استعادة حركة حماس للعلاقة مع النظام السوري، قراءةٌ واقعيةٌ في الحال والمآل

بقلم الشيخ د. محمد بن محمد الأسطل(*)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

فما إن تردد في الإعلام نية حركة حماس استعادة العلاقات مع النظام السوري بقيادة المجرم بشار الأسد حتى أخذ الناس في جولةٍ من الأخذ والرد بين مؤيدٍ ومعارض، وهناك من يرفض التواصل من أصله لكنه يتفهم الحاجة إليه، وهناك من يتفهم التواصل في أصله لكنه ينكر مسيس الحاجة إليه.

وفي ظلال ذلك جاء اللقاء الذي حصل بين عددٍ من أهل العلم ومن أبرزهم الشيخ محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي وفقه الله وبين قيادة الحركة، والذي انتهى بتحذيرهم للحركة من الإقدام على هذه الخطوة؛ لغلبة المفاسد فيها على المصالح، ومن ثم دخل الناس في جولةٍ جديدةٍ من الجدل إزاء موقف العلماء بين مؤيدٍ ومعارض، وهو ما عالجته في مقال: “العلماء والقادة.. خطَّان متطابقان أم متوازيان“؟ فأحيل عليه.

والكلام في هذه الرسالة يتأسس على ما ذكرته من قبلُ في رسالة “بين حماس وإيران“، فمن لم يكن قد اطَّلع عليها وأوقف القراءة الآن وفعل ثم عاد.. فإنه أعون على تحصيل المقصود وإدراك كامل المشهد، وهذه الرسالة وذاك المقال منشوران على قناة التليغرام الشخصية ورابطها: ( t.me/mastal )

إذا تقرَّر هذا فأقول:

إنني في هذه الرسالة ألتقط صورةً عن الواقع في الحال واستشراف المستقبل في المآل، فآتي على أهم المصالح والمفاسد المتوقعة؛ لأصل بهذا إلى النصيحة التي أرى، ولست أحب أن أجزم بحِلٍّ أو حرمة أو أن أسلك في هذه الرسالة مسلك الفتاوى؛ فإنَّ هذه المسألة احتفَّها من الظروف ما جعلها بمسائل النوازل أشبه، وليس مطلوبًا من كلِّ أحدٍ أن يفتي في النوازل أو أن يجزم فيها برأيٍ، فهذا أتركه لأهل العلم وما يصدر عنهم من فتاوى محررة، وأشتغل باستظهار المشهد الذي أتأهل به إلى إسداء النصيحة التي أرى؛ فإنَّ النصيحة دين، وهي لأئمة المسلمين وعامَّتهم.

وقد مكثت قريبًا من أسبوعين وأنا أشتغل ببحث المسألة والدراية بأطراف القول فيها، من أجل فهم الصورة في الواقع جيدًا، مع ما تطلب ذلك من الاستماع لوجهة نظر كلِّ فريق وما احتاجه ذلك من عزيز الوقت الذي أُنفِقَ في ذلك، ومضى شطرُ المدة والكفتان متساويتان حتى رجحت إحداهن كما ترى.

وأجعل مادة هذه الرسالة في ستة محاور:

الأول: مقدماتٌ لا بد منها.

الثاني: المصالح المتوقعة.

الثالث: المفاسد المتوقعة.

الرابع: سر تخوف الناس من استعادة العلاقة.

الخامس: مناقشة المصالح والمفاسد والموازنة بينهما.

السادس: تنبيهاتٌ لا بد منها.

هذا الإجمال وإليك التفصيل:

المحور الأول: مقدماتٌ لا بدَّ منها:

وهي أربع:

المقدمة الأولى:

الفقه السياسي الوارد في الشريعة معتنٍ بالتفاصيل والجزئيات وغير مقتصرٍ على العمومات والكليات، فما يتوهمه كثيرٌ من المشتغلين بالعلم أنَّ الشريعةَ أتت بخطوطٍ عامة ويُترك الأمر بعد ذلك لعلماء كل زمن يُنزِلُون هذه المبادئ العامة على ما يستجد للناس من أحداث.. ليس بدقيق.

ومن رام العلم بحكم الشريعة في أيِّ مسألةٍ سياسيةٍ ثم راح يحتكم للمرجعية الشرعية المتمثلة في المنابع الأربعة الآتية: الكتاب والسنة والسيرة النبوية التي هي التطبيق العملي للدين وتصرفات الخلفاء الراشدين.. كاد يُصاب بالدهشة لكثرة ما سيجد من أدلةٍ وشواهد ترشده لسبيل الهدى فيما يعرض للناس من نوازل.

وهذا ما صرَّح به الإمام الشافعي منطوقًا في كتابه الرسالة فإنه قال: “فليست تنزل في أحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيلِ الهدى فيها” ثم ساق جملةً من الآيات تؤكد ذلك منها قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]([1]).

وقد أشبع القولَ في هذه المسألة وأطال النَّفَسَ فيها أخي الدكتور محمد النوباني وفقه الله في كتابه الرائع: “النظرية الحركية في السياسة الشرعية“، فقد بيَّن ذلك بالتفصيل وأطال النَّفَس في التأصيل والتدليل والتمثيل، بما يشمل اتخاذ القرار السياسي وتحديد المسار في كافة محاور العملية السياسية، وخلص إلى أنَّ الإشكاليَّةَ ليست في قصور النصوص؛ ولكنها في عشوائية التنزيل([2]).

وثنى بكتابه “دفع وهم الإجمال بحقائق التفصيل والبيان” مع أخيه الأستاذ أحمد ناصر الدين رفيق علي الخضيري وفقهما الله لدفع توهم أنَّ الشريعة جاءت مفصلة في جانب العبادات فقط؛ لأنها ثابتةٌ لا تتغير، بينما جاءت مجملةً في باب السياسة الشرعية لتغير الزمان والمكان، وبين أنَّ هذه الفكرة الشائعة واهية، وأنَّ الشريعة أجملت وفصَّلت في كلِّ باب بحسب الأهمية والموضوع، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

والغريب في هذا الاتجاه هو تصور أنَّ الشارع الحكيم فصَّل تشريعًا في أبسط الأمور من الطهارة وإزالة النجاسات مما قد تدركه الفطرة السليمة ولو من دون نص، ثم يُدعى بعد ذلك أنَّ الشارع الحكيم أجمل في باب السياسة الشرعية، وهذا تناقضٌ عجيب!.

فهل يُفَصِّلُ الشارعُ في أمور بسيطةٍ كهذه ثم يترك الأمة هكذا دون توجيهٍ وإرشادٍ في جانبٍ من أهم جوانب الحياة، بل وبه قوام الدين كما يقول أهل العلم في تعريفهم للإمامة الكبرى بأنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا“!.

وهذا الكتاب والذي قبله من الكتب التي حقُّها أن تُعمَّمَ في الناس وتُدَرَّسَ حتى يصير معناها ثقافةً حيةً حاضرة.

المقدمة الثانية:

وظيفة العالم الشرعي بيانُ أمر الله تعالى، وهو عمل النبي r كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].

ولا يقدر العالم أن يبين أمر الله إلا إذا عرف حكم الله تعالى في نفسه، والواقع الذي يتنزل فيه حكم الله تعالى.

وفي المسار السياسي لا بد للعالِم أن يكون واعيًا بالمشهد السياسي ولو في نطاق المسألة التي يتكلم فيها، وأن يكون عارفًا بمحاور التفكير السياسي وأهمها: موازين القوى، والتحالفات، والأولويات، والمآلات.

ولو لم يتحصل ذلك إلا بجلوس السياسي إلى الشرعي وبسط الأمر بين يديه.. وجب ذلك، لكن السياسي لا يستقلُّ بالتقدير؛ لأنَّ تنزيل النصوص على الواقع واستنباط الحكم الشرعي من الأدلة للوقائع عمليةٌ دقيقةٌ ذات خطر تحتاج لمهارةٍ فائقةٍ ومُكنةٍ عاليةٍ ورسوخ ودقة نظر.

وبهذا يعلم خطأ القول بأنَّ العالمَ يبسط القواعد العامة بين يدي السياسي، ويفوضه في الفتوى، ومن ثم يفتي السياسيُّ نفسَه بنفسه؛ بناءً على تلك القواعد من مثل اتباع المصلحة متى رجحت، ودفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما وما إلى ذلك؛ فقد يُقدِّر السياسيُّ أنَّ هذه المصلحة معتبرة، لكنها في نظر الشريعة ملغاة أو متوهمة بناءً على إرشاد النصوص، فتحصَّل أنَّ السياسيَّ أقدر على بيان الواقع لكن ليس من عمله تنزيل النصوص على الوقائع.

وما سمعتُ سياسيًّا يتكلم بهذا ويعطي نفسه حقَّ الإفتاء لأسطَر له هذا التنبيه؛ ولكني رأيت بعض المشتغلين بالعلم هم الذين ينطقون بهذا!.

المقدمة الثالثة:

قد يصح العمل في نفسه ولكن تتعارض فيه المصالح والمفاسد، فالحكم لما غلب، بل قد يكون العمل مطلوبًا شرعًا ولكنه تقف في وجهه المفاسد فيُترك.

 ومن أدلة ذلك: ما روى البخاري ومسلم أنَّ النبيَّ r قال لعائشة رضي الله عنها: “يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ([3]).

وسيأتي مزيد تقريرٍ وتمثيلٍ لهذه المسألة إن شاء الله.

المقدمة الرابعة:

الأصل في التحالف السياسي أنه جائزٌ في الجملة، وقد يكون طريقًا لنصرة الدين وغَوث المستضعفين، ولكن تحت هذا الأصل العام كثيرٌ من الضوابط والشروط والتفاصيل ذكرها الدكتور هشام برغش وفقه الله في كتابه: “الأحلاف العسكرية والسياسية المعاصرة والآثار المترتبة عليها.. دراسةٌ فقهيةٌ مقارنة”، ومن ذلك:

  • أ‌- وجوب حراسة العقيدة والثقافة والهوية من التأثر؛ خشيةَ الانحراف أو الانصهار في ثقافة المستعان به أو المتحالف معه.
  • ب‌- ألا يفضي ذلك إلى تفريق صف المسلمين وتمزيق وحدتهم.
  • ت‌- إذا كان المتحالف معه مبتدعًا داعيًا إلى بدعته فالتحالف معه مقيدٌ بالحاجة الماسة أو الضرورة، وإذا كان كافرًا فالتحالف مقيدٌ بالضرورة ولا يجوز ذلك في حالة الاختيار([4]).

ومن أدلة جواز التحالفات: ما روى البيهقي عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: “لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ([5]).

أما استفادة المسلم من الكافر.. فمن أبرز أدلتها أنَّ النبيَّ r استفاد من قبيلته بني هاشم الحماية وهي يومئذٍ على الكفر، ودخل في جوار المطعم بن عدي، إلى غير ذلك.

لكن هذه الاستفادة كانت متكئةً على ساق المفاصلة في العقيدة، ولم يحصل أيُّ قدرٍ من المداهنة أو التنازل، ولم يترتب عليها مفسدةٌ بأيِّ مسلمٍ كإنزال ضررٍ به أو خِذلانه أو غير ذلك.

وبناءً على هذه المقدمة والتي قبلها؛ فإنَّ الحكمَ الشرعيَّ قد يكون جائزًا من جهة الأصل، ولكن يتم وضع المصالح في كفة والمفاسد في كفة ثم الحكم لما غلب، وكل مصلحةٍ لو انفردت فقد لا تنهض للقول بالجواز لكنها تتقوى بغيرها، وكل مفسدة لو انفردت فقد لا تنهض للقول بالمنع لكنها تتقوى بغيرها.

صورة من وفد الفصائل الفلسطينية في زيارة بشار الأسد.

صورة من وفد الفصائل الفلسطينية في زيارة بشار الأسد.

المحور الثاني: المصالح المتوقعة:

قبل الكلام عن المصالح لا بد من طرح عددٍ من الأسئلة:

هل استعادة العلاقة مع النظام السوري هي من باب التحالف معه على مناوأة العدو الصهيوني أم هي علاقة استفادة متبادلة؟.

وإذا كانت من باب الاستفادة فما هي الفوائد المرجوة لكلِّ طرف؟.

وهل الطرف الآخر هو النظام السوري أم أنَّ الطرفَ الحقيقيَّ هو إيران التي لها نوعُ وصايةٍ وتحكم بالشأنِ السوري؟.

وما قدر الولاية التي تتمتع بها حركةُ حماس داخل هذا المحور الذي يتشكَّل؟ وهل لها نوع تأثيرٍ في قراراته أم هي تابعٌ فقط؟.

وهل هذه العلاقة بأسرها هي من باب جلب المصالح أم هي من باب درء المفاسد؟، وهل التعارض هنا بين المصالح والمفاسد أو بين المفاسد نفسها بعد أن تزاحمت؟ أم أنَّ التعارض خليطٌ من هذا كلِّه؟.

ومن الذي ضغط باتجاه استعادة هذه العلاقة؟.

إنَّ الإجابةَ عن هذه الأسئلة تكشف الواقع وتوضحه وترشد إلى معرفة الحكم الشرعي واتخاذ القرار السياسي الصحيح، وحيث إنَّ الحركة لم تُفصِّل في ذلك.. فإني أفترض أحسن الإجابات وأجود المحامل التي تكثر معها المصالح وتقل معها المفاسد، وأنَّ المستفيد الأكبر هو حركة حماس، وأُسَجِّل بعض المصالح التي تُرجَى من هذه العلاقة كما نطق بذلك قادتها، وعِدَّتُها ستُّ:

أولًا: إمكان العودة للأراضي السورية والتمركز فيها بعد تضيق الأماكن المتاحة أمام الحركة، فتصبح بهذا خيارًا إضافيًّا يمكن الاستفادةُ منه.

وتقول الحركة: إننا إزاء تعقد المشهد حريصون على إحداث أيِّ اختراقٍ في العلاقات السياسية، ولهذا نتحرك في اتجاهاتٍ متعددة.

وهذه العودة تمنع ابتزاز الحركة؛ إذ إنَّ تموضعَها الحالي يسمح للأعداء بالضغط عليها وابتزازها بسبب عدم وجود ساحاتٍ بديلةٍ لاستيعاب كوادرها.

ثانيًا: تحصيل بعض المكتسبات من خلال إعادة التموضع في سوريا:

وذلك مثل رعاية مصالح الفلسطينيين الموجودين في سوريا، وإخراج المعتقلين الموجودين في سجون النظام السوري، ثم إنَّ سوريا بوابةٌ للعراق والأردن، ويمكن أن يزداد تعزيز الاستفادة منهما من خلال سوريا.

ثالثًا: استخدام الأراضي السورية في تنفيذ الهجمات على الكيان الصهيوني، أو في بعض التكتيكات التي تخدم في الصعيد العسكري الخاص أو في جعلها أحد خطوط الإمداد إن تيسَّر ذلك.

رابعًا: زيادة القوة ومهابة الجانب بالدخول في حلفٍ يتشكل في مقابل الحلف الذي يتشكل برعاية الرئيس بايدن.

خامسًا: زيادة الدعم المالي الإيراني أو بقاؤه.

سادسًا: تخفيف عزلة الحركة بدخولها في علاقات جيدة مع الإقليم أيًّا كان الحال.

ويقول قادة الحركة: إنَّ سياسةَ الحركة عدم الدخول في الشأن الداخلي للدول على ما نحن عليه من مؤازرةٍ قلبيةٍ إزاء ما في الشعوب من شدةٍ ولأواء، وإننا قد راعينا الثورة السورية وخرجنا من سوريا مؤازرةً لإخواننا في الثورة، ورفضًا للبطش الذي لحق بهم، غير أنَّ حركة الأحداث دفعت باتجاه استعادة العلاقة، لا سيما بعد أن تنكرت لنا غالب الدول على صعيد الأُطر الرسمية، والشعوب كلها في أزمة، فمن استطاع أن يُحدث اختراقًا يجلب له المصالح ويدرأ عنه المفاسد فليفعل.

ثم إننا لم نغير ولم نبدل، ولم نقترب من إيران أو النظام على حساب أهل السنة؛ فإنَّ غزة عن بكرة أبيها من أهل السنة، وليس في غزة شيعةٌ قط، بل لا توجد أرضية لحلول فكر الشيعة فيها، وإيران تعرف هذا وتتفهمه، ولا تطالب بالتحول الفكري أصلًا، وبلدنا محفوظٌ بفضل الله وحده، والأمر لا يتجاوز الخطاب الإعلامي لما نظنه جلبًا للمصالح ودرءًا للمفاسد.

وأما بخصوص استعادة العلاقة مع سوريا.. فإن نحوًا من عشرين رجلًا شرعيًّا كانوا يحضرون اللقاءات التشاورية معنا وهم من أكثر الناس انتماءً للأمة وهمومها، ولو كنا نرتكب زللًا لنهونا عنه، ولكن هذه ظروفنا وهذه مصالحنا، والناس من حولنا لا تدرك الحال الذي نحن فيه على وجهه، وهذا اجتهادنا فإن أصبنا فهذا خير، وإن أخطأنا فنسأل الله ألا نحرم أجر الاجتهاد.

هذا ملخص ما قاله غير واحدٍ من قادة الحركة في الأيام الماضية في بيان البواعث على استعادة العلاقات مع النظام السوري وما شاب المشهد من لغط.

المحور الثالث: المفاسد المتوقعة:

لا يُكتفى في الوقائع السياسية بالنظر إلى جانب المصالح فحسب؛ بل لا بد من اعتبار المصالح والمفاسد ثم العبرة بما غلب.

وهذه جملةٌ من المفاسد التي يمكن أن تنتج عن استعادة العلاقة مع النظام السوري، وعدَّتها ست:

أولًا: خسارة أكثر شعوب الأمة بسبب ذلك:

وقد رأينا أنه بمجرد الحديث في الإعلام عن استعادة العلاقة فقد اندفعت حملات شعبية للقدح في الحركة لا سيما من الشعبين السوري واليمني، وراحوا يتهمون الحركة بأشد الألفاظ، معتبرين ذلك خيانةً للمبادئ، وخِذلانًا للأمة في قضاياها وأزماتها وأحوالها.

واحتشد في ذلك كثيرٌ من العلماء والدعاة والإعلاميين والمثقفين والمؤسسات العلمية فضلًا عن مادة الشعوب نفسها.

ومما يزيد القضية اشتعالًا أنَّ استعادة العلاقة مع النظام السوري فرعٌ عن العلاقة مع إيران، وإيران تحتل عمليًّا اليمن وسوريا والعراق ولبنان ولها الحضور القوي في البحرين ولها تمددٌ في بعض الدول، فخصوم إيران سيكونون في مواجهة قرار الحركة، فضلًا عن أنَّ قطاعات عريضة في السعودية تقدح في حماس، مما يعني أنَّ أكثر من نصف الشعوب سيكونون خصومًا للحركة في قرارها هذا.

وإذا انبعثت حملات قوية تهاجم الأستاذ إسماعيل هنية عندما وصف قاسم سليماني بأنه شهيد القدس فكيف الحال لو اتجهت الحركة للعلاقة مع النظام السوري الذي أعمل القتل في شعبه وما زال الشعب مشرَّدًا يعاني الويلات!.

إنَّ هذه مفسدةٌ حقيقيةٌ كبرى، وليس الكلام عن مجرد عواطف، وبلغة المصالح: فإنَّ الأمة تمثل العمق الاستراتيجي للحركة، وهي النبع الدائم الذي يفيض عليها بالخيرات، ولا يُعكِّر هذا طغيان الفقر والمسكنة في هذا الوقت العصيب الذي تمر به، فإنَّ خسارته خسارةٌ استراتيجيةٌ لا تُعوَّض.

أما العلاقة مع إيران وكذلك النظام فهي علاقة تكتيكية يمكن أن تختل، فإذا تمت خسارة المصالح الاستراتيجية نزولًا عند المصالح الآنية فقد عظم الغُبن.

ولا تنسى المقاومةُ أنَّ الأمة على مدار سنوات الانتفاضة كانت تنفق عليها وتؤثرها بالمال على حساب قُوتِهَا؛ لأنَّها ترى القضية الفلسطينية أم القضايا، وهي عقيدة وآيةٌ في كتاب الله.

ثانيًا: خسارة الرأي العام وما يستتبعه من خِذلان الجاليات الفلسطينية والشعوب المكتوية بنار النظام وإيران:

فهذه الحركة جزءٌ من الأمة، والأمة كلها كالجسد الواحد، والعلاقات السياسية إذا ترتب عليها شعور بالخِذلان وتهتك المشاعر فإنَّ ذلك مفسدةٌ مستقلة وإن كان الفعل جائزًا من جهة الأصل.

ولهذا بدأت الكلمات الواردة من الشعوب تدل على أنهم يشعرون بخذلان إخوانهم في حماس وعدم تقدير مشاعرهم وهم يُقدِمُون على إعادة العلاقة مع قاتليهم، ولهذا رأينا انتفاضةً شعبية وسط الجمهور السوري المعارض ضد الشيخ أسامة الرفاعي لمجرد لقائه بالأستاذ إسماعيل هنية.

وفي ذات السياق ما تكلم به كثيرٌ من أبناء الجاليات الفلسطينية في سوريا من أنهم يشعرون أنَّ الأب قد تخلى عنهم لصالح الحليف الذي اكتووا بناره.

ورعاية المشاعر بين الأمة الواحدة مطلوبٌ شرعًا، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

وأحوال الناس تشهد لو أنَّ أحد الإخوة زار من أساء لأبيه أو لأخيه أنه قد خذله وإن لم يكن خِذلانًا حقيقيًّا في نفس الأمر.

وقد رأيت على وسائل التواصل من بعض أولي الهيئات من ينادي بسحب تمثيل القضية الفلسطينية من يد حماس، وأنها باتت حركةً وطنيةً لا إسلامية، وأنَّ البوصلة تاهت في فلسطين، إلى غير ذلك مما يشي بتراجع سمعة الحركة في الرأي العام.

وهذا الكلام وإن كان منفيًّا في الواقع؛ لأنَّ العلاقة مقتصرة على التواصل السياسي دون أي أثر ذي بالٍ على الأرض.. إلا أنَّ مراعاة الرأي العام معتبرٌ شرعًا وعقلًا وعرفًا.

ومن شواهد اعتبار الرأي العام في الشريعة: أنَّ النبيَّ r رفض أن يقتل ابن سلول وهو عدوٌّ كافرٌ عنده بإخبار الوحي؛ لئلا يشيع في الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه، ورفض أن يغير الكعبة على قواعد إبراهيم u كما مرَّ؛ رعايةً للرأي العام الذي لا يحتمل ذلك لقرب عهد مُسْلِمَةِ الفتح بالكفر، وعزل سعد بن عبادة t يوم الفتح حين قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم أذل الله قريشًا؛ لأنَّ ذلك يُشوش على الهدف المطلوب؛ وهو دخول أهل مكة في الإسلام، وقال تصويبًا للتصريح الأول: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزَّ الله قريشًا.

فهذا الأمر ليس عاطفةً محضةً كما يُروَّج، بل من العقل جمع الناس على كلمةٍ سواء ما استطاع السياسيون إلى ذلك سبيلًا.

ثالثًا: خسارة العلماء والدعاة:

وهذه مفسدةٌ مستقلةٌ وإن أمكن أن تندرج في المفسدة الأولى؛ لأنَّ العلماء هم وقود التحريض للمشروع الجهادي، وهم موضع نظر الناس، فالناس تأخذ منهم لا من السياسيين والحركيين، وإذا خرجت الفتاوى بأنَّ حركة حماس جانبت الهدى في هذه المسألة فهذا يعني انفضاض كثيرٍ من أبناء الأمة عنها.

والدين له سطوته في النفوس والقلوب، والناس تحب من يكون وقَّافًا عند النص الشرعي، وبمجرد إعلان العلماء أنهم قد جالسوا الأستاذ إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي وبعض القادة معه، وأنهم قد بينوا لهم المفاسد، وناقشوا المصالح التي ذُكِرت لهم نقاشًا طويلًا حتى خلصوا إلى المنع.. وإذ بحملة تنبعث ضدهم من الصفوف الحركية وإن لم يوافق عليها القادة في الحركة والعقلاء وأولوا النهى، وهذا بدوره يضعف من قبول الحركة في المحيط السني ويُسقط العلماء في الوسط الحركي، بل ويُسقط الذات، فضلًا عن افتتان كثيرٍ من الأتباع؛ لأنَّ الوفد هم من العلماء المتفق على فضلهم وحسن عنايتهم بالقضية الفلسطينية وعلى قربهم من المشهد.

بل طريقة المعاملة مع هذه الخلاف تكشف عن حالة من التشظي في القيم وأدب الخلاف، فحين كان هذا الجمع الكريم من العلماء موافقين للحركة كانوا موضع تقديرٍ ومدح من أتباعها، وأنَّهم يدرون واقعنا، ويفهمون أحوالنا، وحين المخالفة نالهم ما نالهم من الأذى وأنهم يجهلون واقعنا، مع أنَّ أكثر الشباب الغزي كان يناوئ المخالفين بأنَّ لهم علماء يتفهمون ظروفهم وهم يعتمدونهم في الفتوى.

ولا يشفع هنا ما يتردد بين بعض أتباع الحركة أنَّ فتاوى العلماء صادرة من غير درايةٍ بالسياسة؛ لأنَّ بعض هؤلاء العلماء لهم تجارب سياسية جيدة في بلادهم، وبعضهم تقلد مناصب حكومية رفيعة، وهم مدركون لتعقيدات المشهد جيدًا، ويدل على ذلك طبيعة الحوار والنقاش والأخذ والرد الذي دار في جلستهم مع الأستاذ إسماعيل هنية؛ فهم لم ينطلقوا من عمومات فقط؛ ولكن ذكروا المفاسد وناقشوا المصالح، وما انطلقوا في الكلام من أصل المنع، ونبهت على هذا لأني رأيتُ بعض من نقل قولهم بطرحٍ يجعل السامع يحسب أنهم تكلموا بسطحيةٍ وسذاجة.

ثم إنَّ الاختلاف في الرأي واردٌ في فئة السياسيين أيضًا بما في ذلك بعض المستويات القيادية المتقدمة، وهم مطلعون جيدًا على حقيقة المصالح ومركزيتها، وأمام هذا المشهد المضطرب فإنًّ حصول شيءٍ من التصدع داخل البنية الإسلامية واردٌ جدًّا في أكثر من اتجاه إذا مضت الحركة في استعادة العلاقة مع النظام السوري.

رابعًا: اختلال وحدة الصف الحركي نفسه:

وذلك أنَّ الاختلافَ على هذه المسألة طال الصفوف القيادية نفسها، وهذا سيجعل ثمة معارضة داخلية لهذا القرار، ومن ثم سيكون هناك أنصارٌ لكلِّ رأيٍ وفريق مما يكون معك التفرق والله تعالى يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

والأمر ذو الخطر أنَّ إيران نفسها يُعجبها أن تكون لها الكلمة على الحركة، ومِفتاح ذلك التفرق والاختلاف، وقد رأينا من قبل محاولة إيران إيجاد شرخ أيام زيارة الأستاذ خالد مشعل إلى لبنان، لكن الحركة كان يقظةً إذ أمضت الزيارة وحرصت أن تكون لحمةً واحدة.

فالذهاب إلى هذا المحور الذي يتشكل له ثمنٌ على الصعيد الخاص وعلى الصعيد العام،  بالإضافة للخلاف الذي رأينا بين علماء الخارج وعلماء الداخل، والخلاف الذي يمكن أن يتعمق بين الداخل والخارج، وكل ذلك يُنذر بوجود مفاسد لا تُحمد عقباها.

خامسًا: زعزعة الأتباع وافتتانهم:

وهذه المفسدة لا يدركها على وجهها إلا من يدري الأفكار التي تحوم بعقول الجيل الصاعد.

ولا بد أن يستقر عند السياسيين أنَّ أخذ الأتباع عن العلماء أكمل من أخذهم عن قادة حركتهم، فحين يرون علماء الأمة في جانب وحركتهم في جانب.. يحصل افتتان كبيرٌ وفوضى لا تنضبط.

والذي يؤجج المشهد أنَّ القادة لم يشتغلوا بتحصين الأتباع والجماهير بتقرير العقائد والمبادئ وهم يتوجهون لتحصيل ما أمكن من المصالح، فيستقر عندهم أنَّ القادة أقرب إلى المصالح منهم إلى المبادئ.

وإذا كان القادة على وعي تامٍّ بكامل المشهد، وهم يعلمون أنَّ تقدمهم إنما هو في إطار المصالح دون الخدش بالمبادئ، وهم في أمنةٍ من التأثر بالفكر الرافضي.. فإنَّ الميلَ القلبي أقرب حصولًا عند الأتباع، والساحة تنطق بذلك، ولا تخطئ العين بعضًا من الناس قد غيَّروا وبدلوا وتأثروا وإن كانوا إلى هذه اللحظة قِلَّة.

وأعان على ذلك تلك التصريحات غير المنضبطة لبعض قادة الحركة التي يُخشى معها فعلًا أن يكونوا قد وقعوا في الميل القلبي، سواء كانت الحركة تُقِرُّ لهم ذلك أو لا؛ لأنهم يمثلون الحركة في الصعيد العام.

بل لا يُؤمَنُ أن يقع بعضُ الأكابر من الحركة في ذلك؛ فإنَّ الاشتغال بالسياسة شيء والاشتغال بمادة الشرع والفكر شيء؛ فقد يُوجد من الأكابر من يعتقد أن العلاقة مع إيران علاقة استراتيجية، وأنَّ الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلاف مُضخَّم، وأنَّ العلاقة معها علاقة اختيارية لا اضطرارية، وأنَّ رافضة اليوم يختلفون عن رافضة الأمس؛ اغترارًا بما يصرح به بعض قادة الشيعة تَقِيَّةً أنهم ينهون عن تكفير الصحابة y والطعن فيهم وما إلى ذلك، والفتنة إذا نزلت فإنها لا تقف عند حد.

سادسًا: تقوية المحور الشيعي:

فالملاحظ أنَّ إيران تأخذ لنفسها من حماس أكثر مما تعطي؛ فالمشروع الفارسي ماضٍ بقوة، وتخوض إيران لأجله المعارك، وتُعْمِلُ القتلَ في أهل السنة، وإنَّ مجرد الانضمام إلى محور ليس فيه إلا الشيعة أو النصيرية من شأنه أن يوقع الوهن في أهل الإسلام وهم يرون حركة حماس وهي تمثل رأس الحربة في مقاومة العدو الصهيوني تقترب من هذا المحور يومًا بعد آخر.

والناس ستنسب للحلف كل أفعاله، مما يجعل موقف الحركة ضعيفًا إزاء تموضعها في هذا الحلف؛ إذ لن تقدر أن تُنكر على الحلف أفعاله في غير موضعٍ من البلاد الإسلامية لا سيما سوريا واليمن؛ بناءً على سياستها من عدم التدخل في شئون الدول.

والمقطوع به أنَّ إيران لن تدخل حربًا ضد الصهاينة من أجل غزة، ومن بابٍ أولى ألا يدخل حزب الله أو النظام السوري، والحروب التي شُنَّت على غزة على مدار العقدين الماضيين وما حصل بالمسجد الأقصى من أحداث خير شاهدٍ ودليلٍ على ذلك.

بل إنَّ إيران لم ترد على العدو الصهيوني وهو يُعمِلُ القتلَ في علمائها وكبرائها، ولم يرد النظام السوري والعدو يقصف مواقعه ويستبيح أجواءه صباح مساء، فكيف يتصور من هذا الحلف أن ينتصر لغزة وللمسجد الأقصى!.

وعقب الذي تسطَّر؛ فإذا كان عَوْدُ العلاقة مع النظام السوري والانضمام لهذا المحور الجديد الذي يتشكل يفضي إلى خسارة كثيرٍ من شعوب الأمة، ويزلزل الرأي العام، وفيه خسارة العلماء والدعاة، بالإضافة إلى اختلال وحدة الصف الحركي وافتتان الأتباع وحصول الشقاق داخل الأطر الحركية القيادية نفسها، فضلًا عن حالة الخِذلان التي يشعر بها محبو المقاومة في كل مكان.. فأي مصلحة يمكن أن تقف في وجه هذه المفاسد!.

فكيف لو تُوِّج ذلك كله بفتاوى عددٍ معتبرٍ من العلماء الثقات بأنَّ استعادة العلاقات في هذه الظروف محرمةٌ لغلبة المفاسد فيها على المصالح!.

المحور الرابع: سر تخوف الناس من استعادة العلاقة:

هذه الحملة التي تُشن الآن على حركة حماس لم يُرَ مثلها ولا نصفها لمَّا نُسِجت العلاقة مع إيران عقب الفوز في الانتخابات البرلمانية سنة 2006، فلماذا يشتد الناس في الفرع وقد أقروا الأصل؟!.

إنَّ ذلك يعود لجملةٍ من الأسباب في ظني، وأهم ذلك الأسباب الأربعة الآتية:

أولًا: أنَّ إيران يومها لم تكن قد أعملت سيف القتل في أهل السنة، ولم يكن النظام السوري يمارس الإجرام بحق شعبه، وقد مضى على أحداث حماة وغيرها زمنٌ بعيدٌ نسبيًّا، مع التقدير الكبير لمشروع حركة حماس وهي تدخل الحكم والجميع يتصور حجم الحرب الدولية عليها يومئذٍ، فاحتملوا لها ذلك ما لم يحتملوه اليوم لتغير الظروف.

ثانيًا: خشية الناس من قدرة الطرف الإيراني على استمالة حركة حماس، والتأثير في فكرها ومعتقدها، بحيث تضعف علاقتها بأهل السنة.

ويعتقدون أنَّ إيران وهي تواصل دعمها إنما باتت تشترط على حركة حماس دخولها في محورها مقابل بقاء الدعم أو زيادته، مما يعني أنَّ كلامَ الحركة أنَّ علاقتها بإيران إنما هي بغير ثمنٍ أو شرط لا محل له الآن إمام إلجاءات الواقع الذي تفرضه إيران.

ومن ثم فإنهم يتوقعون أن تكون استعادة العلاقات إنما هو نزول عند رغبة الحليف الذي يريد أن يجمع أدواته في سلة واحدة؛ أعني بذلك حزب الله والنظام السوري.

وبلغة أوضح: فإنَّ كثيرًا من أبناء الأمة يخشى أن تصبح حماس ذراعًا لإيران.

ومن الشواهد التي يذكرونها: أنَّ إيران بدأت تتجرأ على شق الصف الحركي كما ظهر أيام زيارة الأستاذ خالد مشعل إلى لبنان من تصرفات حزب الله، وحديث إيران المتكرر أنَّ حركة حماس باتت من حلفائها، ومن أذرعها العاملة في المنطقة، من غير تصريحات تستنكر ذلك من حركة حماس.

ومن ذلك أيضًا: الزيارة المتكررة للحوثيين في اليمن، والتهنئة لهم في المناسبات، ومع أنَّ حركة حماس أنزلت بيانًا تبين فيه ملابسات الزيارة إلا أنَّ تكرر المشهد بصورٍ شتى يجعله كالمتقرر عند الجماهير التي تتابع ذلك.

ثم يذكرون أشياء متناثرة مثل رفع صور قاسم سليماني في غزة، ومع أنَّه من الواضح والمعلوم أنَّ حركة حماس ليست هي من رفعتها إلا أنَّ ذلك لما حصل في غزة وهي تحت سلطان حماس والتُقطِت الصور.. فإنَّ ذلك يجعلها بمنزلة الذي باشر الفعل، هذا فضلًا عن إقامة بيت عزاء له ويوم دراسي بهذا الخصوص.

ووضع الحرس الثوري الإيراني راية حركة حماس مرة خلف الناطق الرسمي باسمه على أنَّ حركة حماس من الأطر التابعة له والتي تعتبر من أذرعه، ولم يصدر من الحركة إنكارٌ لذلك.

وأعلن الحوثيون أنهم مستعدون للإفراج عن جنود سعوديين مقابل الإفراج عن رجال حركة حماس المعتقلين في السجون السعودية، وهذا نوعٌ من الابتزاز للحركة لتحقيق المصالح على ظهر القضية الفلسطينية، وهو يزيد الشرخ بين الحركة والسعودية، والحركة لم تستنكر؛ بل تماشت مع الأمر.

وصرحت بعض القيادات الإيرانية في غير مرةٍ أنَّ حركة حماس تمثل خط الدفاع الأول عن إيران، وأنَّ جيشها من ضمن أذرع إيران، وخرجت الحركة يومها واستنكرت وبيَّنت أنها لا تدافع عن أحد، وأنَّ سلاحها موجهٌ إلى الاحتلال الصهيوني لا غير، وهذا أمرٌ يُحسب لصالحها من غير شك.

فالأمة إذن تتخوف أن تقدر إيران على دمج حركة حماس أو توظيفها لصالح مشروعها الرافضي، لا سيما من خلال أدوات الضغط والتأثير الناعمة والتي تبدع فيها إيران أيما إبداع، ومع أنَّ هذا التخوف بعيدٌ جدًّا في نظر قادة الحركة للمعاني التي تقدمت.. إلا أنَّ عدم اشتغال رجال حماس بتحصين الناس، وعدم وضوح حالة البلد في الإعلام لدى جماهير الأمة تجعل تخوف الأمة قائمًا.

ولا يخفى أنَّ المشهد معقد؛ فقيادة حماس تقول: نحن نتابع ذلك ونعلمه من حال الأمة، ولكن ذلك ينتسب للعواطف، وإذا جاز لنا أن نستفيد من الحيز الذي تتيحه لنا السياسة الشرعية، ونحن على ما نحن فيه من الشدة والحصار واللأواء، وحرب القريب والبعيد، والتشكيك في جهادنا، وملاحقة أبنائها وتنكر الأنظمة لنا، وعدم وجود من يدعمنا، وشيوع الفقر والمسكنة في أبناء شعبنا، وتسلط العدو بالحروب علينا.. فلماذا لا نستفيد من الرخص الشرعية في هذا الباب ما دامت البلد محفوظة، ونحن على مدار خمسة عشر عامًا سبقت لم نبدل ولم نغير، بل نحن الذين منعنا الشباب الذين تأثروا بالشيعة قبل أكثر من عشر سنوات، وقامت القوات الشرطية بضربهم، وتم تفكيك حركة الصابرين التي لها نوع تأثر بالفكر الشيعي، فلماذا لا يراعي ذلك أبناء أمتنا؟!.

ثم هذه جامعاتنا وكلياتنا تدرس منهج السلف، ويقررون منهج أهل السنة والجماعة، ومشايخنا جميعًا على ذلك، وليس في بلدنا أرضيةٌ لهذا الفكر، ونحن على مستوى عالٍ من اليقظة والفطنة والحذر بدليل الحالة التي نعيشها، فلماذا التخوف إذن؟!.

بل إنَّ البلاد التي تتهمنا بالتشيع مليئةٌ بالتشيع ونحن الذين نُتَّهَم ليس عندنا أي درجة من التشيع، ولا يوجد أرضية أصلًا لهذا الفكر، وإيران نفسها لا تطالبنا بذلك، فما الضير إذن أن نقيم العلاقات السياسية مع إيران وأدواتها وحلفائها تحصيلًا لبعض المصالح ما دمنا في أمنةٍ من التأثر الفكري بذلك!.

ثالثًا: وجود آراء معارضة من داخل الصف الحركي، ويفسرون ذلك بأنَّ إيران استطاعت أن تستميل طرفًا دون آخر، وهي تُحدث فتنةً داخل الصف الواحد، وهذا من شأنه أن يذهب بالكلمة ويمزق الصف.

رابعًا: أن الناس لا يرون وضوحًا في المشهد الفكري عند الحركة؛ فالحركة صامتةٌ إزاء كل ذلك، حتى إنَّ عددًا كبيرًا من أبناء الأمة بات يقتنع أنَّ غزة طهران الصغرى؛ توهمًا أنها متأثرة بالفكر الشيعي.

ويرون أنَّ الحركة لا تأخذ الدين بقوة، ولا تُعَبِّرُ عن قناعاتها في الإعلام بقوة، وهذا الذي يفتن الأتباع، ثم إنهم لا يرون أحدًا من غزة يبين هوية البلد وثقافته، وهذا أمر يثير المخاوف في الأمة وهم يعدون حركة حماس رأس الحربة للأمة في مقاومة المشروع الصهيوني، فحجم العتب عليها يوازي حجم الثقة بها والمحبة لها وعقد الآمال عليها.

ولهذا لو كانت حركة طالبان هي التي قررت التواصل مع النظام السوري.. لما وقف الناس ضدها هذا الموقف فيما أحسب؛ لأنَّ القوم شديدون في بيان الحق، ولهم استبسالٌ في المواقف وتمترسٌ عند المبادئ ولو طاشت المصالح.

والحقُّ أنَّ مما يحسب لحماس أنها شديدةٌ على الأرض من حصول أي اختراق شيعي داخل البلد، ومما يحسب ضدها أنها لا تتولى مهمة تحصين الأتباع من الاختراقات الفكرية عبر تقرير الفكر والمعتقد السني الواضح بالقدر المطلوب.

المحور الخامس: مناقشة المصالح والمفاسد والموازنة بينهما:

أما بالنسبة للمفاسد.. فإنَّ المتأمل فيها يخلص إلى أنها حتميةٌ في أصلها بغض النظر عن قدرها ووصفها، أعني بذلك أنَّ كل مفسدة ستأخذ قدرًا من التحقق، وليس بشرط أن يكون كليًّا وتامًّا.

وأما بالنسبة للمصالح.. فهي التي نتوقف عندها لأنها بيت القصيد، وهي الباعث على استعادة العلاقة، وبحسب قوتها وفاعليتها يظهر حجم المفاسد بعد عقد الموازنة بينهما.

أما بالنسبة لإمكان العودة للأراضي السورية والتمركز فيها وعدِّها خيارًا إضافيًّا بعد تضيق الأماكن المتاحة أمام الحركة.. فإنه وارد، إلا أنه لا كبير غنية فيه؛ لأنَّ الأراضي السورية باتت تحت نار الصهاينة من غير أن يقدر النظام السوري على الرد على قصف مطاراته ومواقعه.

ولو عادت الحركة إلى سوريا أو بعض قادتها فلا يُؤمَن من اغتيال العدو الصهيوني لهم بالقصف المباشر، والقادة العسكريون يستحضرون هذا جيدًا، وحينئذٍ فإنَّ الردَّ لا يتيسر من سوريا؛ لضعف النظام نفسه، ومن ثم يعود الأمر للنظر إلى غزة كما حصل مع الجهاد الإسلامي حين اغتال العدو عددًا من أفرادهم فلم يجدوا إمكانًا للرد إلا من غزة.

ولو أمكن استفادة الأفراد في الحركة فما ينبغي لهذا الهامش من الحرية أن يكون على حساب المشروع الكلي للحركة من خلال اقتراف المفاسد التي تقدمت في سبيل ذلك، فلا بد من الموازنة الجيدة بين هذا وذاك.

وأما بالنسبة لاستخدام الأراضي السورية في تنفيذ الهجمات على الكيان الصهيوني، أو في بعض التكتيكات التي تخدم في الصعيد العسكري الخاص، أو في جعلها أحد خطوط الإمداد إن تيسَّر ذلك.. فإنَّ هذا وإن كان واردًا إلا أنه يشوش عليه أنَّ إيران نفسها تتعنى في فعله، والنظام السوري نفسه عاجز عن الدفاع عن نفسه مع تكاثف الهجمات ضده فضلًا عن أن يعين غيره في استخدام مقدراته.

والجولان قد تمَّت مصادرتها منذ أمدٍ بعيد.

ثم إنَّ الحركة لم تكن قادرةً على فعل ذلك وسوريا في حال عافيتها وقوتها، ولها مطلق الحرية فيها، وإذا لم تكن الحدود متاحةً يومئذٍ فهل ستتاح لها اليوم؟!.

ثم إنَّ الواقع أن النظام السوري مسلوب الإرادة، يتنازع الساحة هناك الأمريكان والروس والإيرانيون والأتراك، ولو حصل أذى للحركة هناك فلن يستفيدوا من أي ضماناتٍ من النظام السوري المتمادي في الضعف يومًا بعد آخر.

ثم السؤال المهم: ما الذي ستدفعه الحركة ثمنًا لذلك فيما لو حصل؟.

وأما أنَّ الحركة بحاجةٍ إلى تعميم نطاق بقعة المعارك.. فهذا الجنوب اللبناني يكفي في ذلك وهو تحت سيطرة حزب الله وثمة حلفٌ قائم، ولو صدق القوم في خدمة المشروع الجهادي الفلسطيني لأتاحوا للحركة استخدام الجنوب اللبناني إن لم تكن لهم إرادة في المشاركة الفاعلة في القتال.

فإن تعللوا بأنَّ النظام الدولي مانعٌ من ذلك.. فإنه سيكون مانعًا أيضًا من استخدام البقاع السورية.

وإيران نفسها كانت تُضرَب ولا تَرُد، وحزب الله كان يُضرَب ولا يرد، وما زال الناس يحفظون تهديدات حسن نصر الله بضرب حيفا لكنه لم يفعل، وحيفا موقع مركزي بالنسبة للعدو؛ لما يضمه من مواقع صناعية وصواريخ برؤوس نووية وأسلحة كيميائية وغير ذلك مما يعد ضربه ضربًا لشيءٍ كبيرٍ عند العدو.

وأما تقوية الجانب بالدخول في محورٍ يتشكل في مقابل الحلف الذي يتشكل برعاية بايدن.. فإنَّ هذا محدود الأثر؛ لأنَّ المقاومةَ في صعودٍ بفضل الله تعالى، وهي مستندةٌ لأمةٍ عريضة تفخر بها، فالدخول في هذا الحلف يضعف من حضورها الجماهيري مما يجعل بعض المكاسب باهتة في المشهد.

ثم إنَّ إيران هي المستفيد الأكبر من استعادة العلاقات، والحق أنَّ الرافضة لن يقاتلوا من أجلنا؛ فهم يتمسحون بقضية القدس لتخدمهم في مشروعهم التوسعي، وعقيدتهم لا تشجع على تحرير المسجد الأقصى أصلًا، بل إنَّ أكثر الشيعة يعتقدون أنَّ المسجد الأقصى موجودٌ في السماء، أما المسجد الأقصى الذي في فلسطين فمجرد تشابه أسماء، والذين يقرون بأنه الذي في فلسطين يجعلونه مفضولًا إلى جانب المقدسات الشيعية.

وعليه؛ فإنَّ تقدمهم من حركة حماس تقدم مصالح لا مبادئ، وهذا معلومٌ لمن تتبع كلام بعض علمائهم، وأما ما يستفيض من الشعارات وتحديد يوم للقدس ونحو ذلك.. فإنه من جملة ما يحتاجون إليه في تخفيف عزلتهم عن الأمة الإسلامية فضلًا عن حاجتهم إليه في مشروعهم التوسعي.

بل إنَّ قتال حزب الله للعدو الصهيوني آتٍ في سياق الدفاع عن البقاع نفسها لا بنية مقاومة المشروع الصهيوني نفسه، وهذا ما تحدث عنه طويلًا الدكتور راغب السرجاني في كتابه: “الشيعة ضلالٌ أم نضال” فأحيل عليه.

ومن أهم ما فيه أنَّ التركيبة الجغرافية في لبنان تجبر حزب الله على الدفاع عن الجنوب اللبناني؛ لأنه معقله، ولو كان يتمركز في الشمال وأهل السنة في الجنوب لاختلف الحال، فدفاعه عن البلاد ليس دفاعًا عن الأقصى أو عنايةً بالقضية الفلسطينية.

ولا يضير أي جهة أن تدافع عن الأرض؛ لأنَّ ذلك حاصلٌ بأمر الشريعة فوق أنه فطرة، ولكن المقصود هنا أنَّ قرب إيران منا وتعلقها بالقدس والمسجد الأقصى ليس حقيقيًّا؛ وإنما يستفيدون من القضية بعض المكاسب والتي من أهمها تخفيف العزلة عن الشيعة في أوساط أهل السنة من خلال دعم المرابطين على ثغر القضية المركزية للأمة الإسلامية.

هذا بالإضافة إلى أنها تستخدم ذلك منديلًا تتمسح به لصالح المشروع التوسعي، ففيلق القدس شماعة لا أكثر ولا أقل، فهو لم يقاتل في القدس، ولن يقاتل في القدس، بل رأينا حزب الله يسحق الشعب السوري وحسن نصر الله يصرح قائلًا من غير خجل: إنَّ ذلك هو الطريق إلى القدس!!.

وقد سمعت من أحد علماء سوريا في الشمال السوري المحرر قوله: إنَّ أهل فلسطين يقولون: إننا نقبل الدعم الشيعي بلا ثمن ولا يدركون أننا الثمن!؛ وذلك إشارةً إلى أنَّ إيران وحزب الله يستعملون القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى جزءًا من الغطاء الإعلامي لبيان الباعث على سحقهم.

وأما تخفيف عزلة الحركة بدخولها في علاقاتٍ جيدةٍ مع الإقليم أيًّا كان الحال.. فإنَّه مكسبٌ عظيم، إلا أنَّ الذي يُضعف من أثره أنَّ العلاقة هنا مع نظام مجمع محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا على ضعفه، فليس الاستكثار به ذا قيمة.

 وأما بقاء الدعم المالي الإيراني أو زيادته.. فإنَّ هذا مكسبٌ حقيقي؛ لأنَّ الحاجة إلى المال ماسَّة بعد إحكام الحصار على غزة من كلِّ جانب.

وهنا حلقةٌ لم أقدر على التوثق منها: هل يتأثر الدعم القائم بقرار العودة لسوريا أم لا؟.

سأفترض أنَّ إيران تشترط هذا الشرط، وأنَّ الدخول في المحور الجديد هو من إلجاءات الواقع فهنا ستختلف وجهات النظر اختلافًا شديدًا.

فمن الناس من يرى أنَّ هذا من الاضطرار الذي لا مندوحة عنه؛ لأنَّ المنافذ مقفلة على البلد، والأنظمة العربية تتنكر للجهاد الفلسطيني، والشعوب في حالة فقر ومسكنة.

أما أنا فإني أرى أنَّ هذا الدعم ولو افترضت أنَّ بقاءه مشروطٌ باستعادة العلاقات.. فإنه لا يرقى لمواجهة المفاسد المتقدمة؛ لأنَّ المصلحة فيه آنية؛ إذ العلاقة مع الرافضة علاقة تكتيكية، تقوم على ساق جلب المصالح ودرء المفاسد، أما العلاقة مع الأمة فهي العلاقة الاستراتيجية التي لا ينبغي بحال أن تضعف فضلًا عن أن تهدم.

ولو آثرت الحركة المكاسب الآنية على المكاسب الاستراتيجية فماذا يكون موقفها إذا تنكرت إيران لها يومًا وهذا المتوقع منها عند اختلال درجة المصالح؛ لأنها اقتربت منك من أجل مشروعها هي لا من أجلك أنت، وعند ذلك وبلغة المصالح فضلًا عن المبادئ.. فإنَّ الخسارة ستكون قاصمةً إلى آخر حد.

وإنَّ شعورَ الأمة بالخِذلان من إخوانهم في حماس باستعادة العلاقات، وتراجع السلوك القيمي سينتج عنه عدم التفاعل مع القضية الفلسطينية أصلًا، وما زالت كثيرٌ من الأموال تأتي من أفراد الأمة، والحركة تعلم ذلك جيدًا، وهو وإن كان قليلًا لكنه ثابتٌ وحقيقيٌّ وعليه المعول، فإذا فقد أهل السنة الثقة في إخوانهم في بيت المقدس فهذه الخسارة الاستراتيجية، لأنها خسارةٌ لرأس المال البشري والفكري، ولا يدرك القيمة الفعلية للدعم المعنوي إلا من خسرها.

فالانتماء لمشروع الأمة الأكبر أولى من الركون لمصلحةٍ عاجلة.

ولهذا لا أجد حرجًا في زيادة قدر الشدة واللأواء في مقابل الحفاظ على المكتسبات المركزية.

وثمة فئامٌ من حدثاء الأسنان ينظرون للمال على أنَّ عليه المدار، ولا بأس عنده بالتخلي عن العمق الاستراتيجي للأمة مقابل المال، والأسف يشتد إذا تم التنكر لما قدمته الأمة على مدار العقود الماضية، فكيف نلوم الأمة وهي فقيرة هذه الأيام!، إن هذا كمن تنكر لأمه التي تُذَكِّرُهُ بأنها أرضعته وأنفقت عليه صغيرًا لأنها فقيرة الآن ولا تنفق عليه.

بل إنَّ الأزمة المادية وما تُحدِثُه من الذهاب لمساحات الاضطرار لعلها تكون سببًا قويًّا للسعي الحثيث لعتق الذات من سلطان الغير، من خلال التفكير الجاد في تكوين بيئةٍ اقتصاديةٍ نظير تكوين بيئةٍ عسكرية، وبهذا نبني لَبِنَةً مركزيةً في صرح الحل الجذري للأزمة.

وهذا يُحَوِّلُ التفكيرَ من الحديث عن مؤامراتٍ وإلجاءاتٍ إلى الحديث عن حلولٍ وتجاوزٍ للأزمات والمعيقات، وهذا مشروعٌ كبيرٌ لكن السعي في التمكين الاقتصادي خيرٌ من الافتراس والخضوع.

وإذا كانت التجربة الغزية مهددةً لمصالح كثيرين.. فكلما قطع أهلها شوطًا من أشواط العتق كان أحسن مآلًا، لا سيما بعد أن صار حبل المفاسد يتمدد مرحلةً بعد أخرى؛ فقد بات واضحًا أنَّ الحاجة إلى إيران ونظام بشار أنه سببٌ لفرقة الناس وفرقة العلماء وفرقة الصف القيادي وفرقة الصف الحركي، فهل إلى خروجٍ من ذلك من سبيل!.

خلاصة المشهد:

إنَّ المفاسدَ حتميةٌ في أصلها غالبةٌ في وصفها، وإنَّ المصالحَ ضعيفة أو متوهمة أو أنها لا ترقى في مقابل المفاسد.

وأحسب أنَّ الحركة لو وقفت من إيران موقف المصارح بأننا لن نراوح مكاننا الذي نحن فيه وأعلنت هذا للأمة.. فإنَّ إيران لن تضحي بهذه العلاقة لأنها مستفيدةٌ منها، وإنَّ الأمة ستحفظ هذا الجميل للحركة، وسوف تقوم حملات شعبية للإنفاق على الحالة الجهادية بكل ما أوتيت من سعةٍ وقدرة.

ولئن بقي نقصٌ أو جوعٌ فإنَّ الله يبارك في القليل ويعين على استدرار الكثير بإذنه تعالى وفضله وهو القائل سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3].

المحور السادس: تنبيهات أخيرة:

وعِدَّتها أربعة:

التنبيه الأول:

يعاني العالم الإسلامي تراجعًا في كلِّ اتجاه، لا سيما على صعيد المرجعية والقدوة؛ فكثيرٌ من الدول العربية هُرعوا إلى التطبيع، وتركيا عادت إلى ترميم العلاقات مع الكيان الصهيوني، ووقف الإسلاميون في المغرب في مهزلة التطبيع، وفشلت تجربة الحكم في تونس ومصر والسودان والمغرب بقيادة الإخوان، وتراجع السلفيون في السعودية وغيرها، لا سيما بعد مشروع التحديث الذي جاء به محمد بن سلمان، وسقطت رمزية كثيرٍ من الدعاة المشاهير بعد مواقفهم من أحداثٍ قامت، فلم يعد للأمة رؤوس ذات رمزية وحضور.

وفي هذه الأجواء أستحب للإخوة في الحركة أن يأخذوا بالعزيمة ولا يذهبوا باتجاه استعادة العلاقات ولو جاءتهم الفتاوى من مشايخ الحركة أنها جائزة؛ فإيثار العزيمة هنا مقدمٌ على الرخصة، خاصة أنَّ فتاوى عدد من العلماء جاءت بالمنع والحرمة، ليس في أصل استعادة العلاقة؛ ولكن لغلبة المفاسد فيها على المصالح.

أعني بذلك أنه لا ينبغي أن يشعر المسلمين بمصابهم في إخوانهم في بيت المقدس بعد مصابهم في إخوانهم في الحجاز، وهذا مع الفارق الضخم، إلا أنَّ محدودية الوعي عند جماهير الأمة، وعدم درايتها الكافية بالحال في قطاع غزة يجعل من الفطنة مراعاة ذلك منهم، والله المستعان وحده.

التنبيه الثاني:

إنَّ المشروع العام للأمة التخلص من الاحتلال بصورتيه: المباشر؛ كالذي عندنا في فلسطين، وما كان بالوكالة؛ كالذي يجري في معظم الدول العربية والإسلامية، وهذا هو المشروع الحقيقي، غير أنَّ ضعف الأمة في مجموعها جعل التوجه للأهداف القُطرية بأن يخلع أهل كل بلد المستعمر سواء كان المباشر أو الوكيل.

وعليه؛ فإنَّ عناية حركة حماس ينبغي أن تراعي ذلك بأن تُقدِّر حال الأمة في شدتها وما عليه من لأواء، وإن كان هذا عزيمةً.

فإن اتجهت للرخص فينبغي أن تتأيد بمواقف العلماء وفتاواهم، ثم لا بد من تعبئةٍ مسبقةٍ لتخفيف المفاسد ما أمكن، فهذا الظرف الذي تحياه الأمة غير مناسب حتى لو كان الحكم هو الجواز.

التنبيه الثالث:

ينبغي أن تعمل حركة حماس على معالجة الانفكاك بين الشرعيين والسياسيين؛ بحيث يصبح للسياسيين إلمام جيدٌ بأحكام الشريعة ولو في نطاق ما يلزم للحكم ومتطلباته، ويصبح للشرعيين إلمامٌ جيد بالسياسة ودروبها.

ولا بد من وجود قدرٍ من العلماء المتفق على تجردهم للحق يكونون مرجعيةً حقيقية ويتم إطلاعهم بالقدر المطلوب للفتيا على حقيقة المشهد؛ وصولًا إلى معرفة الحكم الشرعي.

وقد علمت أنَّ قادة الحركة أخذوا قرارهم بتشكيل مجلس علمي استشاري لهم من علماء الداخل والخارج لمعالجة هذا الأمر، وقدَّمت نُصحي لهم بهذا الاتجاه فوجدت تفاعلًا قويًّا، وعسى أن يشق طريقه للعمل.

ومن ثمرات هذه المعالجة أنَّ القرار السياسي لا يتخذ إلا بعد جلاء الحكم الشرعي، وحينئذٍ فإنَّ أهلَ العلم هم الذين يبينون للناس الحكم الشرعي بعزائمه ورخصه، وهم موضع ثقة الناس ونظرهم، وهذا أعون على تجنب المفاسد.

التنبيه الرابع:

إنَّ حركة حماس موضع نظر الناس، الموافق منهم والمخالف، والناس ترصد ما يصدر عنها المنطوق منه والمفهوم، وثمة تقصيرٌ واضحٌ لدى الحركة في عرض صورتها على الشاشة.

وأزمة الخطاب أزمة أكثر الجماعات الإسلامية، وهي التي لاحظها رجال مؤسسة راند الأمريكية في تقاريرها.

ومسألة استعادة العلاقات لم يكن ينبغي أن يسمعها الناس من خلال تصريح عابر، من خلال أحد قادة الحركة، أو بأن يتسامع الناس عن جلسة مع العلماء ثم خروج بيان، فالأصل أن يتيقظ قادة الحركة أنَّ الناس ترصد كل حركةٍ وسكنةٍ لهم، وهم الذين يتولون البيان قبل أن يأخذه الناس من غيرهم.

وتتولى الحركة بيان الأمرين: بيان العلائق السياسية وما وراءها من بواعث، وتوكيل فريق العلماء والدعاة بتحصين الأتباع من الانزلاقات الفكرية التي تكون متوقعةً في الظروف المعقدة المتضاربة التي تحياها الأمة.

وهذا عند الأحكام الشرعية الجائزة، أما غير الجائز منها.. فلا بد من الامتثال لأمر الله تعالى.

 وختامًا:

هذا هو المشهد كما يظهر لي، أضعه بين يدي قادة الحركة وأصحاب الكلمة والرأي فيها، ولا أجسر على القطع بالحرمة، لكني أرى المفاسد غالبة، والتي متى غلبت كانت الحرمة، وأنصح لهم ألا يُقدِمُوا على هذه الخطوة.

وأما أنهم أبلغوا الأطراف بعزمهم على المضي في هذا المسار.. فلا أحسن من الصراحة مع الأطراف أنَّ رأي بعض العلماء يمنع، وأنَّ الأمة لا تحتمل لهم ذلك، ولا بد من التراجع، والبقاء في المربع المتفق عليه.

وإنَّ إيران أحوج إلى حماس من حاجة حماس إليها، ويجب أن تعرف غزة قدرها ومركزية قضيتها التي تتولى أمرها، وأنها رأس الحربة في مقارعة المحتل.

وفي هذا فطمٌ لما يتخوفه الناس من حصول الميل القلبي جهة النظام الإيراني، وأعون على جلب الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية.

ومع بالغ تقديري وإجلالي لكلِّ عالم عندنا في غزة.. إلا أنَّ نظر الأمة إلى علماء الأمة الكبار، فهم الذين تعرفهم الأمة، والناس تحتمل لغزة ما تضطر إليه، ولهذا احتملوا لغزة التواصل مع مصر رغم ما فعله النظام المصري في رابعة وغيرها؛ بحكم أنَّ مصر هي بوابة غزة الوحيدة على العالم، ولعدم ترتب مفاسد على هذه العلاقة، فلم تُخذل الأمة بذلك.

فإن أبت الحركة ومضت في العلاقة.. فلا يبعد أن تُمثِّل هذه الخطوة مفاسد يتسع الخرق فيها على الراقع، ولا آمَنُ من وقوع فتنةٍ فكريَّةٍ لا تُبقِي معها ولا تذر.

هذا ما أراه بعين عقلي وقلبي، وهذا ما وجدت بوادره في بعض الناس، والنصح أردت، فإن أصبت فهذا من فضل الله، وإن أخطأت فأعوذ بالله من الخطأ.

والحمد لله رب العالمين.


الهوامش:

([1]) الرسالة ص (20).

([2]) انظر الكتاب كله، ولا أقل من أن تنظر ص (75-76).

([3]) صحيح البخاري، رقم الحديث: (1586)، صحيح مسلم، رقم الحديث: (3308)، واللفظ للبخاري.

([4]) انظر ذلك ملخصًا في الكتاب في فقرة النتائج ص (1366) وما بعدها.

([5]) السنن الكبرى للبيهقي (13461).


(*) من علماء غزة وفقهائها، وقد كتب هذه الدراسة عشية يوم الخميس 29 – 12- 1443 هـ الموافق 28 – 7 – 2022م.

اترك تعليق

  1. يقول عماد الدين هولو:

    مشكلة حماس في عقلها وهواها وبالتالي فالتقاش العلمي الشرعي لايفيد معها
    والله يقول فذكر ان نفعت الذكرى
    وبالتالي دراستك على جمالها ممكن توجه لغير حماس وشبيحتها
    وشكرا

  2. يقول رستم:

    للأسف أنك لم تتطرق لموضوع تجفيف المنابع والتي عملت عليه أمريكا وأوروبا وقوننت له قوانين صارمة ضد البنوك والدول والأفراد الذين يتبرعون بمالهم إلى فلسطين وأهل فلسطين ونجحوا في ذلك وضغطوا على جميع الدول العربية والإسلامية بمتابعة كل فرد يتبرع بمال لأي جهة كانت حتى ولو كانت خيرية ولهذا السبب لم تعد الشعوب تجرؤ بالتبرع لفلسطين إلا من خلال انظمتها إن قامت الانظمة بذلك . الشعوب أصبحت مقموعة بتهمة دعم الإرهاب والخوف من دخول السجون . حتى عملية تحويل المال عبر وستريونين لم يعد مُيسر وله نظام وقوانين تمنعك من التبرع لشخص لا يربطك به قرابة عائلية . الشعوب في كل البلدان لم يعد عندها هامش من الحركة والقبضة الأمنية إشتدت بعد ثورات الربيع العربي المقموعة . لم يعد أمام الحركة إلا التعامل مع الأنظمة والبحث عن طريقة تقلل فيها أعدائها وتدخل في المحور المعادي لأمريكا والكيان المحتل وتستغل الخلاف الروسي من جهة والأمريكي الصهيوني من جهة أخرى حول حرب اوكرانيا وكلما اشتد الخلاف الصهيوني الروسي تستفيد الحركة من ناحية الدعم العسكري الروسي والايراني وممكن الصيني والكوري الشمالي .
    المحور كبير وليست إيران وسوريا وحزب الله فقط بل يمتد إلى روسيا والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وبيلاروسيا ودول أخرى.
    الاعتماد على الشعوب ومعادات الانظمة أصبح يترتب عليه مفسدة كبيرة لفلسطين وللحركة ، والتقارب مع الانظمة والدخول في الحلف الدولي الجديد له مكاسب كبيرة للحركة ولفلسطين .
    الحركة يجب أن تدخل في الحلف كأنها هي دولة فلسطين وهي الجيش الفلسطيني .
    هذا رأيي الخاص
    ابو عبدلله رستم

  3. يقول خليفة الصيري:

    في تقديري والله أعلم هو موقف الحركات الإسلامية اثناء الربيع العربي المنساق وراء التيار الجارف وخاصة في سوريا وهو ما تمخض عنه مآسي كبيرة على الشعوب العربية والإسلامية وكذا العمل الإسلامي ككل.

  4. يقول ابو حمزة الدهون:

    بحث جيد لكنه ناقص
    العالم يتجه نحو تحالفات وصراعات عالمية وقوية بعد الحرب الروسية الاوكرانية والصراع المفتوح ابوابه في تايوان
    ونحن جزء من هذا العالم الذي اصبح على مرمى صاروخ او طائرة
    اين دراسة المستجدات الدولية في الموضوع
    ماذا دار بين الحركة والحكومة الروسية فكأن صاحب القرار او التوجه هنا ايران فضلا عن بشار
    نحتاج الى ربط الامور ببعضها اكثر لنخرج بتوصيات او فهم لما يدور
    وهل ستستفيد الحركة من روسيا في مواجهة يهود وحربهم
    هل سيتم تسليحهم بمضادات طيران مثلا
    هل ستصل الى غزة اجهزة تشويش على طائرات العدو
    هل سيتم تفعيل المواجهة فعليا مع اليهود الى مراحل جديدة
    هذا لا بد ان نقف عليه قبل اقحام انفسنا في موضوع بشار الذي عادت الانظمة المحيطة الى اقامة علاقات معه ولو آنيا او شكليا
    علما اني لا انحاز الى موافقتهم او عدمها الا اني احب ان اربط الامور والمستجدات بعضها ببعض

  5. يقول Mohamed teyeb:

    بارك الله فيكم وجهتم ونصحتم باستقلالية وتجرد