آيات وسنن (١) – مقدمات لابد منها

بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه(*)

مقدمات لا بد منها

صار من المسلم به اليوم أكثر من أي زمن مضى أن الاهتمام بالسنن الإلهية وفقهها بحثاً عن سبل إصلاح حال الأمة الإسلامية، واستئنافها للفعل الحضاري، من أولى الأولويات. وبتعبير آخر لن يحقق الإنسان المسلم مشروعه الاستخلافي العمراني الموكل إليه من المستخلِف سبحانه وتعالى القائل:﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰ﴾ البقرة:٣٠، ولن ينفذ الأمر الرباني الاستعماري في الأرض:﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا﴾ هود:٦١، إلا عن طريق فقهه ومعرفته للسنن الإلهية، وتسخيرها والأخذ بها والعمل بمقتضياتها؛ فقد جعلها الله تعالى القانون الوجودي والكوني والتاريخي الذي يحكم قيام الإنسان بالعمران والاستخلاف؛ إذ تؤدي الدور الأهم في إنارة طريق ذلك، بما توفره من مفاتيح وآفاق معرفية لتسخير عناصر الكون والاستفادة منها، وامتلاك السبل والمداخل الموصلة إلى الحياة الطيبة.

والمصدر الأول لهذا الفقه السنني هو القرآن الكريم،كلام خالق الحياة والأحياء وواضع سننها، العالم بما يصلح وما لا يصلح لخلقه؛ إذ تشغل السنن الإلهية مساحات قرآنية واسعة جداً، ما حدا ببعض العلماء والمفكرين والباحثين على رأسهم الإمام رشيد رضا إلى الدعوة إلى إفرادها كعِلم شرعي؛ إذ قال:”إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سنناً؛ يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علماً من العلوم المدونة، لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال… والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم؛ إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها”[1].

وقد اعتبرها شيخه محمد عبده أصلاً من أصول الإسلام “وُضع لتقويم ملكات الأنفس القائمة على طريق الإسلام وإصلاح أعمالها في معاشها ومعادها، ذلك هو أصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من البشر وفي آثار سيرهم فيهم”[2].

ومن الآيات التي تصرح بمفهوم السنن قوله تعالى:﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ﴾ آل عمران:١٣٧، وقوله عز وجل:﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُبَیِّنَ لَكُمۡ وَیَهۡدِیَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَیَتُوبَ عَلَیۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾ النساء:٢٦، وقوله سبحانه:﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرࣰا مَّقۡدُورًا﴾ الأحزاب:٣٨، وقوله:﴿سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ غافر:٨٥، كما يبين خصائصها التي تلازمها، المتمثلة في ربانيتها:﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ﴾، وثباتها واطرادها وأنها لا تتبدل ولا تتحول لقوله جل ثناؤه:﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا﴾ الأحزاب:٦٢، والفتح:٢٣، وقوله:﴿وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِیلًا﴾ الإسراء:٧٧، وقوله:﴿فَهَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِینَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِیلًا﴾ فاطر:٤٣.

وهكذا يعلمنا الله عز وجل في كتابه العزيز أن له سنناً ثابتةً ومطردةً تحكم الأحياء والحياة، في الأمم والمجتمعات وعوالم الكون، وهي-كما يعرفها محمد عبده-“الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس، ويعبر عنها قوم بالقوانين. ما لنا ولاختلاف العبارات؟ الذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع، أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه. فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظرن إلا الشقاء، وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه”[3].

من هنا ندرك مدى أهمية العلم بالسنن، بالنظر إلى عناية القرآن الكريم بها عناية كبيرةً تصريحاً بها، وتنبيهاً إليها، ودعوةً إلى فقهها والوعي بها، مع إبراز فاعليتها في نهضة الأمم والمجتمعات، وأثرها في تجاوز مظاهر ضعفها وعوامل سقوطها، فضلًا عن تشكيله العقل على التفكير السنني.

ونحن إذا أردنا أن نستكشف في القرآن وجهاً من أوجه عنايته بالمسألة السننية فإنه يتبدى لنا في اهتمامه الشديد بعلم من علومه الكبرى المشار إليه، وهو علم التاريخ أكبر سياقات عرضه للسنن الإلهية، وقد وصف أهميته ابن خلدون بقوله:”اعلم أن فن تاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والانبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم؛ حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا”[4].

ففي هذا القول الخلدوني التنبيه إلى المنهج الصحيح في معاملة التاريخ ودراسته، وهو المنهج القرآني الذي حين يسوق القصص وتاريخ الأمم والأقوام والأنبياء لا يقصد الأحداث لذاتها، وإنما ليطرح على الفكر والوعي من خلالها مسألة السنن والنواميس التي تسير وفقها حركة التاريخ وسيرة المجتمعات، وأنها مطردة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فيدعو إلى استنطاق التاريخ واستقراء الحوادث والأسباب وأخذ العبر والدروس منها، يقول تعالى:﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ﴾ آل عمران:١٣٧، فالسير في الأرض والنظر فيما جرى من أحداث ووقائع في أمم خلت وحضارات سبقت، من الأوامر القرآنية المحورية “لا لمجرد التسلي والوقوف على مصارع الأقوام الغابرة، والنظر في عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ولكن للاعتبار، وتجنب أسباب الهلاك التي وقعوا فيها، واكتشاف سنن الله التي لا تتعطل، ولا تنخرم في التاريخ حتى لا تسقط الأمة فيما سقطوا فيه وتحصدها عجلة السنن”[5].

إنه المنهج السنني إذن في التعامل مع التاريخ ودراسته الذي يكشف القرآن غطاءه لأول مرة أمام العقل البشري، مفاده أن “التاريخ البشري لا يتحرك فوضى وعلى غير هدى، وإنما تحكمه سنن ونواميس كتلك التي تحكم الكون والعالم والحياة والأشياء .. سواء بسواء.. وإن الوقائع التاريخية لا تنمو بالصدفة، وإنما من خلال شروط خاصة تمنحها هذه الصفة أو تلك، وتوجهها صوب هذا المصير أو ذاك.. القانون يحكم التاريخ.. تلك هي المقولة التي لم يكن قد كشف النقاب عنها قبل نزول القرآن الكريم.. إن كتاب الله يقدم أصول “منهج” متكامل في التعامل مع التاريخ البشري، والانتقال بهذا التعامل من مرحلة العرض والتجميع فحسب، إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية – التاريخية”[6].

وهو المنهج الذي يطلق عليه حديثاًً “فلسفة التاريخ”؛ “ذلك العلم الذي يحاول أن يكتشف القوانين الموجهة لحركة المجتمعات والدول والنهضات وأسباب صعودها وهبوطها. وليست وظيفة هذا العلم قاصرة على توصيف هذه القوانين، ولكنها- كأي علم آخر- يسعى لاكتشاف القوانين من أجل استخدامها وتوظيفها لمعالجة الظواهر القائمة والمستقبلية”[7].

وهكذا، ومن كل ما سبق، تتأكد لنا أهمية الدرس السنني القرآني، مما يوجب إيلاءه الاهتمام الفائق، والاعتناء اللائق، من ذلك ذلك العمل على الكشف عما يحتويه القرآن من سنن إلهية، من خلال تناول آيات بينات من الذكر الحكيم، وبيان دلالاتها السننية، مع ربطها – إن اقتضى الحال- بسياقها الذي تأتي فيه، وتعزيزها بنظيراتها في مواضع قرآنية أخر، وكل ذلك تبييناً لإرادة الله تعالى:﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُبَیِّنَ لَكُمۡ وَیَهۡدِیَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَیَتُوبَ عَلَیۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾ النساء:٢٦، رجاءَ أن يتم بهذا النهج استخراج الهدايات القرآنية إلى الأقوم والأعدل والأصلح:﴿إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ﴾ الإسراء:٩، وذلك فيما يخدم وظيفة الإنسان الاستخلافية في الأرض، حتى ينفذ حكم الله ومنهجه في الحياة، ومراده من الخلق. وهو ما سنحاول فعله في هذه السلسلة الموسومة بــ “آيات وسنن”.

ولا بد أن نؤكد أن السنن المعنية في هذه السلسلة السنن الاجتماعية التي تمثل الوجه الثاني من القانون العام للوجود؛ المتعلق “بخضوع البشر له باعتبارهم أفرادًا وأمماً واجتماعاً … خضوع تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية، أو الضيق في العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذل، والرقي والتأخر، والقوة والضعف، ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا، وما يصيبهم في الآخرة من عذاب أو نعيم وفقاً لأحكام هذا القانون بوجهه الثاني”[8].

وقد تناول القرآن الكريم هذا الوجه بطرق عديدة، وأساليب متنوعة، وخصص له مساحات واسعة جدا، بل إن مصطلح السنن نفسه لا يرد فيه إلا متصلاً بسلوك الإنسان في الحياة، ومرتبطاً بالسياق الاجتماعي، وتعلق ذلك بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده، فهي متعلقة بسلوك البشر، وأفعالهم وسيرتهم في الحياة، وفق أحوال الاجتماع والعمران البشريين، وما يترتب على ذلك من نتائج في العاجل والآجل. وهي غير السنن الكونية التي يقصد بها تلك القوانين الجارية الثابتة والمطردة التي أخضع لها الله تعالى جميع الكائنات الحية في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية صغيرة أو كبيرة، كما يخضع لها كيان الإنسان المادي، وما يطرأ عليه؛ كنموه وحركة أعضائه وهرمه ولوازم بقائه [9]، وتسمى بعدة تسميات مثل “الآيات الكونية، وآيات الآفاق، والسنن الطبيعية، وتسمى بلسان العصر علوم الفلك والفضاء والأرض والبحار والأحياء”[10]، وهي كونية قضاها الخالق سبحانه بالكون:﴿یَقُولُ لَهُۥكُن فَیَكُونُ﴾ البقرة:١١٧، بمعنى أن لا دخل للإنسان في صنعها أو تكوينها، ولا في سيرها، بل عليه أن يستثمرها ويستفيد منها في تحقيق مصالحه ومنافعه.

 وقد أشار ابن تيمية إلى الفرق بين هذين النوعين من السنن بقوله:”وهذه السنن كلها سنن تتعلق بدينه، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وليست هي السنن المتعلقة بأمور الطبيعة، كسنته في الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من العادات”[11]. ورغم ما بينهما من فروق فإن الارتباط الوثيق بينهما قائم لا محالة فلا ينفصلان، يعزز ذلك ما يلاحظ في السياق القرآني من ربط دائمٍ بين سنن الاجتماع الإنساني وسنن الكون، لأنها تمثل وحدة متكاملة، وإن اختلفت أشكالها؛ إذ تصدر من إرادة واحدة، وتنبثق من مشيئة واحدة؛ إرادة ومشيئة الله عز وجل الإله الواحد الذي خلق فشرع وأمر[12].

فلا يتصور تقدم ونهوض وعمران دون معرفة الشروط والسبل الموصلة إلى ذلك حتى تُسلَك، ودون معرفة المحاذير والتهديدات حتى تُتجنب، والعلم بالسنن الإلهية خير ما يوفر هذه المعرفة وتلك.


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

الهوامش:

[1]– رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، ج٤، دار المنار، القاهرة، ط٢، ١٩٤٧م، ص١٣٩.

[2]– محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ط٢٠١٠م، ص ٧٩.

[3]– نفسه، ص ٧٩.

[4]– ابن خلدون، عبد الرحمن، المقدمة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط١، ٢٠٠٦م، ص ٤٢.

[5]– كهوس، رشيد، علم السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، دبي، ط١، ٢٠١٧م، ص ١٨١.

[6]– خليل، عماد الدين، مدخل إلى الحضارة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، المغرب ولبنان، الدار العربية للعلوم، بيروت، ط١، ٢٠٠٥م، ص ٢٩-٣٠.

[7]– سلطان، محمد جاسم، فلسفة التاريخ، الفكر الاستراتيجي في فهم التاريخ، مشروع النهضة سلسلة أدوات القادة (2)، مؤسسة أم القرى للترجمة والتوزيع، المنصورة، ط ٣، ٢٠٠٧م، ص ٤٠-٤٤.

[8]– زيدان، عبد الكريم، السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط١، ١٩٩٣م،  ص١٢.

[9]– نفسه، ص٧.

[10]– كهوس، علم السنن الإلهية، المرجع السابق، ص ٤٣.

[11]– ابن تيمية، تقي الدين عبد الحليم، جامع الرسائل، المجموعة الأولى، تحقيق: محمد رشاد سالم، دار المدني للنشر والتوزيع، جدة، ط٢، ١٩٨٤م، ص ٥٢.

[12]– السنن الكونية والاجتماعية لطائف وبصائر، رشيد كهوس، مجلة تدبر، العدد١، (محرم ١٤٣٨ه/أكتوبر٢٠١٦م)، مكتب طيبة للبحوث والدراسات، المدينة المنورة، ص ١٥٩.

اترك تعليق

  1. يقول gralion torile:

    I do not even know how I stopped up here, but I believed this submit was once good. I don’t know who you are however definitely you’re going to a well-known blogger when you are not already 😉 Cheers!