بقلم/ د. وصفي عاشور أبو زيد
أعظم أيام السنة على الإطلاق هو يوم عرفة؛ لما له من فضل وأجر ومثوبة وردت بها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، ويقف عرفة بين أيام الحج بل بين أيام لدنيا كلها يومًا فريدا في عظمته وفرادته وقيمته؛ حتى قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “الحج عرفة”. [الترمذي، والنسائي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن يعمر].
تجليات العظمة في فريضة الحج عامة
إن التأمل في فريضة الحج ابتداء من نداء إبراهيم عليه السلام بمقتضى قول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ﴾ [الحج ٢٧]، الذي أذن في الناس كما أمره الله؛ فظل الناس يلبون هذا النداء، ويجيبون هذا الأذان حتى يوم الناس هذا وإلى قيام الساعة، وإنما يدل على العظمة الإلهية التي لا نظير لها عن أية آلهة مزعومة عند البشر، وقد أخرج الطبري في تفسيره لهذه الآية بسنده عن ابن عباس، قال: “لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: ﴿أذّنْ فِي النَّاسِ بالحَجّ﴾ قال: ربّ ومَا يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ البلاغ فنادى إبراهيم: أيها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فحجوا- قال: فسمعه ما بين السماء والأرض، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون”.
ومرورا بأداء المناسك التي يلبون فيها ويكبّرون ويسبحون ويهللون، أتوا من كل فج عميق لتلبية هذا النداء الإلهي العظيم، ولقصد هذا الرب الكريم بلباس واحد، إلى قبلة واحدة، وأذكار واحدة، ونشيد موحد: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”. يستوي في ذلك القوي والضعيف، الغني والفقير، المشهور والمغمور، الوزير والخفير، الحاكم والمحكوم، الكل أمام الله سواء، والجميع يخضعون لإله عظيم لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى: ﴿ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ [الحجرات ١٣].
ذكر الله أعظم مقاصد الحج
ومما يشهد على عظمة الألوهية في هذا اليوم أن أعلى مقصد من مقاصد الحج هو ذكر الله تعالى، وتعالوا لنلقي نظرة سريعة على أبرز المناسك وكيف تحدث عنها القرآن الكريم والسنة النبوية وبينت النصوص هذا المقصد بجلاء:
ففي المناسك جميعا والفريضة كلها يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ . لِّیَشۡهَدُوا۟ مَنَـٰفِعَ لَهُمۡ وَیَذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡلُومَـٰتٍ﴾ [الحج ٢٧- ٢٨].
وفي مزدلفة يقول تعالى: “فَإِذَاۤ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَـٰتࣲ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ﴾ [البقرة ١٩٨].
وفي أيام التشريق يقول عز شأنه: ﴿۞ وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡدُودَ ٰتࣲۚ﴾ [البقرة ٢٠٣].
وعند ذبح الهدي قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةࣲ جَعَلۡنَا مَنسَكࣰا لِّیَذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِیمَةِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِۗ فَإِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱ فَلَهُۥۤ أَسۡلِمُوا۟ۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِینَ﴾ [الحج ٣٤]. وقال أيضا: ﴿لَن یَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاۤؤُهَا وَلَـٰكِن یَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ كَذَ ٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [الحج ٣٧].
وعند انتهاء الحج قال عز وجل: ﴿فَإِذَا قَضَیۡتُم مَّنَـٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَاۤءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرࣰاۗ﴾ [البقرة ٢٠٠]
يقول ابن القيم – رحمه الله – عن الذكر: “هو روح الحج ولُبُّه ومقصوده، كما قال النبي ﷺ: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» [مدارج السالكين: (2/ 399)، والحديث أخرجه أبو داود].
أيُّ إلهٍ عظيم هذا الذي تألهه القلوب، وتجتمع على كلامه الأجساد، وتخضع لأوامره العباد، وتنفذ شعائره المخاليق، وتلبي نداءه الناس والجماهير، فيأتون من جميع أنحاء الدنيا، إنه مشهد مهيب عظيم رهيب، تخشع له القلوب، وتسكن له النفوس، وتدمع له العيون، وتتجلى فيه معالم الألوهية، كما تتجلى فيه جوانب العبودية، معالم الألوهية بعظمتها وجلالها وجدارتها بعبودية العباد، وجوانب العبودية بخضوعها وخشوعها واستجابتها لهذا الإله العظيم، فهذه الشعيرة العظيمة لا نعرف شعيرة مثلها في الإسلام تتعانق فيها – في مشهد واحد – عظمةُ الألوهية وخضوع العبودية.
تجليات العظمة الإلهية يوم عرفة خاصة
لا يوجد مشهد في السنة كلها تتجلى فيه عظمة الله تعالى كما هو يوم عرفة، الحجاج على بكرة أبيهم محتشدون في مقام واحد ومكان واحد، هذا الكم الكبير العظيم الذي يسد الأفق جاء ليخضع، وأتى ليخشع، وحضر ليدعو، وجثى على ركبتيه ليستغفر ويتوب ويؤوب، ويسأل الله حاجاته، ويلبي ربه الكريم بنشيد واحد وبأذكار موحدة.
ومن أجْل هذه المعاني العظمى التي تتجلى فيها العبودية كافأها الله تعالى بما يجلي ربوبيته وألوهيته وعظمته، أعظم ما يكون التجلي، لقاء هذا الخذوع وهذه العبودية، فالأمر كما أخرج أحمد والسيوطي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ تعالى يباهَي ملائكتَه عشيةَ عرفةَ بأهلِ عرفةَ، يقولُ: انظروا إلى عباديِ، أَتَوْنِي شُعْثًا غَبْرًا”. وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ تعالى يُباهي بأهلِ عرفاتٍ ملائكةَ السَّماءِ، يقولُ: انظروا إلى عبادي، أتَوْني شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم” [أخرجه أبو نعيم في الحلية، وهو صحيح من حديث سعيد بن المسيب].
وعن طلحة بن عبيدالله قال: “ما رُؤِيَ الشيطانُ يومًا هو أصغَرُ ولا أدْحَرُ ولا أحقَرُ ولا أغْيَظُ منه في يومِ عرفَةَ، وما ذاكَ إِلّا لما يرى من تنزِّلِ الرحمةِ وتجاوُزِ اللهِ عنِ الذنوبِ العظامِ، إلّا ما أُرِيَ يومَ بدرٍ، قيلَ: وما رَأى يوم بدرٍ؟ قال: أما إنه قد رَأى جبريلَ وهو يَزِعُّ الملائكَةَ”. [قال الزيلعي في تخريج الكشاف، والأرناؤوط في تخريج شرح السنة: “مرسل صحيح”].
يا لها من لحظات يتجلى العبد فيها بضعفه وحاجته وفقره لله تعالى، ويتجلى الله فيها ويتفرد بالعظمة والوحدانية والقهر فوق العباد، العبد يبكي والرب يباهي بعبده، العبد يسأل والرب يعطي لعبده، العبد يدعو والرب يجيب عبده، العبد يستغفر والرب يغفر الذنوب جميعا.
إن القلب ليكاد ينخلع أمام هذا المشهد المهيب، وإن العين لا تملك أن تحجز الدموع خشية لله تعالى واستشعارا لعظمته، وتحقيقا للفقر والحاجة إليه، وهذه كلمات لا يشعر بها إلا من وقف هذا الموقف، وشاهد هذه المعاني، وذاق طعم العبادة والدعاء والرجاء في هذا اليوم العظيم أمام الله تعالى العظيم.
منقول عن موقع الجزيرة مباشر
ماشاءالله مقال رائع جدا، استفذت كثيرا جزاك الله خيرا وبارك الله فيك ياأستاذ د وصفي عاشور
شكرا لحسن متابعتك وقراءتك واهتمامك