.

ثالثا: منهج الدراسات التخصصية:
وهي دراسات موضوعية مستنبطة من حوادث السيرة طولها وعرضها، فقد ظهرت دراسات متخصصة في بيان الجانب الحركي من خلال السيرة كما فعل منير الغضبان –رحمه الله – في “المنهج الحركي للسيرة”، تناول فيه الجوانب التنظيمية والحركية للدعوة ودعاتها في المواقف المختلفة من خلال السيرة، وكما فعل كذلك – رحمه الله – في “التربية القيادية” و”التربية الجهادية” من خلال السيرة، وكما قدم الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله تعالى- رؤية دعوية متكاملة لإبراز النظرية الدعوية من السيرة في كتابة الماتع “فقه السيرة” والبعض تناول الكتابة في موضوع “أمهات المؤمنين” كما فعل محمد بن الحسن بن زبالة في مصنفه “أزواج النبي ﷺ” وعائشة بنت الشاطيء في “تراجم سيدات بيت النبوة”، وتناول البعض جوانب الحذر والحيطة من خلال السيرة النبوية كما فعل د إبراهيم علي محمد أحمد وهكذا.
➖ وهذا منهج مفيد في إظهار جوانب الصورة الحضارية للإسلام من خلال تلك الدراسات الموضوعية للسيرة، والأمة بحاجة إلى مؤسسات ومراكز تقدم مشروعات حضارية ونهضوية من خلال السيرة، والجهود الفردية في مثل هذه الأعمال يعتورها النقصان والتأخر، ولذا لا بد أن يتوافر على مثل هذا جماعة وفرق عمل من مختصين في كل الفنون الدينية والدنيوية: مع اعتماد الاستيثاق من صحة النصوص وفق قواعد المحدثين بحيث تتكامل المناهج البحثية وزوايا النظر إلى السيرة.

رابعا: منهج المستشرقين:
من أخطر وأسوأ المناهج التي تناولت السيرة النبوية منهج المستشرقين، الذين حاولوا نسف فكرة النبوة والوحي، وهدم أركان الدين بالتشكيك المحموم في تصرفات النبي ﷺ، والتصوير الخبيث لمجريات الأحداث والوقائع في السيرة وحملها على محامل غير مرادة منها، ويمكننا القول بأن منهج المستشرقين في كتابة السيرة النبوية وتناولها يتسم بالآتي:

1- التحريف والتلفيق والطعن.

2- التقول والانحراف في التفسير والتحليل.
3- البعد عن العلمية والموضوعية، واعتماد غير المعتمد من المصادر.
4- واستعمال مصطلحات كنسية أو دينية غير إسلامية لتقريب المعاني إلى المسيحيين أو اليهود، وما يحمله ذلك من تشويه للحقيقة الإسلامية التي لا يعبر عنها إلا بالمصطلح الإسلامي.
5- اختلاف المنطلق بين هؤلاء وبين كتاب السيرة من المسلمين.
6- الفهم الخاطئ الناتج عن عدم فهم اللغة العربية.
7-الجهل بمناهج التفسير والاستنباط والبحث في الفكر الإسلامي، فهم يجهلون المنهج الأصولي ومناهج المحدثين والمفسرين الأمر الذي جعلهم يخبطون خبط عشواء.
8. رفض المقررات التاريخية والتجني عليها.
9. الاعتداء العلمي على المقدسات الإسلامية.
10. اعتماد المسلمات المادية والوضوعية في تفسير النصوص وفهمها.

ولنضرب لذلك مثلا:
المستشرق الفرنسي (م. سفاري) كتب كتابا بعنوان: “مختصر حياة محمد” لفق فيه أحداث السيرة ، وأراد من خلال ذلك تصوير النبي محمد ﷺ بأنه ذكي عبقري وليس نبيا مرسلا، وأن القرآن من صناعته فبعد أن وصف حال الشرق وما وقع فيه للكنيسة الشرقية من انقسام وما وقع للعرب من نسيان فكرة التوحيد، وما وقع كذلك للفرس يقول (م. سفاري):” هكذا كان حال الشرق حين فكر محمد في إنشاء الإسلام، وجمع العرب المنقسمين تحت لواء قانون واحد، فقد أعطى موسى بني إسرائيل التوراة، أما مخلص الناس فقد منحهم الإنجيل، فأراد محمد أن يظهر أمام أمته وبيده كتاب إلهي، فعكف على نظم القرآن، ونظرا لعلمه بملكة العرب البيانية فقد حرص على أن يستميلهم جمال الأسلوب ويدهشهم بروعة الصور بدلا من أن يقنعهم بالحجة والبرهان. هكذا يفسر (سفاري) الوحي الإلهي على أنه إنتاج بشري نظمه محمد ﷺ بأسلوب بياني مؤثر ليجذب الناس نحوه .

وأكثر المستشرقين يغرقون في وحل التحريف وسوء التأويل على غرار مفتريات (سفاري) في كتابه هذا، ولا شك أن منهج المستشرقين خطر يهدد مصادر الإسلام، وقد تأثر به من تأثر من المسلمين خواصهم وعوامهم الأمر الذي يستدعي مقاومة هذا المنهج المغرض.

خامسا: منهج تلاميذ المستشرقين من العلمانيين والقوميين والماركسيين وأضرابهم في المجتمعات الإسلامية:
وهذا المنهج لاختلاف منطلق أصحابه عن المسلمين الخلص في دراسة السيرة النبوية جاء هادما للمقومات الإسلامية الأساسية، حيث أخذ أصحاب هذا المنهج على تعدد أطيافهم وتوجهاتهم في هدم حقائق الوحي والنبوة والغيب من خلال تأولات فاسدة وتحكمات ذاتية، وأهملوا في نظرتهم للسيرة الجانب الإلهي، كما غلبت على دراساتهم ما أسموه “المنهج العلمي” وهو منهج مادي لا يصلح وحده في استيعاب وتفسير قضية مثل “السيرة “بأبعادها الغيبية والروحية والتشريعية، فهم من خلال هذا المنهج المدعى يتحكمون بأهوائهم وعقولهم القاصرة في مسائل عمادها الوحي الذي يأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها كما قال ابن تيمية – رحمه الله –
وقد انتُقد محمد حسين هيكل في بعض توجهاته في تفسير بعض حوادث السيرة، كما انتقد محمد فريد وجدي مع أن هؤلاء أقوم قيلا وأهدى سبيلا من العلمانيين والقوميين والماركسيين، وإذا كان هؤلاء الأعلام قد انتقدوا فما بال الخلص من تلامذة المستشرقين من الماركسيين والعلمانيين والقوميين الذين ترى أعمالهم طاعنة في ثوابت الإسلام كما يقول بعض الباحثين عنهم:” إنك لتراهم يمجدون شخص محمد ﷺ، وينوهون بعظمته وصفاته الحميدة بعيدا عن كل ما قد ينبه القارئ الى شيء من معاني النبوة أو الوحي في حياته، وبعيدا عن الاهتمام بالأسانيد و الروايات التي قد يضطرهم الأخذ بها إلى اليقين بأحداث ووقائع ليس من صالحهم اعتمادها أو الاهتمام بها.

➖وهكذا وجد أبطال هذه المدرسة الجديدة، في اتباع المذهب الذاتي في كتابة التاريخ، الميدان الفسيح الذي يمكنهم من نبذ كل ما لا يعجبهم من حقائق السيرة النبوية مهما جاءت مدعومة بدلائل العلم اليقين، متخذين من ميولهم النفسية، ورغباتهم الشخصية وأهدافهم البعيدة، حاكما مطلقا على حقائق التاريخ وتحليل ما وراءه من العوامل، وحكما مطلقا لقبول ما ينبغي قبوله ورفض ما يجب رفضه.
لقد رأينا- مثلا – أن كل خارقة مما قد جاء به متواتر السنة، وربما صريح القرآن، تؤول ولو بتكلف وتمحل، بما يعيدها الى الوفاق المألوف، وبما يجعلها تنسجم مع الغرض المطلوب

فطير الأبابيل، يؤول – على الرغم من أنف الآية الصريحة الواضحة – بداء الجدري، والإسراء الذي جاء به صريح القرآن، يعمل على سياحة الروح وعالم الرؤية والملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر يؤولون بالدعم المعنوي الذي أكرمهم الله به.
ومنهم من يفسر الدعوة الإسلامية وحركة النبي ﷺ وأصحابه بأنها بعباراتهم ثورة يسار على يمين، وحراك للفقراء ضد الأغنياء أملاه طلب الرزق وحب التوسع والمال، حتى إن بعضهم اعتبر سيدنا أبا ذر رضي الله عنه محامي الفقراء.
وبعضهم يفسر الفتوحات الإسلامية والغزوات النبوية على أنها احتلال وتوسع هدفه السيطرة على الشعوب وحب التحكم فيهم وفي مقدراتهم، وهكذا.
وما يؤسف له أن كثيرا من هؤلاء يتبوءون مراكز علمية وثقافية كثيرة في البلاد الإسلامية وربما كان صوتهم أعلى من صوت الراسخين من أهل العلم المستقيمين على المنهاج الحق.


(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعتي الأزهر الشريف وقطر.

اترك تعليق