نحو استشراف مستقبل التعليم الجامعي من ظُلْمةِ الكهف وظلال النَّفَق إلى استعادة النور والضياء

بقلم أ.د. فتحي حسن ملكاوي

ثَمَّة شكوى مريرةٌ من تدهور حالة التعليم بشكل عام، والتعليم الجامعي بشكلٍ خاص، بالمقارنة مع ما كانت عليه هذه الحالة قبل عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن. ونجدُ هذه الشكوى في معظم البلاد العربية وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة.

وتصدر هذه الشكوى غالباً من أساتذة الجامعات المتقاعدين وكبار السن الذين يستذكرون بحسرةٍ ما كان لهم من مكانةٍ داخل الجامعة وخارجها، ويتحدثون عن الحرية التي كانوا يتمتعون بها، والعلاقات الإيجابية التي كان تسود البيئة الجامعية، فضلاً عن التميّز الذي كان موجوداً في نوعية الطلبة الذين كانوا يتعاملون معهم في الجامعة، وأعدادهم القليلة إلى الحدِّ الذي كان الأستاذُ يعرف معظم الطلبة بأسمائهم وظروفهم.

أما الطلبةُ أنفسهم وأولياء أمورهم، فهم يجدون أنفسَهم بين همَّيْن كبيريْن؛

همّ الكلفة المادية الباهظة للتعليم الجامعي بمساراته المالية المتصاعدة، وهمّ البطالة التي تنتظرهم بعد تخرّجهم من الجامعة، حتى أصبح الحديثُ ينصرفُ غالباً إلى قيمة الجامعة بدلالة العائد المادي للتعليم الجامعي، دون أن يُقلّل ذلك من التزايد المتواصل للإقبال على هذا التعليم.

وفي خضم هذه المشاعر التي تعبِّر عنها الفئات المختلفة ذات الصلة بالجامعة، فإنَّ الحديثَ ينتقلُ أحياناً إلى ما هو أهم من ذلك كلِّه، وهو الخلل الذي أصاب منظومة القيم الجامعية، بمستوياتها المعرفية والمؤسسية والتنظيمية، بما في ذلك قيم الأستاذ الجامعي، ولا سيما فيما يختص بقضايا الدراسات العليا والإشراف على أطروحات الطلبة ومناقشاتها، وأعباء النشر في الدوريات العلمية، والحديث المتّصل عما يعرف وما لا يعرف عن السرقات العلمية، والانتحال، وإعداد البحوث والأطروحات لقاء مقابل مالي.

ولعلّ من الإنصاف أن نلاحظ أنَّ التدهور في حالة التعليم الجامعي لا يقتصرُ على البلاد العربية، وإنما هو ظاهرة عامة، نجد الحديث عنها في البلدان المختلفة.

وأودُّ أن أذكر – في هذه المقالة – مثالاً واحداً، وهو كتاب صدر حديثاً عام 2021، وثّقت فصوله الستة عشر عدداً كبيراً من البحوث والدراسات التي تُلقي نظرة تشاؤمية على مستقبل التعليم الجامعي.

وقد صدر الكتاب، عن دار النشر البريطانية Springer، وهو المجلد العاشر ضمن سلسلة كتب بعنوان “مناقشة التعليم العالي: وجهات نظر فلسفية” Debating Higher Education: Philosophical Perspectives.

وقد أكدت محررة الكتاب أن هدف الكتاب هو معالجة تلك النظرة التشاؤمية إلى مستقبل التعليم الجامعي، وإعطاء شيءٍ من الأمل والتفاؤل.

ولذلك جاء الكتاب بعنوان: “وَعْد الجامعة: استعادة الإنسانية والتواضع والأمل”. ومحررة الكتاب Aine Mahon هي أستاذة فلسفة التعليم في جامعة دبلن الإيرلندية، وقد استكتبتْ فيه عدداً من أساتذة الجامعات البريطانية والإيرلندية، إضافةً إلى أستاذ أمريكي وآخر ياباني وثالث من السويد. (هامش رقم 1).

وتحاول محررةُ الكتاب معالجةَ الافتراض الذي يقول:

“لا توجد ضمانات بأنَّ التعليم العالي سيُخرجنا من الكهف، بل إنَّ من المحتمل أنْ يؤدي هذا التعليم، عن غير قصد، إلى انحراف الطلبة عن مسارهم، ويُوصلهم إلى مكانٍ يتصف بالظلمة الوجودية والمعرفية”. (هامش رقم 2) ويُعدُّ الكتاب قراءة فلسفية للتعليم العالي المعاصر، وذلك بالإشارة إلى الشخصية الأخلاقية لأساتذة الجامعة وطلبتها، واستكشاف القدرات والاحتمالات التي يمكن أنْ تقودَ الجامعة إلى التحسّن أو التدهور.

تقدِّم المحرِّرةُ في الفصل الأول من الكتاب الأساسَ المنطقي للموضوع الذي يلخِّص النقاشات المؤسسية والتعليمية التي تستعمل استعارات مختلفة من أجل الاستكشاف النقدي للجامعة. (هامش رقم رقم3) ومن بين هذه الاستعارات مظاهر الظلام والتآكل والاعتماد والموت، التي تلوِّن كثيراً من الدراسات حول واقع التعليم الجامعي ومستقبلة بالتشاؤم.

وعلى الرغم من الاعتراف بالمخاطر والتخوّف مما قد يؤول إليه هذا التعليم، فإنَّ محررة الكتاب تفضل التفاؤل، لذلك استعملت في عنوان الكتاب مصطلح “الوعد promise” من قبيل التوجه نحو المستقبل، على أمل أن يتخذ المساهمون في هذا الكتاب مساراً مختلفاً عن أولئك الذين يتحدّثون عن حالة مرضية، أو يتحسرون على الحالة الراهنة للجامعة حين يحكمون على أنها حالة ميؤوس منها.

وبدلاً من ذلك حاولت المحررة أن تؤكد أن التعليم العالي هو مشروع إنساني ومتواضع ومفعم بالأمل، وتتوقف إمكاناته الفريدة في مستقبله على الثقة بهذا المستقبل التي يلزم أن تتوفر لدى جميع الأطراف المشاركة في العمل الجامعي.

وقد جاءت مادة الكتاب المذكور في ثلاثة أقسام، وفي كل قسم خمسة فصول.

وحمل القسم الأول عنوان مواجهة الظُّلْمة facing darkness، وتحدثت فصوله عن أشكال الفساد والتدهور وغياب الثقة وتدهور القيم المؤسسية، وأزمة ضعف الإيمان المؤسسي.

وحمل القسم الثاني عنوان تبديد الظلالdispelling shadow ، وتحدثت فصوله عن مزيد من المشكلات التي يعاني منها التعليم الجامعي، ومنها ضعف التفاعل مع المجتمع، وعدم الاستماع إلى صوت الطلبة، وفقدان الطموح، وسيادة رؤية واحدة للعالم هي الرؤية الميكانيكية.

أما القسم الثالث من الكتاب فجاء بعنوان: استعادة النور regaining light وتحدثت فصولُه عن بعض المقترحات التي يمكن أن تُخرج التعليم الجامعي من حالة الغموض والتدهور التدريجي.

لكن كثرة ما ورد في فصول الكتاب بأقسامه الثلاثة من الأمثلة عن مشكلات التعليم العالي لم تنجح – فيما يبدو لكاتب هذه السطور على الأقل- في إزالة روح التشاؤم الذي يستدعيه الحديث عن هذه المشكلات.

قلتُ: إنَّ هذه الكتاب هو مثالٌ واحدٌ على هذا النوع من الكتابات التي تتحدث عن مشكلات التعليم الجامعي، إلى درجة تجعل من الصعب التفكير في مستقبل أفضل لهذا التعليم. ويمكننا أن نتساءل عن درجة التطابق في وصف التعليم الجامعي في بلدان العالم، مع واقع التعليم الجامعي في البلدان العربية.

ويزداد هذا التساؤل أهمية عندما نتذكر أنَّ أدبيات الثقافة العربية السائدة منذ مطلع القرن العشرين، حملت شعاراً يقول:

“إن واقع التعليم هو أساس المشكلة التي تواجه الأمة العربية، وإن إصلاح التعليم هو أساس حلّ هذه المشكلة”، ونتذكر كذلك كيف تحوّل ذلك الشعار منذ بداية الثلث الأخير من القرن العشرين إلى شعار يقول: إنَّ التعليم الجامعي هو قاطرة الإصلاح التعليمي كله، وقاطرة الإصلاح في الواقع العربي كله.

وأخيراً:

فإننا لا نريد في هذه المقالة أن نُعزّز اليأسَ والتشاؤمَ من مستقبل التعليم الجامعي في العالم بصورةٍ عامة، وفي العالم العربي بصورةٍ خاصة، وإنما نريد أن نؤكد أن هذه الصورة المتشائمة لا يجوز لها أن تُحبطَ جهود العاملين المخلصين الذين لا نشك في وجودهم في قطاعات التعليم العام والتعليم الجامعي، وهم يسعون حثيثاً للخروج من كهف الظلمة ونفق الظلال وصولاً إلى استعادة النور والضياء.

اترك تعليق