مناهج التغيير والبناء الحضاري من خلال السيرة النبوية (7)

✍️ أ.د. أحمد محمد زايد(*)

ثالثا: توظيف طاقات الأمة:
السعي الحضاري وتحقيق منجزات الحضارة لا يتحقق إلا بتوظيف طاقات الأمة كبيرها وصغيرها كل فيما يحسن ويجيد، ومنع كل إنسان من الدخول في غير مجاله أو فيما يضعف عن القيام به، بهذا يتحقق (الإنجاز والإتقان).
وأمتنا اليوم تعاني من هدر الطاقات وقتل المواهب والإمكانات، وهجرة العقول والكفاءات، حتى إننا لنجد إحصاءات مفزعة عن الكم الهائل من هذه العقول المهاجرة التي لا تجد بابا لاستيعابها وتوظيفها بما يليق بها داخل مجتمعاتها الإسلامية، ففي إحدى الدراسات نطالع الإحصاءات التالية:

قامت کثیر من الهيئات كجامعة الدول العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو محاولة إحصاء عدد المهاجرين من الكفاءات العربية الإسلامية، وخلصت إلى ما يلي من الوقائع والإحصائيات الخطيرة:
➖هاجر خلال النصف الثاني من القرن العشرين بنسبة 25-50% من حجم الكفاءات العربية الإسلامية إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
➖هاجر أكثر من سبعمائة وخمسين ألف (750000) عالم عربي إلى الولايات المتحدة منذ سنة 1977م، وحتى سنة 2006م.
➖يهاجر كل سنة حوالي مائة ألف (100000) من أصحاب الاختصاصات في الطب والهندسة والتكنولوجيا من تسعة بلاد عربية إسلامية هي: مصر، سوريا، العراق، لبنان، الأردن، فلسطين، تونس، المغرب، الجزائر.
➖يهاجر إلى أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا نسبة خمسين بالمائة (50%) من الأطباء، وخمسة وعشرين بالمائة (25%) من المهندسين، وخمسة عشر بالمائة (15%) من مجموع الكفاءات العربية.
➖يستقر في البلاد الغربية نسبة سبعين بالمائة (70%) من العلماء الذي يسافرون إليها بهدف التخصص ولا يعودون إلى أوطانهم.
➖هاجر أكثر من مليون ونصف من الكفاءات العربية الإسلامية إلى الولايات المتحدة وكندا في الفترة ما بين سنة1960م وحتى سنة 2007م.
➖خمسة وسبعون بالمائة (75%) من الكفاءات والعقول العربية الإسلامية تستقطبها وتتصيدها ثلاث دول غربية هي: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا.
➖أربعة وخمسون بالمالة (54%) من الدارسين والطلاب العرب والمسلمين الذين يدرسون في الدول العربية يستقرون في البلدان التي تخرجوا منها، ولا يعودون إلى أوطانهم.
➖أربعة وثلاثون بالمائة (34%) من الأطباء الأكفاء في بريطانيا ينتمون إلى الجاليات العربية، وقدمت مصر وحدها في السنوات الأخيرة ستين بالمائة (60%) من العلماء إلى الولايات المتحدة، وخمسة عشر بالمائة (15%) كانت نسبة مساهمة كل من العراق ولبنان.
➖وفقاً لإحصاء الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء سنة 2003م يقدر عدد المصريين المتميزين من الكفاءات والعقول التي هاجرت – ثمانمائة وأربعة وعشرين ألفا (824000)، منهم ألفين وخمسمائة (2500) عالم.
➖توزع الكفاءات المصرية المهاجرة من العلماء والخبراء الذين يعملون في مختلف التخصصات، وفقاً لأكاديمية البحث العلمي هكذا: أحد عشر ألفا (11000) في تخصصات نادرة، وأربعة وتسعون (94) عالماً في الهندسة النووية، وستة وثلاثون (36) في الطبيعة الذرية، وثمانية وتسعون (98) في الأحياء الدقيقة، ومائة وثلاثة وتسعون (193) في الإلكترونيات والحاسبات والاتصالات، وتحظى الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر من الكفاءات والعقول المصرية بنسبة تسعة وثلاثين بالمائة (39%)، تليها كندا بنسبة أربعة عشر بالمائة (14%)، وأسبانيا في المؤخرة بنسبة أثنين بالمائة (2 %)
➖تشير دراسة قامت بها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة إلى وجود أربعة آلاف ومائة واثنين (4102) عالم عربي إسلامي متخصصين في شتى علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز بحوث عربية.
وتتضمن الأرقام السابقة مهنا وتخصصات مختلفة، وتتضح خطورتها في أن العديد من الفئات العربية الإسلامية المهاجرة يعملون في أهم التخصصات الاستراتيجية والحرجة مثل الطب النووي والعلاج بالإشعاع والجراحات الدقيقة، والهندسة النووية والوراثية والإلكترونية والميكرو إلكترونية، وعلم تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية، وعلوم الليزر، والفضاء، والميكروبيولوجيا والعلوم الإنسانية والاقتصادية والعلاقات الدولية.

فالتخلف الذي تعاني منه أمتنا ليس سببه عدم وجود كفاءات وإنما العجز والتخلف نابع من عدم تقدير تلك الكفاءات وتوظيفها في أوطانها بينما تجد غير المسلمين يقدرها ويحترمها ويستفيد منها.

والمتأمل في السيرة النبوية يجد النبي ﷺ يقف على إمكانات وقدرات صحابته، ثم يشيد بها ويلفت الأنظار إليها، ويمدح أصحابها، ثم يوظف تلك الطاقات بناء على معرفة جيدة بأقدار أصحابها والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

➖تعيين أسامة بن زيد وهو شاب حدث على رأس جيش بعث لمقاتلة الروم وقصته مشهورة في السيرة، وقرار مثل هذا من رسول الله ﷺ يؤكد أن جهدا تم في إعداد هذا الشاب إعدادا قياديا وفنيا، ثم رصد لمدى كفاءته، ثم توظيف لتلك الكفاءة على الرغم من حداثة سنه ووجود الكثير من الصحابة الكبار تحت إمرته.
➖سبق القول بأن النبي ﷺ وجه أصحابه للاستفادة من تخصصات علمية وكفاءات فكرية موجودة بينهم، فقال:”من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد”.
➖الإشادة بتخصصات الصحابة ومنزلتهم العلمية ففي علم “الفرائض” نبه النبي ﷺ بالأخذ عن زيد لأنه أفرض الأمة، وفي الفتوى “معاذ بن جبل” باعتباره الأعلم بالحلال والحرام، وهذا أمين الأمة، وفلان حواري رسول الله وهكذا.
➖التوظيف الفني لأصحاب المهارات والفنون كتعيينه ﷺ خالد بن الوليد قائدا عسكريا ومنحه لقب “سيف الله المسلول”، وقوله:” لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله وأعطاها عليا” كما في البخاري ومسلم.
➖ثم هو ﷺ يستفيد من طاقة الشباب فيأمر زيد بن ثابت بتعلم اللغات الأجنبية، فيتعلم العبرية والسريانية في أقل من شهر، ليقوم بترجمة الرسائل التي تأتي إلى رسول الله ﷺ.
➖ويمنع أبا ذر من طلب الإمارة باعتباره ليس كفؤا لذلك على الرغم من فضله وسبقه.
وهكذا يبدو لنا المشهد النبوي وهو يوظف طاقات الأمة فيختار رسله بناء على الوجاهة والكفاءة والفصاحة والدراية، ويختار مبعوثيه بعناية، ويوظف المتخصصين كل فيما يحسن، فتحقق النهوض الحضاري على أحسن صورة.

رابعا: التخطيط الاستراتيجي:
كان من الممكن أن يعتمد رسول الله ﷺ في منهجيته على الخوارق وعلى كلمة “كن” القدرية، لكنه ﷺ علم الأمة وهي تتحرك في مسيرها الحضارية أن هذا الدين لا يقوم إلا بجهود البشر وأعمال المكلفين، فكان التخطيط بكل ألوانه وأنواعه ماثلا وحاضرا في حركة السيرة النبوية وخاصة التخطيط الاستراتيجي بعيد الأمد، وهذا التخطيط الاستراتيجي كان قائما على استشراف مستقبلي قوامه خبرة عميقة وبصيرة نافذة ورؤية واضحة للغايات والأهداف المرحلية والبعيدة، ويتجلى ذلك في مواقف كثيرة أذكر منها:

➖ الهجرة إلى الحبشة: كانت جزءا من الخطة الاستراتيجية لحماية الدعوة بحيث إذا تعرضت للاستئصال في مكة كان ها رصيد استراتيجي من الدعاة المتميزين يواصلون الطريق، واستقر هؤلاء في الحبشة مدة طويلة حتى عادوا عام خيبر، بعد أن تأكد رسول الله ﷺ أن أمر المسلمين في المدينة قد استقر وتمكنوا تمكنا كبيرا بعد غزوات كادت تعصف بالمسلمين وبالمدينة المنورة، كمصيبة أحد وهجوم الأحزاب ومؤامرات اليهود كل هذه المنعطفات كان الاحتمال معها قائما باستئصال المسلمين إلى أن أذن الله تعالى بإجلاء اليهود من المدينة واحتواء بعض القبائل من خارجها وهزيمة المشركين الأمر الذي تحقق به تمكين المؤمنين وانطلاقتهم الكبرى حينئذ أذن لهؤلاء الدعاة في الحضور من الحبشة إلى المدينة.

➖ الاستفادة من القوانين الوضعية ما لم تصادم الحق: من التخطيط عدم الاصطدام بالواقع كله فرسول الله ﷺ يعلم أمرين أولهما: أنه ليس كل ما في الواقع سلبيا تجب محاربته، وثانيهما: أن محاربة الواقع كله أمر فوق الطاقة، فالتخطيط يقتضي التمييز، لتوضع خطة محاربة ما تحب محاربته في الواقع وفق الطاقة والإمكانات، والاستفادة من الصحيح المفيد في هذا الواقع، وقد استفاد النبي ﷺ من بعض قوانين وضعها الناس في نصرة الحق وحماية الدعوة منها قانون (الجوار) وقانون (الأحلاف) يظهر ذلك في مواقف منها دخوله بعد عودته من رحلة الطائف في حوار المطعم بن عدي، ودخوله في حلف مع خزاعة وغيرها من القبائل، وغير ذلك من المواقف التي تبرز لنا كيف استفاد ﷺ من القوانين الوضعية التي لا تصادم الحق.

➖ بناء قاعدة إسلامية مبكرة في المدينة لاستقبال المسلمين المهاجرين، وذلك في بيعة العقبة الثانية حيث آمن العشرات من الأوس والخزرج ورجوعهم دون علم قريش إلى المدينة المنورة قبل الهجرة ليكونوا قاعدة ونواة للدولة الإسلامية التي ستقوم في المدينة بعد الهجرة، حتى يجد ﷺ أرضا مهيأة لهجرته هو وأصحابه.

➖ تصفية مراكز القوى وقيادات الكفر التي كانت محركة للفتن والانقلابات وكانت بمثابة الرؤوس التي لا يمكن استقرار الدعوة والحركة مع وجودها، مثال ذلك الأمر باغتيال كعب بن الأشرف وغيره، وإجلاء بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير من المدينة.

خامسا: أخلاقية المشروع:
يمتاز المشروع الحضاري الإسلامي بعنصر “الأخلاقية” والأخلاق إحدى شعب الإسلام الأربع وهي إحدى سمات المشروع الحضاري الإسلامي بين الحضارات البشرية التي أهدرت القيم وحاربت الأخلاق، ومتى خلت الحضارة من “الأخلاق ” كانت دمارا لا تحضرا، وقد كان النبي ﷺ في منهجية بناء الأمة يؤسس لهذا المعنى ويكفي أن تذكر هذا الحديث كدليل على أخلاقية المشروع الحضاري الإسلامي عن بريدة ، قال: كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا علَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بتَقْوَى اللهِ، وَمَن معهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قالَ: اغْزُوا باسْمِ اللهِ في سَبيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ باللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا. وإذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إلى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ- فأيَّتُهُنَّ ما أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ منهمْ، وَكُفَّ عنْهمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، فإنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ منهمْ، وَكُفَّ عنْهمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ مِن دَارِهِمْ إلى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذلكَ فَلَهُمْ ما لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعليهم ما علَى المُهَاجِرِينَ، فإنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا منها، فَأَخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكونُونَ كَأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ، يَجْرِي عليهم حُكْمُ اللهِ الذي يَجْرِي علَى المُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكونُ لهمْ في الغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شيءٌ إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مع المُسْلِمِينَ، فإنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فإنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ منهمْ، وَكُفَّ عنْهمْ، فإنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وإذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لهمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فلا تَجْعَلْ لهمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لهمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ؛ فإنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِن أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسولِهِ، وإذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، فلا تُنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِكَ؛ فإنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فيهم أَمْ لَا”

وعند أبي داود عن أنس مالك بن رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ كان إذا بعث جيشا قال: «انطلقوا باسم الله لا تقتلوا شيخاً فانيا، ولا طفلاً صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين”.
وأخرج البيهقي بسنده عن أبي عمران الجوني: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى الشام فمشى معه يشيعه؛ فقال له يزيد: إني أكره أن تكون ماشيا وأنا راكب فقال الصديق: إنك خرجت غازيا في سبيل الله وإني أحتسب في مشيبي هذا معك. ثم أوصاه الصديق فقال: لا تقتلوا صبياً ولا امرأة ولا شيخاً كبيرا ولا مريضا ولا راهبا ولا تقطعوا مثمرا ولا تخربوا عامرا ولا تذبحوا بعيرا ولا بقرة إلا لمأكل ولا تغرقوا نخلاً ولا تحرقوه.

إن الأخلاقية من أبرز مقومات البقاء الحضاري والحيوية، لفتت أنظار الناس وألانت قلوب المعاندين، وكانت أكبر مثال على صدق الرسالة ونزاهة دعاتها، فكان الإسلام منهاج حضارة إنسانية حققت مصالح الخلق ليس الإنسان فقط وإنما الخلق أجمعين لأن الله تعالى وصف رسوله بأنه: “رحمة للعالمين”.

إن الجانب الأخلاقي لابد وأن ينال عناية خاصة في العملية التربوية لكل حركة نهضة وتغيير في الأمة اليوم، والأمة اليوم مع تخلفها في مجال الإنجاز المادي في الجانب الحضاري يمكنها أن تقدم للبشرية اليوم أعظم عنصر في التقدم الحضاري وهو العنصر “الروحي والأخلاقي” الذي خلت منه حضارة العصر.


(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية في جامعتي الأزهر الشريف وقطر.

اترك تعليق