مناهج التغيير والبناء الحضاري من خلال السيرة النبوية (8) – الحلقة الأخيرة

 ✍️ أ.د. أحمد محمد زايد(*)

سادساً: مراعاة المنهج السنني:

من نواقص الدراسات العلمية حول السيرة النبوية إهمال البعد السنني في تلك الدراسات، مع أن النموذج الأعلى في مراعاة السنن الإلهية الكونية في الأمم والجماعات والأفراد هو ذلك التطبيق النبوي للقرآن الكريم في إنشاء دورة إسلامية حضارية تاريخية، إن مراعاة السنن الإلهية التي تحكم الكون بصرامة دون تحيز أو محاباة، وتسخير هذه السنن والاستفادة منها والاستعانة ببعضها على بعض من أهم مقومات البناء الحضاري، هذا ما يلحظه دارس السيرة وهو يرصد قوانين ومناهج التغيير التي اتبعها النبي ﷺ في بناء الأمة وتشييد الحضارة الإسلامية العالمية، فقد حقق النبي ﷺ ذلك عمليا، واستدل على ذلك بكيفية التعامل السنني في البناء الحضاري النبوي من كيفيات خلال تعامله ﷺ مع بعض تلك السنن:

1️⃣ التعامل مع سنة الابتلاء والتمحيص: قال الله تعالى: “الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون” نص واضح في أن من سنن الله تعالى في الدعوات الابتلاء، وهو منعطف خطير في مسيرة التغيير والبناء الحضاري يستوجب نظرة دقيقة في التعامل معه باعتباره سنة تقتضي الثبات والمقاومة والتضحية واستشراف الأجر والرغبة فيما عند الله وإغاظة الكفار، ففهم حقيقة الابتلاء والتمحيص كسنة كونية لله تعالى في مسيرة الدعاة والمصلحين يرسم الطريق واضحا أمام هؤلاء، وسوء إدراك هذه السنة يجعل المرء في حالة ضجر وسخط أو استسلام وخنوع أو انسحاب وانزواء، كان النبي ﷺ يوصي أصحابه بالصبر، ويعدهم بالأجر، ويحذرهم من التعجل واستبطاء النصر، فكان ينتقل من محنة إلى أخري ليخرج وأصحابه منها أصلب عودا وأنقى معدنا، وبهذا استمر العطاء الدعوي من ثلة مؤمنة حملت رسالة الهداية وسط أعاصير الابتلاء وأتون المحن وهي في غاية الرضا بالقضاء الرباني في مسيرتها، لا تضجر ولا تتوقف ولا تستسلم.

2️⃣ التعامل مع سنة المداولة والتغيير: علم النبي ﷺ أنه يحمل رسالة عالمية ومعنى ذلك أنه مقدم على عملية تغيير كبرى للمفاهيم والتصورات، والقيم والأخلاق، والأمم والجماعات، إن العالمية الإسلامية تقتضي تغيير أنظمة حكم والإطاحة بقيادات ومناهج لتحدث سنة الله في التداول “وتلك الأيام نداولها بين الناس” وهذا يقتضي إعدادا نفسيا وماديا خاصا للأمة التي تقوم به، فكانت الخطة الاستراتيجية للوصول نحو الهدف، وكان العمل على مستوى الإنسان بدءا من الفرد مروا بالأسرة وانتهاء إلى الهيكل الأعلى للدولة، وعلى مستوي البنيان كان النبي ﷺ يؤسس لحضارة تنهض بالبشرية على مستوى المادة لتحقيق استقرار يؤهلها لعبادة الله تعالى: “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”، ثم كيف زحفت الدعوة بدعاتها وجيوشها ورسائلها لتسقط أنظمة الجاهلية ورموزها ودساتيرها وتقتلعها من حصونها لترسي محلها عقيدة جديدة مع أمة جديدة، كل ذلك وفق رؤية واضحة تدرك مسنة المداولة وتحسن التعاطي معها.

3️⃣ سنة المدافعة والصراع: تقوم الحياة على الخير والشر والحق والباطل، وبين هذا وذلك صراع قديم وممتد إلى قيام الساعة، فهي سنة إلهية جارية حاكمة، ولن يتحقق النصر لأحدهما لمجرد أن أهله أصحاب حق أو أصحاب باطل وإنما لكون هذا الفريق أو ذاك أدرك هذه السنة الخطيرة وأخذ بالأسباب اللازمة للتعامل معها، وقد كان المنهج النبوي في أعلى صور الإعداد والاستعداد للتعامل مع سنة المدافعة والصراع، فراعى واقع أصحابه في مكة لما بدأ التدافع بين فريق أهل الحق وفريق أهل الباطل، فكان الصبر وكف الأيدي شعار المرحلة، واعتبر ذلك نوع جهاد أمر به القرآن وأشاد بأصحابه: “فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاد كبيرا” واستمر العمل والتدافع الحضاري الدعوي والسلمي في تحركات رسول الله ﷺ بين القبائل في منى ومن قبلها إلى الطائف، ثم لما عدت مكة غير مهيأة لقيام الإسلام كمستقر أمن اقتضت حكمته ﷺ أن يبحث عن موطن لدعوته تقوم فيه دولة تحمي الدعوة ومنجزاتها البشرية والحضارية فكانت المرحلة الجديدة من مرحلة التدافع تمثلت في الهجرة إلى المدينة وما ترتب عليها من صراع بين اليهود ومشركي المدينة من الداخل وبين قريش وقبائل العرب من الخارج، وفي وسط هذا الحراك أدار الرسول الكريم ﷺ الأمور وفق فهم سنني لمسالة المدافعة والصراع بكل كفاءة وجدارة.

سابعا: استكمال عناصر القوة:

إن الرؤية الصحيحة للبناء الحضاري تؤكد أن الحق المجرد لا ينتصر ما لم يكن مؤيدا بقوة رادعة، ولذا قال الله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”، يقول الشيخ حسن النا في ذلك:” أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) والنبي ﷺ يقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)، بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو مظهر الخشوع والمسكنة، واسمع ما كان يدعو به النبي ﷺ في خاصة نفسه و يعلمه أصحابه و يناجي به ربه: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)، ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة بالهم و الحزن، وضعف الإنتاج بالعجز و الكسل، و ضعف الجيب و المال بالجبن و البخل، وضعف العزة و الكرامة بالدين و القهر؟.. فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويا في كل شيء، شعاره القوة في كل شيء؟”

لقد كانت الرؤية الثاقبة الدقيقة لمفهوم القوة في البناء الحضاري لدى النبي ﷺ توجب أن يبدأ في بناء القوة العقائدية لدى أفراد هذه الأمة، حتى كانت المرحلة المكية كلها صناعة للإنسان صاحب العقيدة والرسالة، ثم كان العنصر الثاني من عناصر القوة وهي قوة الإخاء المتمثل في النموذج الفريد الذي ذكره القرآن في قوله تعالى: “للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون “.

ثم اقتضى الحال لحماية المنجز الدعوي والحضاري أن تكون لدى الأمة قوة السلاح فكانت تلك العناصر المجاهدة التي خاضت غمار الحروب والغزوات في سبيل الله ترهب أعداء الله.

وبهذه الثلاثية في معنى القوة تمت حماية الأمة ومنجزاتها الحضارية، وحققت إرهاب الأعداء الذي يحقق السلام في ذات الوقت، لأن ضعف الأمة يغري أعداءها بالاعتداء عليها ونهب مقدراتها وسفك دمائها فتدور الحروب وتزهق الأرواح ويذهب السلام.

ثامنا: التحضر والمدنية:

سلك النبي ﷺ من خلال حياته المباركة مسلك التحضر والمدنية، وأنقذ البشر من شر البداوة وجفائها وقسوتها، وهذا بعد ينبغي التنبيه إليه كمعلم من معالم بناء الحضارة زمن النبي ﷺ وقد يظن البعض أن البداوة كانت سمة الدولة في عهد النبي ﷺ، وربما ذهب الخيال بآخرين إلى أن الحياة المدنية المتحضرة أمر طارئ على المسلمين عرفوه من دول مجاورة لهم هنا أو هناك، وهذا تصور غير علمي يجافي الحقيقة ويخالف الواقع، ربما كان منشؤه قصور في الاطلاع على تفاصيل الحياة الإسلامية الأولى في الدولة الإسلامية في عهد النبي الخاتم ﷺ وعدم الوقوف على المصادر التي تناولت ذلك.

ولذا قال الكتاني في التراتيب الإدارية: “إن الذين اعتنوا بتدوين المدنية العربية والتراتيب الإدارية لخلفاء المملكة الإسلامية وذكروا ما كان لأمراء الإسلام على عهد الدولة الأموية والخلافة العباسية من الرتب والوظائف والعمالات والعمال أهملوا ما كان من ذلك على عهد رسول الله ﷺ مع أنه عليه السلام حيث كان يشغل منصب النبوة الديني على قاعدة جمع دينه القوم بين سياسة الدين والدنيا جمعا مزج بين السلطتين بحيث كادا أن يدخلا تحت مسمى واحد وهو الدين.

وهذا مفهوم ينبغي تصحيحه في عقول الكثيرين من المسلمين وخاصة المثقفين الذين غابت عنهم معالم المدنية والحضارة في الدولة النبوية ولم يروا إلا جملة الشعائر والشرائع الإسلامية، ظانين أن الإسلام دين غير متحضر ولا متمدن وقد نبه الكتاني إلى خطأ مسلك هؤلاء قائلا:”الذين يتعاطون السير اليوم غاية ما يقرءون من كتبها الهمزية يشرحها لبنيس، فلذلك لا يستغرب أن يشذ عن أبصارهم أمثال هذه الوظائف والمراتب والإدارات، وربما استبعد ذلك آخرون من حيث إن الكتاب الذين تصدروا أخيرا للبحث في المدنية الإسلامية العربية ودونوا فيها المدونات العدة من المسلمين والمسيحيين غاية ما ينسبون من التمدن للإسلام يذكرون ما وجد على عهد الدولة العباسية والأموية مثلا مع ما أوجدته بعد ذلك ممالك العجم والديلم والترك والفرس والبربر وغيرهم من ملوك الدول الإسلامية بالشرق والغرب بل وربما كانوا يأتون بنسبة المدنية في الإسلام لبني العباس ليتسني لهم بعد التصريح بأنهم أخذوا ذلك عن اليونان والفرس لا عن القرآن والنبي ﷺ.

فإقامة الحياة بكل متطلباتها ومقوماتها على أبدع صورة كان جزءا من المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري وقد أحصيت في كتاب “التراتيب الإدارية” للكتاني جملة من المهن والصناعات والأعمال والوظائف التي تدل على مدى تحضر الدولة النبوية التي أقامها النبي ﷺ فوجدتها كثيرة وهي في جملتها دالة على مدى التحضر والمدنية للدولة الإسلامية.

➖وفي الجدول التالي بيان لأبرز الوظائف والأعمال المدنية والأنشطة العمرانية والأوجه الحضارية للدولة النبوية في الحالات المختلفة:

1️⃣ الديني:

معلم القرآن – معلم الكتابة – المفتي – العابر للرؤى – إمام الصلاة المؤذن – الموقت – المسرح والمجمر– عامل المسجد – الساقي – إمارة الحج – حجابة البيت – السقاية – وغير ذلك من الأعمال والوظائف.

2️⃣ السياسي:

الوزير – صاحب السير – الحاجب والآذن والبواب – الخادم – صاحب الوساد والنعلين – الإمارة العامة على النواحي – الرسل والسفراء – والمخابرات.

3️⃣ العمليات الكتابية والعلمية:

كاتب الوحي – كاتب الرسائل والإقطاع – كاتب العهود والصلح – حامل الكتاب والرسائل- الترجمان – الشاعر – الخطيب – كاتب الجيش – العرفاء – المنادي – المحاسب – النقباء – الأوصياء – الأقلام القصبية – القلم والدواة – (الكاغد) الورق – كتابة التقارير الجغرافية – ترجمة الكتب العمرانية القديمة من الطب والصناعات – علم الخط – علم الأنساب – تعطي الشعر – علم الفرائض – علم الرماية والسباحة – الإملاء وغير ذلك من العلوم والأعمال والوظائف.

4️⃣ العمالات الأحكامية:

الإمارة – القاضي – صاحب المظالم – قاضي المناكح – الشاهد وكاتب الشروط – فارض المواريث – فارض النفقات – الوكيل المالي – الخبير في أمور البناء – القسام – المحتسب- صاحب العسس – الحراسة – السحان – مقيم الحدود – ولاية المظالم وغير ذلك الكثير.

5️⃣ الجانب الحربي والعسكري:

أمير الغزو – القائد – نائب الإمام إذا خرج إلى الغزو – حامل اللواء – المقدم على الرماة ومثله على الرجالة – صاحب المقدمة ومثله الميمنة ومثله الميسرة – وصاحب الساقة – الوازع – صاحب الخيل – المسرج – الدليل – مسهل الطريق – الحارس – المتجسس – المخذل – صانع السفن – صانع المنجنيق – الرامي به – قاطع الشجر – صاحب المغانم ومثله الخمس – أمير الرماة – طلائع الجيش – وغير ذلك.

6️⃣ الجانب الصحي والطبي:

المارستان – الطبيب- الراقي – القاطع للعروق – الكواء – القافي – وغيرها.

7️⃣ جانب الحرف والصناعات والمهن والفنون والرياضات:

النساج – البزاز – العطار – العراف -بائع الرماح – بائع الطعام والثمار – الدباغ – الدلال – الخياط – النجار – ناحت الأقداح – الصواغ – البناء – الحداد – الخراط – الصيد في البحر والبر – عامل الحوائط – السقاء بالأجر – الحمال – الحجام – الجزار – الطباخ – الماشطة – القابلة – الخافضة – المرضعة – المغني – حافر القبور – غاسل الموتى – الجلاب – المصور – الصباغ – السباح – صانعة الحريرة – بائعة اللبن- الخباز – الغزل – المغنيات – الموسيقى – المسابقة – المصارعة – الرماية – لعب البنات – التمريض – بائع السيوف

إن دراسة السيرة النبوية بصورة شمولية تكاملية لتعطينا هذا البعد المنهجي في منهجية إقامة الأمة والحضارة على السواء.

تاسعا: حماية الأمة والدعوة:

لا ينبغي التوقف عند مجرد البناء والإنجاز والتفاخر بذلك بل لابد من اليقظة في حماية هذا البناء وذلك الإنجاز، البناء على صعوبته، والإنجاز على أهميته يتطلب حماية وحراسة من مخاطر داخلية وخارجية، وقد أسهمت العناصر السابقة من معالم المنهج النبوي في تحقيق الحماية، فعنصر التخطيط الاستراتيجي منع من الوقوع في أزمات غير متوقعة ومهد الطريق أمام الدعوة لاستمرار عطائها، وعنصر القوة حقق للأمة الحماية من خطر تهديدات الداخل (المنافقين) والخارج (المشركين ومن والاهم)،

➖وقد تحققت الحماية بمجموعة من التصرفات والتراتيب النبوية الحكيمة منها على سبيل المثال:

1️⃣الهجرة إلى الحبشة.

2️⃣ترسيخ مفاهيم (الأخوة – الولاء – المواطنة).

3️⃣الهجرة إلى المدينة وإقامة الدولة لتحمي أفرادها وتنشر رسالتها.

4️⃣الجهاز الاستخباراتي القوي.

5️⃣التخطيط الجيد.

6️⃣وثيقة المدينة وما تضمنته من بنود تحمي الأمة من الداخل والخارج.

7️⃣الجهاد

8️⃣بناء منظومة اجتماعية قوية.

هذا والله تعالى أعلى وأعلم وأعز وأحكم.


(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية في جامعتي الأزهر الشريف وقطر.

اترك تعليق

  1. يقول محمدلوح أبو مصطفى:

    ماشاءالله ! ياحبذا لوتم طبع البحث في شكل كتيب ونشره لتعم الفائدة