أفكار عن “الفقه المستقبلي” على أرضية الفكر الإسلامي

بقلم أ.د. إلياس بلكا(*)

مقدمة في جدوى “المستقبلية”:
الاهتمام بالمستقبل طبع بشري عميق يعكس قلق الإنسان من الآتي. والإسلام في منهجه العام لا يعاكس الفطرة بقدر ما يهذبها ويوجهها. لهذا نستطيع أن نتوقع أن الدين لا يرفض مبدأ الاستشراف العلمي للمستقبل، إنما يرفض التكهن والتخرص والظن الذي لا يقوم على حجة وبيان.

وعندي أنه يجب على الفكر الإسلامي المعاصر أن يفسح للدراسات المستقبلية مكانا بين أبحاثه واهتماماته. فهذا اللون من العلوم يزيد عمره اليوم على نصف قرن، راكم فيه خبرة لا يستهان بها. فاستفاد من أخطائه ونواقصه… ولهذا تشهد المستقبليات جهودا مستمرة في تعديل النظريات وتطوير الآليات. وأقل ما يمكن ذكره لصالح هذا العلم الفتي هو أن الدراسة المستقبلية تقلل من الاحتمالات الممكنة، فتعتبر بعضها أرجح من بعض، وقد تلغي قسما منها… أي أننا وإن لم نعرف المستقبل فإنه يغدو أقل غموضا[1].

ولذلك كان المستقبليون أقدر الناس على الانتباه للتطورات الجديدة حين يبدأ عملها في المجتمعات، لقد قال توفلر في سنة 1970: “نحـن بصدد إنشاء مجتمع جديد كل الجدة وليس مجرد شكل محول عن الشكل العادي وأكثر سعة منه وضخامة، نحن ننشئ مجتمعا لم يسبق له نظير. لكـن هذه الملاحظة البسيطة لم تجد طريقها إلى عقولنا…[2]“.
وإذا استطعنا أن ندخل هذا العلم في دائرة مصادر العقل المسلم المعاصر واهتماماته وقراءاته أمكن أن ننقله من الاهتمام المفرط بأحداث الماضي ومشكلات الحاضر إلى قضايا المستقبل. يقول الدكتور وليد عبد الحي: “أزعم أن إحدى ثغرات ثقافتنا العربية تتجسد في أحد أبعادها في موقفها من الزمن، إذ طغى عليها الماضي والحاضر، بينما لم يحظ المستقبل “حيث سنعيش” إلا بأقل القليل، رغم أن معرفة أو محاولة معرفة المستقبل تمثل أحد عناصر القوة[3]“. ويقول الأستاذ المهدي المنجرة: “في الإسلام تستهدي حركة الإنسان، الاجتماعية والدينية، بنتائجها الدنيوية والأخروية. وبهذا كان اعتبار المستقبل جزء من العمل اليومي للمسلم[4]“.

الفقه والمستقبل:
وأخمن، والله تعالى أعلم، أن العقل الفقهي المعاصر سيستفيد بدوره أشياء كثيرة لو اتصل بالدراسات المستقبلية وخاض في بعض مواضيعها وإشكالاتها.
والحقيقة أن عملية الاجتهاد لا تنصب على الماضي فقط ولا على الحاضر فقط، بل إنها تشمل المستقبل أيضا. إن كثيرا من الأسئلة الفقهية ترتبط، زمنيا، بالمستقبل. وما قاعدة سد الذرائع إلا مثالا واضحا يؤكد هذا الالتفات الفقهي إلى الزمان الآتي وما يحويه من وقائع وأحداث[5].

إننا نعيش في نهاية هذه الألفية الثانية تطورات كبرى لم يعرف التاريخ البشري لها نظيرا، وستؤثر على مسيرة الإنسانية كلها تأثيرا بليغا، وسيسجل المؤرخون –في المستقبل– أن هذا القرن كان متميزا في التاريخ[6].

لابد للفقه الإسلامي، وللفكر الإسلامي عموما، أن تكون له كلمة في هذه التطورات، ولابد أن يقدم رأيه في مجمل هذه الأحداث والاتجاهات الاستثنائية في عمر الإنسانية كله. وهكذا فإن الاتصال بهذا العلم يسمح للفقه الإسلامي بأن يكون له حضور في قلب العصر، يناقش القضايا الحالية ويفتي فيها، ويتأمل في مشاكل المستقبل ويدرسها.
أيضا يمكن الاشتغال بالدراسات المستقبلية الفقه الإسلامي الإداري والدستوري من البحث الواعي والمنضبط في قضايا تشهد تغيرات كبرى وتشرف على الدخول في مرحلة جديدة، وذلك كمواضيع: الدولة القومية، والديموقراطية، والبيروقراطية، وغيرهـا…

إن الدولة القومية نموذج حديث ظهر في أوربا منذ حوالي أربعة قرون، ثم وقع تعميمه في جل مناطق العالم.. فحين يدرس الفقه الإسلامي المعاصر قضايا الدولة القومية ومتعلقاتها، ينبغي له أن ينتبه إلى أن هذا الشكل الدستوري من الحكم مقبل على تغيرات جذرية قد تجعله متجاوزا.. وميزة الدراسات المستقبلية أنها ترصد، بشيء من الدقة، هذه التغيرات وتبرزها وتوضحها.. ولهذا بدأ الحديث، منذ زمن، في هذه الدراسات عن مستقبل الدولة القومية أو عن نهايتها[7].
ولا يعني هذا أن يتتبع الفقه هذه الدراسات في كل ما تراه وتخرج به، لكن المقصود هو أن يستفيد منها في عملية الاستنباط والاجتهاد.

ولهذا أرى أن اشتغال الفقه الإسلامي بالمستقبليات سيدفعه إلى الاهتمام بالكليات والقضايا الكبرى، عوض الانشغال بالجزئيات وأحكامها فقط.
من المفروض، إذن، أن يدرس الفقه مجمل تطورات علم الإراثة والجينات وأن يفهمها ويستوعب حركتها، كما يفعل حين يفتي في مسائل فرعية كحكم استئجار الأرحام وأطفال الأنابيب وبنوك المني ونحوها… نحتاج إذن إلى “فتاوى كلية”، إذا صح التعبير، كما نحتاج إلى الفتاوى الجزئية.

ولقد درس الفقهاء المعاصرون بعض أمهات قضايا العصر، مثل قضية النمو السكاني وهل يجوز ضبطه أو تحديده،… لكن بعضا من هذا العطاء الفقهي لا يخلو من قصور أو خلل. ولو قدر للفقه الإسلامي أن يتصل بالمستقبليات ويستفيد من نتائجها لكانت دراسته لهذه القضايا أتم وأكمل، فلا نحتاج، مثلا، أن نقول: إن الحروب والكوارث والأوبئة كفيلة بالقضاء على عشرات الملايين من الناس، وبذلك يتحقق التوازن السكاني من دون اللجوء إلى تحديد النسل أو تنظيمه…! لكن نقول: إن الدراسات المستقبلية تبين أن النمو السكاني الحالي سيعرف استقرارا، أو بطئا، بعد بضعة عقود، وقد ثبت أن للحياة المدنية آلياتها الخاصة التي تبطئ من تزايد عدد السكان، كظاهرة التمدن مثلا… ونقول أيضا: إننا نعيش بداية ثورة جديدة، وهي التكنولوجيا الحيوية Biotechnologie، سيكون من أهم آثارها، وهذا قد بدأ الآن، مضاعفة الإنتاج الغذائي مرات ومرات بالنسبة إلى المعدل الحالي…
إن الاستثمار الجيد والواعي لهذه الدراسات قمين بتوسيع أفق الفقه الإسلامي وتزويده بمعارف ومناهج مفيدة جدا.

مقاصد الشريعة:
وأتصور أيضا أن هذه الدراسات المستقبلية يمكن أن تفتح لـ “علم” مقاصد الشريعة آفاقا هامة بإدخال الإشكالات الكبرى لمستقبل الإنسانية في دائرة مجال دراسته وبحثه التطبيقي. نستطيع أن ندرس قضية التلوث والحفاظ على البيئة في ضوء كلام أهل المقاصد والأصول حول الضروريات الخمس، وخصوصا منها حفظ النفس… ويمكن، مثلا، أن نضع القاعدة الآتية: لا شيء في الفقه الإسلامي يمكن أن يسوغ تدمير البيئة والإضرار بها، بما يشكل تهديدا للوجود البشري حاضرا أو مستقبلا، يقينا أو ظنا، من ذرائع اقتصادية أو صناعية أو علمية.. فحفظ النفس وضمان استمرار الوجود البشري مقصد من أهم مقاصد الشريعة وغاية من أعظم غاياتها…

ومثل هذا كثير كما تتبينه في قضايا الجينات والإراثة وعلوم الحياة، وستجد كثير من قضايا المقاصد، كتعارض المصالح والمفاسد وبناء الحكم على المصلحة المرسلة،… في هذه الدراسات مجالا خصبا لإجالة الفكر والنظر وميدانا واسعا للاستنباط والترجيح…

علم الكلام:
وفي ظني أيضا أن الدراسات المستقبلية يمكن أن تفيد علما آخر من علومنا الإسلامية، هو علم العقائد أو علم أصول الدين أو علم الكلام… لقد أثبتت التجربة التاريخية للمسلمين أنه ليس كل ما كتب في هذا العلم يصح ويوافق مقتضيات الدين، فلا شك أن فيه دخنا يقل أو يكثر بحسب كل مدرسة من مدارس علم الكلام.. وقد بين العلم الحديث أيضا وجود بعض الأخطاء العلمية في بعض مقررات علم الكلام، وذلك لأن المتكلمين بحثوا بعض القضايا، كمفاهيم الزمان والمكان والذرة والجزء الذي لا يتجزأ والحال والمحال ونحوها،… بحسب ما وصل إليه الناس في زمنهم من المعارف والعلوم… وهي خليط من الخطأ والصواب. أما اليوم فإن المعرفة الإنسانية تضاعفت عشرات المرات في أغلب الميادين، وارتاد الإنسان حقولا معرفية غير مسبوقة[8].
فإذا تقرر أن علم الكلام ليس صوابا كله، عدت وقلت: إن فيه جملة وافرة من الصواب، ووفق في بحث كثير من القضايا.. لهذا كانت الفلسفة الإسلامية الحقيقية هي ما حوته كتب المتكلمين ونظراتهم وبحوثهم، لا من كان في فكره الفلسفي مجرد امتداد لمدارس اليونان[9].

ينبغي، إذن، أن نستفيد من علم الكلام وأن نطور البحث فيه بما لا يتعارض مع أصول الاعتقاد وبما ينفع الناس وهذا العصر.
وأقدر أن البحث في الدراسات المستقبلية خطوة تعين على تحقيق هذا المبتغى، وذلك لأنها تثير البحث والنظر في قضايا من أهم ما درسه علم الكلام: قضية القدر، وفعل الإنسان، ومسألة السببية والتعليل والتوكل، والغيبيات، ومفهوم الزمان… ونحوها.
وينبغي أن تكون الغاية هي تأسيس “بحث مستقبلي” لا يتعارض في شيء مع المذهبية الإسلامية، ويقبله الفقه الإسلامي ويستفيد منه، ويعرف العقل الإسلامي المعاصر أهميته وضرورته…
وفي النهاية قد نستطيع بناء معالم ما أسميه بـ”الفقه المستقبلي”، وهو الفقه الذي يشتغل بالمستقبل وقضاياه ويقلب وجوه الفتوى بحسب الاحتمالات الممكنة ويرجح منها ويضعف…

بعض الأسئلة في الموضوع:
يثير ميدان الدراسات المستقبلية أسئلة مشروعة، وعلى الفقه الإسلامي المعاصر أن يجيب عنها ويقدم رأيه فيها، وهذه بعضها:
ـ هل للدراسات المستقبلية، بوضعها الآن أو بوضع آخر، مشروعية في الدين؛ أي ما موقف الدين من أصل هذا العلم؟
ـ ألا يتعارض أساس هذا العلم مع عقيدتنا التي تقرر أننا لا نعرف الغيب ولا سبيل لأحد إلى معرفته؟
ـ إننا نؤمن أيضا بالقدر خيره وشره، إذن، حين ندرس المستقبل بغرض التأثير فيه وصياغته وفق ما نريد، ألا يشكل ذلك تمردا على عقيدة القدر، وألا يخدش هذا في عقيدة التوكل على الله سبحانه؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك فما هو الضابط لما يكون كذلك ولما لا يكون؟
ونعلم أيضا أن الإسلام حرم الكهانة والعرافة والطيرة… هل هذا منع لأي استكشاف للمستقبل أم هو منع لبعض الأساليب دون بعض؟ وما الذي يجمع بين هذه الأساليب الممنوعة، هل هو مثلا عدم استنادها لأساس منهجي واضح وصارم، بمعنى آخر هل هو “عدم علمية” هذه الأساليب؟[10].
ـ هل يقدم الدين وسائل لاستكشاف المستقبل أو التأثير فيه، وما هي هذه الوسائل؟
ـ هناك وسائل، بعضها عرفه المسلمون قديما، لاستكشاف الآتي مثل: “علم” الرمل والخط، والتنجيم.. ما موقف الفقه الإسلامي من هذه الوسائل ونحوها؟
ـ هل يجوز الاشتغال بالدراسات المستقبلية. وإذا قلنا نعم، فهل يستحب التخصص بها. وإذا كان الجواب إيجابا، فهل على من لمس من نفسه القدرة على تحصيل هذا العلم ونفع المسلمين به أن يشتغل بهذا العلم وجوبا. بمعنى آخر: هل الاختصاص بالدراسات المستقبلية من فروض الكفاية على الأمة؟

منهج البحث:
من المفروض أن ينقسم البحث في مجال المستقبليات إلى قسمين: الأول نظري، والغاية منه تحديد ملامح البحث المستقبلي الذي سيشتغل في ضوئه العالم المسلم والفقيه المسلم، ووضع الضوابط والقواعد التي تحكمه.. والثاني تطبيقي، الغرض منه تطبيق قواعد هذا البحث على بعض القضايا الهامة ودراسة موقف الفقه الإسلامي منها وتحديد مناط القصور فيها، إن وجد، ثم بذل الجهد في استخراج الإجابة الفقهية عن بعض الإشكالات التي تثيرها هذه القضايا:

أولا: القسم النظري:
ويمكن بحثه من خلال محاور ثلاثة:

المحور الأول: يقدم فيه للقارئ ما يسمى بـ”الدراسات المستقبلية”: تعريفها، وتاريخها، ورجالها، ومناهجها، وأساليبها، وتقنياتها، ومدارسها، وما لها وما عليها، وحدودها…

المحور الثاني: في الدراسات المستقبلية إما نحاول استكشاف الآتي بإبراز بعض الاحتمالات وترك أخرى – وإما ندرس كيف نختار مستقبلا معينا، وكيف نصل إليه بالتخطيط والتنفيذ.. وبعض هذا يفترض أن نبذل جهدا لنعرف ملامح المستقبل، أي إننا نحاول كشف بعض الغيب.
ظاهر هذا المسعى يضاد العقيدة المقررة وهي أنه لا سبيل لبشر أن يطلع على الغيب ويعلمه[11]. فما العلاقة بين عقيدة الغيب ومناهج الاستشراف المستقبلي. ولكاتب هذه السطور بعض الجهد العلمي في هذا الباب سيعرف به لاحقا إن شاء الله تعالى.

وقد أثبت تاريخ الدراسات المستقبلية أنها لا تصيب دائما ولا تخطئ دائما، ولهذا نجد حصيلة هامة من التوقعات التي بين التاريخ صحتها، ومن أبرزها ذلك النظر النافذ للمفكر الفرنسي توكفيل Alexis de Tocqueville، قال: “يوجد في العالم حاليا أمتان عظيمتان، بدأتا من نقطتين مختلفتين ولكنهما على ما يبدو تتجهان نحو نفس النهاية، إنني أشير إلى الروس والأمريكيين، فكلاهما تنمو دون ملاحظة أحد. وبينما كان انتباه الإنسانية إلى أماكن أخرى، وضعت هاتان الأمتان نفسيهما في لحظة مفاجئة في الصف الأول بين الأمم وعرف العالم بوجودهما وعظمتهما في نفس الوقت… ويبدو أن جميع الأمم الأخرى[12] قد وصلت تقريبا إلى حدودها الطبيعية وما عليها إلا الحفاظ على قوتها، أما هاتان الأمتان فما زالتا في حالة نمو… وجميع الأمم توقفت أو تواصل التقدم بصعوبة، بينما هاتان الأمتان تتقدمان بيسر وتسارع في مسار يصعب إدراك حدوده، فالأمريكيون يناضلون ضد المصاعب التي تضعها الطبيعة أمامهم، بينما خصوم الروس هم من الرجال… إن نقطة البدء والمسار لكل منهما مختلفة، فالأمريكي يعتمد على المصلحة الشخصية لتحقيق أهدافه، ويفسح المجال واسعا أمام القوة والشعور غير الموجهين لدى الشعب، بينما يمركز الروس السلطة في المجتمع في ذراع واحدة… فالأداة الرئيسة للأولى هي الحرية وللثانية هي السخرة… إن نقطة البدء والمسار مختلفة، ومع ذلك يبدو أن كلا منهما قد خط لها القدر أن تسيطر على مصائر نصف العالم[13].” وهذا الكلام الذي يعود إلى سنة 1835 تحقق بعد حوالي مائة سنة إثر نهاية الحرب العالمية الثانية[14].

ومن التوقعات التي أثبت الزمن صحتها نظرية الأستاذ المهدي المنجرة حول أهمية العامل القيمي والثقافي في حضارة الغد وأن الحروب المقبلة ستكون حضارية بالأساس، وهو ما بدأ يتحقق مع حرب الخليج الثانية.

المحور الثالث: وقد يتصور تعارض آخر بين إرادة التحكم في المستقبل وبين إيماننا الجازم بالقضاء والقدر خيره وشره. وهذه قضية أساسية طالما زلت فيها أقدام وضلت بسببها أفهام، وهي أيضا قضية ذات خطر إذا أسيء فهمها. وقد عد مفكرو الأمة أحد أسباب انحطاط المسلمين أنهم لم يفهموا عقيدة القدر فهما صحيحا حسنا، فاضطربت عندهم مفاهيم السببية والتعليل والعمل والسعي في الأرض… ونحوها[15]. ولذا كان الإيمان بالقدر بالنسبة إلى بعض المسلمين الذين لم يفهموا عن الدين مراده، قديما وحديثا، عاملا يثبط العزائم ويدفع نحو التواكل والسلبية…

يجب، إذن، أن يزيل البحث هذا التعارض الموهوم بين عقيدة القدر وبين الدراسات المستقبلية وهدفها الذي هو التأثير بشكل أو بآخر على المستقبل القادم. فإذا درسنا “علم المستقبل” وعرفنا حقيقة عقائد كبرى كالغيب والقدر أمكن أن نبحث في مناهج هذا العلم وأساليبه التفصيلية انطلاقا من المذهبية الإسلامية العامة[16] ومن مقررات علوم أصول الدين و أصول الفقه والفقه والقواعد الفقهية، والمطلوب هنا هو تقديم ملامح للبحث المستقبلي المقبول دينا وفقها، بما أمكن من الدقة والضبط والتقعيد.

ثانيا: القسم التطبيقي:

يتعلق البحث الإسلامي في حقل المستقبليات في جانبه النظري بدراسة الأسس، والمنطلقات، والمناهج، والأساليب..
أما هنا المطلوب أن يركز على الجانب التطبيقي لهذا العلم، أي أهم القضايا التي تشغله والتي درسها الخبراء المستقبليون وبحثوها، ومنها: العلم والتكنولوجيا، والنمو السكاني، والثورة المالية، والتكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا المعلومات، والتألية والإنسان الآلي، والبيئة، والدولة القومية، والديموقراطية، والبيروقراطية، والعلاقة بين مختلف الحضارات…[17].

وتعتبر قضية النمو السكاني، وكذلك التناقص السكاني، وسائر ظواهرها ومتعلقاتها إحدى أهم القضايا التي تشغل العقل المستقبلي المعاصر، وخصوصا الغربي. إن الغرب، كما يقول الدكتور المنجرة[18]، يخاف لدرجة الهوس أحيانا ثلاثة تحديات كبرى، وهي: الإسلام واليابان والنمو السكاني.

يمكن دراسة قضية التزايد السكاني السريع كما يراها المستقبليون وبيان آثارها الواسعة في تطور مسيرة الإنسانية في ميادين الحياة كلها… وبعد ذلك التعرض لما انتهى إليه جهد الفقهاء في هذا الموضوع، مع توجيه عناية أكثر إلى بيان ما يمكن للدراسات المستقبلية أن تحمله من الفوائد المهمات إلى البحث الفقهي المتعلق بمسألة النمو السكاني.

وإذا صدقنا المستقبليين أمكن أن نقول إن الوجود الإنساني في المستقبل لن يكون هو نفسه هذا الوجود الذي نعرفه الآن والذي عرفته البشرية منذ فجر ميلادها.

والحقيقة أن التطور العشوائي لعلم الإراثة وتقنيات التحكم في الجينات قد يعود على البشرية كلها بخطر عظيم. فمن الدراسات الممكنة أن نعرف ماذا يقول المستقبليون في هذا الموضوع، وماذا يمكن أن يستفيد الفقه الإسلامي من هذا الحديث، وما هي كلمته وفتواه في مستقبل علم الإراثة.
هذه بعض الأفكار أو الموجهات للبحث الإسلامي في ميدان المستقبليات المعاصرة، وهو بحث بكر وجديد، ومن طبيعته أن ينفتح على جميع الأسئلة ويختبر شتى المناهج والرؤى… قبل أن يجد طريقه الخاص.


الهوامش:
1. هذا مثل يبين أن الدراسات المستقبلية ليست ترفا فكريا، أو علما لا ضرورة له، بل لها فوائدها العملية والتطبيقية: تعرف المجتمعات المتقدمة ارتفاع نسبة الشيخوخة بين الساكنة. ويتضح من خلال دراسات إحصاء السكان أن نسبة المتقاعدين ستكون كبيرة جدا في المستقبل المتوسط. ونعرف أيضا – بالاستناد إلى علم السكان – أن معدل الحياة في هذه المجتمعات ارتفع كثيرا، وهو الآن يقارب الثمانين بالنسبة إلى الرجال.
أما الأعضاء النشطون من الشباب الذين يتحملون تكاليف التقاعد المعاش، والتطبيب، والسكن، والنقل… فهم يقلون. هذا كله يؤثر على نظرتنا الآن إلى أنظمة التقاعد والتأمين والضمان الاجتماعي ونحوها… ولا يمكن مثلا لمؤسسات الضمان الاجتماعي أن تتجاهل أنها ستعرف بعد عشرين سنة مثلا: مشكلة تتمثل في كثرة من يسحبون الأموال منها، وهم المتقاعدون، وقلة من يودع المال فيها احتياطا للتقاعد الآتي، وهم السكان النشطون. فهذا ظن غالب لا نملك إلا أن نأخذ به في قراراتنا الحالية، وإن كان هذا النظر يتعلق بالمستقبل.

2.le choc du Futur, p .211

3. الدراسات المستقبلية، ص5.

4.Première guerre civilisationnelle, P 169.

5. راجع تفصيل هذه القاعدة في كتب أصول الفقه.

6. انظر: le choc du Futur, sous-titre : 800eme génération, pp 17-28.

7. راجع: فصل “مستقبل الدولة القومية” في: Paul Kennedy : Préparer le XXI siècle. وانظر حول مستقبل الشكل البيروقراطي في الإدارة: le choc du Futur, pp 144-174، وراجع مقال: الديموقراطية المهزوزة في: le Monde diplomatique, Octobre 1996, p1. وانظر: مقال الدكتور محمد الجابري في جريدة الاتحاد الاشتراكي: مشروع النهضة العربي وآفاق المستقبل. 26 يوليوز 1996.

8. يقدر الباحثون أن المعرفة الإنسانية كلها –أي منذ آدم عليه السلام– تتضاعف اليوم كل سبع أو ثمان سنوات. إن ما حصله الإنسان من المعارف إلى حدود سنة 2004 سيكون مضاعفا سنة 2011 أو 2012، راجع بحث: “دور الموارد الإنسانية في حضارة المعرفة ” في كتاب: Nord/Sud : Prélude à l’ère Post-coloniale, de Dr Mahdi El Mandjra, pp 202-209

9. راجع أول كتاب: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية لمصطفى عبد الرازق.

10. راجع حول أشكال التنبؤ بالمستقبل التي عرفها الإنسان: Encyclopédie des Arts Divinatoires, de Belline. Collection marabout service. Editions Robert Laffont 1977, Paris.

11. راجع في بعض آثار الاعتقاد في الغيب رسالة “العقل والغيب” لحسن هيتو. وانظر الفصل السادس: الجبرية والإيمان بالقضاء والقدر في كتاب: الإسلام كبديل، لمراد هوفمان، ص: 95 فما بعدها. وقارن بفقرة “العقل العربي والتوجيه المستقبلي” في كتاب: “الدين والتحرر الثقافي” للدكتور حسن حنفي، صفحات: 159 إلى 166.

12. يقصد بعض الدول الأوربية الأساسية في ذلك القرن كبريطانيا وفرنسا وهولندا.

13. عن الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية، ص: 14-15. وانظر: Naissance et déclin des grandes puissances. Par Paul Kennedy. Pages 390 et 411

14. راجع كتاب الأستاذ المهدي المنجرة: Nord/Sud : Prélude à l’ère Post-coloniale

في مقالات كثيرة كتب أكثرها بين سنتي 1977 و 1990 . وانظر مقال: الجزائر وفرنسا والأمم المتحدة، الذي كتب سنة 1957. وانظر مثالا آخر للتوقعات الصادقة في مقال: les conséquences politiques de la paix : un modèle de prospective politique, de Jean Sévilla في مجلة: Futuribles N° : 206–P 67

15. راجع: الأزمة الفكرية المعاصرة، للدكتور طه جابر العلواني، ص23-25.

16. من هذه المحاولات مقال: د. أحمد الدجاني: دراسة المستقبل برؤية مؤمنة مسلمة، بمجلة المسلم المعاصر، عدد 62، وخصوصا صفحات: 122 إلى 133.

17. راجـع في هذه القضــايا: القسم الثاني من كتاب “الدراسات المستقبلية”، لوليد عبد الحي، صفحات: 103 إلى 210.
ـ القدس: رمز وذاكرة، للدكتور المنجرة، 169، 187، 191، 240، 245.
ـ الفصل الخامس: ملامح المستقبل، من كتاب: نحن والمستقبل: 105 إلى 136.
ـ كلمة التحرير في مجلة المسلم المعاصر، عدد: 67/68، ص5 فما بعدها.
ـ مقال: النظام الدولي الجديد، الواقع الراهن واحتمالات المستقبل، للدكتور علي الدين هلال. مجلة عالم الفكر. عدد: 2/3 لسنة 1995.
ـ كتاب “جيران في عالم واحد”، وخصوصا الفصل الأول: عالم جديد.
وانظر أيضا: مقالات متفرقة في: Nord/Sud : Prélude à l’ère Post-coloniale
ـ القسم الأول من كتاب Préparer le XXI Siècle وقد قمت بعرض لمحتوياته في مجلة المنعطف المغربية عدد: 11 سنة 1995.
– Le choc du Futur, pp 62-363
ـ مقال: A la recherche du temps à venir في مجلة: Le Point, N° 743, P 77
ـ مقال: الانفجار الحضري في: Le monde diplomatique, Juillet 96
ـ شبيبة ثانية للشركات الاستعمارية، في: Le monde diplomatique, Avril 96

18. الحرب الحضارية الأولى 52، 64. وانظر: * Nord/Sud : Prélude à l’ère Post-coloniale P : 79 وراجع نماذج لهذا الاهتمام المفرط في: * فصل الانفجار السكاني، في: Préparer le XXI Siècle
ـ كتاب عالم يفيض بسكانه: عرض لأسباب المشكلة وحل جذري لها، للسير روي كالن، مثلا صفحات: 49 إلى 57.
ـ وراجع مقال: قراءة إسلامية لنظرية مالتس في السكان، للدكتورة زينب الأشوح. مجلة المسلم المعاصر، عدد: 73/74، ص: 29.
ـ راجع: “التنبؤ الوراثي”، وخصوصا الفصل الحادي عشر: أخطار التنبؤ: 259 إلى 293.
ـ وراجع: 225، 222 le choc du Futur Préparer le XXI Siècle, chapitre. وانظر: قضايا فقهية معاصرة، 61، 69.


(*) أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – ظهر المهراز، فاس، المغرب.

اترك تعليق