يوم الوفاء لآخر الكبار في تركيا

د. محمد بشير حداد

يوم التجدد الشعبي برسالة الإسلام ودوره الحضاري تجلى، في تشييع جنازة مولانا الشيخ محمود أفندي رحمه الله.

جموع كبيرة كبيرة من كل المدن والقرى التركية ومن خارج تركيا توافدت على إسطنبول عبر النقل الجوي والبحري والطرق البرية ومن كل الشرائح العمرية تتوجه الى جامع السلطان الفاتح لتشارك في تشييع جنازة آخر الكبار في تركيا مولانا الشيخ محمود أفندي مرشد جماعة جامع إسماعيل آغا في منطقة الفاتح رحمه الله.

جنازة شهدها ما يقارب الثلاثة ملايين ¸وتعتبر الجنازة الأكبر منذ القرن العشرين والتي لم أشهد لها نظيرا في حياتي والتي تمت يوم الجمعة 24/حزيران –يونيو-2022.

من مساء يوم الخميس أغلقت الطرقات بمنطقة الفاتح على السيارات، وقد اضطررت صباح يوم الجمعة لأن أوقف سيارتي في منطقة بيرم باشا وأركب المترو لأصل لمنطقة الفاتح وكانت محطة المترو حين وصلت لمحطة أمنيات الفاتح تغص بالقادمين من كل حدب وصوب، ولم أستطع من شدة الزحام الوصول لشارع فوزي باشا الذي يطل عليه جامع السلطان الفاتح إلا بشق الأنفس وقد أظهرت الصور الجوية حشود الملايين حول الجامع.

– المعارض التجارية الكبيرة في شارع فوزي باشا فتحت أبوابها للمصلين لتنتظم صفوفهم داخلها لآداء صلاة الجمعة وصلاة الجنازة مع تبريد يلطف الأجواء، ولقد أديت صلاة الجمعة وصلاة الجنازة على الفقيد الكبير الشيخ محمود أفندي رحمات ربي عليه داخل أحد المعارض التجارية في صفوف منتظمة مع من هم في الشارع وصولا الى داخل المسجد، جزى الله أصحاب تلك المحلات التجارية خيرا.

– اللافت للنظر بل والمدهش كذلك هو توفير الخدمات اللوجستية عالية الخدمة والجودة للتشييع وللمشيعين والتي لم أشهدها في أي جنازة وأحسب أنها غير مسبوقة في العالم كله، وأهمها ما يلي:

– إحضار رافعات متحركة كبيرة وكثيرة في الشوارع ونصب السماعات الكبيرة التي تنقل بأداء عال جدا خطبة الجمعة وصلاتها وصلاة الجنازة وكلمات الخطباء للملايين التي حضرت في الشوارع المحيطة بالجامع وعبر القنوات الفضائية.

– توفير سيارات الإسعاف وفرق الرعاية الصحية بأعداد كبيرة.

– توفير المشروبات للمشيعين.

– الضبط الأمني الشامل اللطيف والدقيق في لحمة تامة بين قوى الأمن التركي والمشيعين فالمصاب واحد.

ولقد تقدم جموع المشعين الرئيس أردوغان وكبار شخصيات الدولة وقال الرئيس

 أردوغان عقب أداء صلاة الجنازة على روح الشيخ الراحل قال في كلمته:

 “اليوم، نودع أحد زعمائنا، صاحب العلم والعرفان والحكمة، إلى رحلته الأبدية”.

وأضاف “عندما كنت طالبا في مدارس (إمام خطيب) في الفاتح، بين عامي 1965 و1966، كنا نؤدي صلاة الجمعة في جامع إسماعيل آغا، ونستمع إلى الشيخ محمود أفندي، كما اعتدنا أن نجري محادثات في مسجد يافوز سليم من وقت لآخر”.

وتابع “في الواقع، وخلال حياته، الذي تم اعتباره المهندس الروحي لهذه الأمة، الذي خاض صراع يمتد من الشرق إلى الغرب، ونعلم أنه لم يتنازل ذرة واحدة عن الفرض والسنة، وقد عانى كثيرًا”.

وأوضح أردوغان أنه “بهذا الإيمان، نؤمن أنه سيكون من جيران حبيبنا رسول الله”.

ملامح من شخصية الشيخ محمود أفندي:

 لقد عرفته رحمه الله منذ منتصف الثمانينات من القرن العشرين بصحبة العلامة الأستاذ محمد علي الصابوني رحمهما الله في مجالس خاصة فوجدته مذ أن عرفته حتى آخر حياته المباركة نقي القلب سليم الصدر مستغرقا دوما بذكر الله تعالى ودائم المراقبة له, معرضا عن اللغو , يجمع ولا يفرق ويتألف ولا يباعد, يبشر ولا ينفر , مهيب الحضور قليل الكلام ،غاض للصوت معرض عن اللغو، مترفع عن الصغائر مشدود لجليل الأحوال والأعمال والعطاء،

 يرنو ببصيرته وهمته وعزيمته لمستقبل مشرق للإسلام ودعوته ولسطوع أنواره في الآفاق على العالمين رحمة وهداية وصلاحا وإصلاحا

مقبل بالكلية على الدعوة اللطيفة التي لا تعرف الكلل ولا الملل الى منهج الله وهديه، يعظم كل السنة النبوية الشريفة، حريص على دوام الاتباع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجتهد في إحياء السنة المحمدية في العالمين، متخلق بالأدب المحمدي الرفيع الجميل،

 قليل النوم، منتصب لربه في ليله ونهاره، مخبت ومرشد وناصح ومعلم ومتبتل.

كان حاد الذكاء، استراتيجي الرؤية والتخطيط الدعوي الطويل المدى، ذا إرادة صلبة، يمتلك قدرة هائلة على مواجهة التحديات والأزمات بالصبر الجميل والفعل الحكيم، لا يستعجل النتائج، ولا يفرط في أي فرصة ولا لحظة أن تفوته إلا وقد أضاف فيها قيمة إيجابية للأمة والإنسانية،

تميز بأنه منفتح الفكر لا حد لطموحه، ومبتكر في معالجات الأزمات، ومبدع في إدارتها رغم أسوء ظروف القهر ولتنكيل منذ خمسينيات القرن العشرين بما يحقق الواجب والمأمول بأعلى جودة وأوسع انتشار ودون تعرض للأذى الكبير.

 لن تجد له خطبا رنانة لكنك يقينا ستجد لسعيه الدعوي وجهده الإصلاحي آثارا جليلة كبيرة جدا عظيمة جدا كما ونوعا في كل شبر من تركيا وخارجها، لا يدخل في مهاترات ولا جدليات تمزق الصف.

 يؤمن بأن الساحة الدعوية الإسلامية تسع جميع ألوان الطيف الدعوي فيتعاضد مع الجميع لتمكين رسالة الإسلام أن تستوي على سوقها بجذور راسخة في الأرض ممتدة للسماء لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

جهوده الدعوية:

 الشيخ محمود أفندي هو التلميذ الأبرز للشيخ الجليل الرباني علي حيدر رحمهما الله آخر شيخ للإسلام في الدولة العثمانية وهو من كبار فقهاء العالم الإسلامي والعاملين في الظروف الصعبة لاستعادة الإسلام لحياة المسلمين وهو عالم مكين وداعية فذ والشيخ محمود أفندي حمل هذه المهمة من شيخه فهو عالم داعية.

 – انطلقت جهوده الدعوية بتفقد جيران جامع إسماعيل آغا الذي تولى إمامته والتلطف بهم حتى أخذوا يترددون على الجامع وعلى الشيخ وجعل يعزز فيهم محبة واتباع رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ويأخذهم برفق الى سنته في حياتهم الفردية والأسرية والاجتماعية ثم الاقتصادية بترفق وتلطف وتبشير وتيسير , وكتب الله له القبول وشهدت مسيرته العلمية الدعوية مناشط عدة متنوعة ومتكاملة للنساء والرجال والكبار والصغر والشباب والمثقفين والتجار ليتحول كل منهم الى داعية، ودعم مدارس إعداد الأمة والخطباء وانطلق قطار هذا التعليم من جماعته بقوة وتميز كما ونوعا ليواكب تلك المدارس الشقيقة الآخذة بالانتشار، ورعى قضية تحفيظ القرآن لإنشاء أجيال قرآنية متميزة حتى غدت تركيا اليوم تفاخر العالم الإسلامي بملايين الحفاظ المتقنين والملتزمين.

وحين واجه الضغوط والمؤامرات بتلبيس التهم له صمت عن رد الأذى وانتصر القضاء لبراءته من تلك الافتراءات.

ولقد أغاظ الذين لا يريدون للإسلام أن يكون حاضرا في الحياة العامة فقاموا بإرهابه عبر تنفيذهم جريمتي اغتيال لصهريه رحمهما الله عبر مرحلتين، وهم من العلماء الدعاة داخل جامع إسماعيل آغا بتتابع ليسكتوه ويبطلوا مشاريعه الدعوية؛ فصابر وواجه الأزمة بتعال حملة الرسالة الدعوية الأقوياء، واستمرت مسيرته دون تعثر كبير، وقد تعرض هو رحمه الله كذلك لمحاولة اغتيال وأفشلها الله.

– استطاع ببراعة تدبيره وحنكته التخطيطية الدعوية أن تصل آثاره الدعوية لكل فئة ولكل مكان في تركيا.

– حمل الرسالة الدعوية بتجرد لله من كل غرض وبكل رفق ولطف وسعة أفق فالتف الجمهور حوله بالملايين من كل الشرائح الاجتماعية في تركيا وخارجها..

– لقد كانت جهوده وحياته كلها تتمحور حول:

 -الدعوة الى الله أولا

– إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أولا

– إيقاظ المسلمين ليكون الإسلام روحهم وحياتهم أولا.

 كل ذلك في ظلال قول الله تبارك وتعالى:

*قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت*.

 فبارك الله له الغرس، وبارك منه الجهد، فطاب المكسب الدعوي للإسلام، ملايين نشهدها اليوم تلتزم الهدي الرباني وتتأسى بالجناب المحمدي النبوي الشريف من النساء والشباب والرجال ومن العمال ورجال الأعمال ومن المثقفين والمهنيين والأكاديميين من صدى جهده الدعوي الرائد.

 – لقد أحدث ببراعة وحكمة رائعة في تركيا حراكا إيمانيا؛ فذا عميق الجذور راسخ الأسس وباسق الأغصان عصي بإذن الله على كل المكر والأحقاد.

– ولقد وقف معه علماء إجلاء يدعمون مشاريعه الدعوية وقد شهدت ذلك، فقاموا معه بكل ما يستطيعون معنويا وماديا في أداء الواجب الدعوي لما وجدوا فيه من صدق وتجرد وتفان وإبداع دعوي ومنهم أصحاب الفضيلة:

 الشيخ محمد محمود الصواف، والشيخ محمد علي الصابوني رحمهم الله جميعا.

– ويوم الانقلاب الفاشل على الرئيس أردوغان كان للشيخ محمود أفندي دور رئيس مع محبيه في إفشاله شعبيا وقد حفظ بهذا للشعب التركي ولتركيا استقرارها السياسي والمدني.

– لقد بث العلم الشرعي في تركيا، وأحيا الاتباع المحمدي، وجدد الإسلام ليكون منهج حياة وباعث نهضة وإصلاح في تركيا بتكامل ميداني مع كل العاملين في الساحة الدعوية في تركيا بتآلف وتفان وعطاء بلا حدود.

– إن الحراك الدعوي في تركيا وخاصة جهود الشيخ محمود أفندي الدعوية جديرة جدا في البلاد العربية أن تكون محل تأمل وتعلم لا محل استنساخ وتقليد.

– إن التجربة الدعوية في تركيا ومنها جهود الشيخ محمود أفندي رحمه الله الكبيرة والجليل قد تفوقت بعمق النظر في الحاضر والمستقبل مع سعة الأفق، والتزام ترتيب الأولويات، والبراعة في إدارة الأزمات ومواجهة التحديات بما مكنها من تعظيم النتائج وتقليل الخسائر وتخفيض الصدام وتحييد كثير من الأعداء … فيما اضطرب ذلك لدى معظم المدارس الدعوية لدينا في البلاد العربية للأسف؛ ولا زلنا نتابع الفشل.

– قد تختلف معه في الأسلوب أو الأولويات وسواء وافقته أم لا، لكن جهده الدعوي وأثره الإصلاح يبقى محل تقدير واعتزاز وتعلم واستفادة عبر الأجيال.

التصوف عند الشيخ محمود أفندي:

– التصوف عند العلماء الربانيين ومنهم الشيخ محمود أفندي هو سير الى الله تعالى بالاتباع والتزكية وفق ما شرع وأحب للوصول الى رضوانه وقربه وهو بعيد جدا عن الابتداع والمخالفات الشرعية – منضبط بأحكام الشريعة وحدود السنة الشريفة، – وهو ترق دائم في مراتب مقام الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

– التصوف عند العلماء الربانيين هو الأخذ بيد العباد أيا كانوا وبكل تلطف الى التقرب من الله سبحانه وتعالى ومحبته والمسارعة في مرضاته.

 – التصوف عند الربانيين لا يعرف السلبية ولا التواكلية ولا مداهنة المتصوفة اليوم من الذين نراهم وقد غدو تجار بالتصوف الذي يغطي شبقهم للمناصب وجشعهم للمال والمنازل والمراكب والأضواء عند ذوي السلطان والثراء وللأسف على حساب الدين والحق والعدل والإيمان والإنصاف.

  – المتصوفة يسبحون بحمد الظلمة ويذلون لهم ويتفانون في التقرب من الطغاة بينما الصوفية الربانيون يتجنبون الظلمة تماما ويرفضون تأييدهم ولو بحرف واحد أو بإشارة بل ينصحونهم ويذكرونهم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويأمرونهم ولا يخشون في الحق إلا لله.

– المتصوفة يدورون حول لعاعات من الدنيا، والصوفيون الربانيون كل الدنيا ببريقها لا يسمحون أن تتسلل إلى قلوبهم لأنها لا تساوي عندهم ذرة من القلب السليم

 – الصوفيون الربانيون ليس في قلبهم إلا محبة الله وخشيته والتقرب اليه، والمتصوفون يطوفون حول المكاسب والمغانم والمناصب ورضى الظلمة الفسقة الفجرة.

– المتصوفة لا يقدمون قيمة مضافة للدعوة ولا للأمة ولا للإسلام ولا للإنسانية بل ينابذون الدعوة والدعاة، ويتقربون للظلمة بتحريضهم على الدعاة الى الله وتلفيق الافتراءات والتهم عليهم، و التفنن في تنفير الناس منهم شأنهم في ذلك شأن أعداء الإسلام في الصد عن سبيل الله، وهم عبيد للفسقة عبيد للدنيا عبيد للهوى وللنفوس الأمارة بالسوء؛ والصوفيون الربانيون كل حياتهم لله،  نورهم باهر وحالهم مدهش وأثرهم عميق، وتجردهم لله تام يحيون لله فقط، كذلك كان الأئمة الكبار الحارث المحاسبي والجنيد والرفاعي والجيلاني والبدوي والشاذلي ومحمد النبهان ومحمود أفندي وغيرهم كثير رضوان الله عليهم.

– الصوفيون الربانيون طابعهم اللطف وخلقهم الرحمة وتدبيرهم الحكمة قد تطهروا من الأنا وانتفاخ الذات وهم في عبودية صادقة لله أبدا.

– المتصوفة وتجار التصوف هم عبيد الأنا وعبيد الطاغوت طابعهم الاستعلاء وخلقهم الاستكبار، الأنا عندهم تنتفخ في ذواتهم حتى تنازع الله في عظمته والعياذ بالله.

– الصوفيون رجال الله ينطبق عليهم قول الله تعالى (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليهم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).

هكذا كان مولانا الشيخ محمود أفندي رحمات ربي عليه إماما رائدا بين العلماء الدعاة الربانيين وهو آخر الكبار رحيلا في تركيا من الأفذاذ، وكل قام بواجبه النهضوي الإصلاحي في تركيا منهم:

– سعيد النورسي.

– علي حيدر.

– عدنان مندريس.

– نجم الدين أربكان.

– تورغوت أوزال.

– محمد أمين سراج.

 .. ليكونوا نماذج وضاءة لمن بعدهم تحفز الهمم لاستسهال الصعب، والتخطيط طويل المدى والعطاء في كل الظروف والصعاب مع النفس الطويل، وعدم الاستعجال، والسعي الحثيث التراكمي.

(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.)

اترك تعليق

  1. يقول د. ياسر حسن:

    ما شاء الله تبارك الله مقالة بديعة. ومن أسف أن الشيخ المجدد محمود أفندي رحمه الله في عليين لا يعرفه الغالبية العظمى من الشعب العربي ربما بسبب كلمة (صوفي) والله المستعان حتى إنني نشرت عنه في الفيسبوك وكان التفاعل شبه معدوم!