الجانب الرباني في حياة د. عصام العريان

د. وصفي عاشور أبو زيد 

عظماء التاريخ وصُنَّاعُ الأحداث قلة بل ندرة، والمتميزون في مجالات عدة المتفوقون في مجالات متنوعة كذلك، وإذا نبغ الإنسان في مجال واحد أشار الناس له بالبنان، فكيف بمن تفوق على نفسه وأقرانه وأساتذته في تخصصات عدة وتميز في حقول متنوعة كما لا يتميز إلا النادرون الذين يمرون كالطيف في حياة البشرية؟!                                             

إنه د. عصام الدين محمد حسين محمد حسين العريان، الشهير بـ د. عصام العريان، الذي تمر علينا ذكراه الأولى هذه الأيام، الذي قتل غيلة وعمداً في سجون مصر عشية الذكرى السابعة لمذبحة القرن مذبحة رابعة العدوية 13 أغسطس 2020م.

بطاقة حياة

ولد عصام العريان في 28 أبريل 1954م في قرية ناهيا، التابعة لمركز إمبابة بمحافظة الجيزة، وتعلم حتى تخرج في كلية طب قصر العيني بجامعة القاهرة، وحصل على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1977، وتخصص في أمراض الدم والتحاليل الطبية، ثم حصل فيها على درجة الماجستير في علم الأمراض السريري عام 1986، واهتم العريان بالدراسات الإنسانية ودرس الحقوق والتاريخ جامعة القاهرة، فضلاً عن دراسته الشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر، فحصل على ليسانس الحقوق من كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1992، وحصل على الإجازة العالية في الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر عام 1999، كما حصل على ليسانس الآداب قسم التاريخ من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 2000، وحصل على إجازة في التجويد في نفس العام، كما عمل طبيبًا، وسجل لنيل درجة الدبلوم في القانون العام من جامعة القاهرة، كما سجل لرسالة الدكتوراه في الطب بجامعة القاهرة، لكن لم يستطع الحصول عليها بسبب اعتقاله المتكرر.

د. العريان طبيب وسياسي مصري، ونائب سابق بمجلس الشعب المصري مرتين، الأولى من عام 1987 حتى 1990، وكان أصغر نائب في مجلس الشعب، والثانية من 11 يناير 2012 حتى 14 يونيو 2012، وعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، ورئيس المكتب السياسي فيها، وعضو مجلس إدارة نقابة أطباء مصر منذ عام 1986، والأمين العام المساعد السابق لنقابة أطباء مصر، وأمين صندوق نقابة الأطباء السابق، والمتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان عدة سنوات قبل ثورة 25 يناير وأثنائها، ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة منذ تأسيسه في 30 أبريل 2011 حتى 19 أكتوبر 2012، وعضو الجمعية التأسيسية المصرية لكتابة دستور 2012، وأحد أعضاء الفريق الاستشاري لرئيس الجمهورية حينئذ محمد مرسي.

اعتقل عصام العريان أكثر من مرة، فاعتقل ضمن اعتقالات سبتمبر 1981م في عهد محمد أنور السادات، كما اعتقل العريان عدة مرات في عهد حسني مبارك، وحكم عليه بالحبس في محاكمة عسكرية استثنائية لمدة 5 سنوات من يناير 1995 وحتى يناير 2000م، واعتقل من 18 مايو 2006 ضمن مظاهرات مناصرة القضاة بالقاهرة حتى 10 ديسمبر 2006م، وكان لي شرف الاعتقال معه مناصرةً لاستقلال القضاة، كما اعتقل في يوليو 2007 حتى أكتوبر 2007، أيضًا اعتقل فجر جمعة الغضب يوم 28 يناير 2011.

وعقب انقلاب 2013 في مصر اعتقل صباح يوم الأربعاء الموافق 30 أكتوبر 2013 وظل في محبسه في سجن العقرب حتى وفاته في 13 أغسطس 2020 إثر أزمة قلبية طبقاً للرواية الرسمية الكاذبة للدولة عن عمر ناهز الـ66 عامًا، وكان العريان قد اشتكى من الإهمال الطبي المتعمد في حقه، وأبلغت السلطات المصرية عائلة العريان بوفاته الساعة 12 بتوقيت القاهرة، بعد انقطاع التواصل والزيارات بينه وبين أسرته منذ سبتمبر 2019م، وقد رفضت السلطات المصرية تسليم جثمان عصام العريان لعائلته وأبلغتها أنها ستدفنه بمعرفتها، ودُفن ليلًا في مقبرة مرشدي الجماعة شرقي القاهرة بمدينة نصر، بحضور 12 شخصًا من أسرته وأقاربه، وأقيمت صلاة الغائب عليه عقب صلاة الجمعة من مسجد الفاتح في إسطنبول. (المعلومات السابقة من موسوعة ويكيبيديا)، وهو في الحقيقة قتل عمداً كما أثبتت ذلك حملة “نحن نسجل” الحقوقية، شهيداً للظلم والجبروت العسكري؛ ليفوز بمنقبة عظيمة هي “شهيد كلمة حق عند سلطان جائر”.

التجليات العشرة للجانب الرباني عند العريان

لم أر أحداً –فيمن رأيت– أكثر اتصالاً بالشخصيات العامة، وأحرص على حضور المناسبات العامة والخاصة، وأكثر اتصالاً بالصحف وقراءة لها والمجلات والدوريات وكتابة فيها، وأكثر مقصداً ومورداً –والمورد العذبُ كثيرُ الزحام- للصحفيين العرب وغير العرب من د. عصام العريان، كان هاتفه لا يهدأ ولا يصمت: هذه صحيفة تريد منه تصريحاً، وهذا موقع يريد منه حواراً، وهذه وكالة أنباء فرنسية أو ألمانية أو بريطانية أو أمريكية تريد منه حديثاً، كان هو أمل الإعلام والصحف، وقبلة الشاشات والفضائيات، وقد رأيت ذلك بنفسي حين ألتقيه أو أجالسه في أمر من الأمور.

ولا شك أن هذا الانهماك الكبير في العمل العام لا يترك لصاحبه فرصة للعمل التربوي الذاتي ولا الطقوس الإيمانية الشخصية، وقد ترى المنشغلين بالسياسة أقسى الناس قلوباً وأبعدهم عن كتاب الله والوقوف بين يديه.

لكنَّ د. العريان كان مختلفاً، فقد حاز إلى هذه الشهرة وذيوع الصيت وتكالب الصحفيين والساسة عليه ما كان على مستواه في العمل التربوي مع ذاته، والاشتغال بتلاوة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وما يقرب إلى الله تعالى، على أن العمل العام إذا أحسنه صاحبه ووجهه الوجهة الصحيحة كان زادًا إيمانياً طيباً.

وقد يعرف الناس عصام العريان “البرلماني” و”الطبيب” و”السياسي” و”النقابي” و”الوجه المشهور الإعلامي البارع” و”رجل العمل العام”، ولكنهم لا يعرفون عنه الجانب “الرباني” و”الإيماني” و”التعبدي” إلا الذين التقوه وعايشوه، ولمسوا ذلك رأي العين وحق اليقين.

وفي هذه السطور القليلة، أحاول أن أرصد التجليات الربانية في شخصية العريان، كما عرفتها، التي أكتب عنها في عشرة معالم على النحو الآتي:

أولاً: الصلاة بالورد القرآني:

من الأمور التي حكاها لي حين وجدته يطيل صلوات النوافل قبل الفرائض وبعدها: أنه يقرأ ورده القرآني في الصلوات، وذكر لي أنه تعلم ذلك من الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى، وقد كان د. عصام وجيله كله من ثمرات علماء عصرهم وعلى رأسهم الشيخان الكبيران الغزالي، والقرضاوي، اللذان كانا يزوران جامعة القاهرة وغيرهما من الأماكن التي يغشاها الطلاب وينظَّم لهما ملتقيات مع طلبة الجامعات.

ثانياً: صلاة النوفل:

زرت د. العريان ذات مرة في الجمعية الطبية الإسلامية في شارع الهرم بمنطقة الطالبية، وحان وقت الصلاة، ونزلنا معاً إلى المسجد أسفل المبنى، وإذا هو يصلي السنة القبلية يطيل فيها القراءة ويطيل الركوع والسجود، فقلت في نفسي من هنا كان عصام العريان الذي لا يشغله عمل عام عن ربه والخشوع والخضوع بين يديه؛ فضلاً عن صلاة الليل التي لا يطلع عليها أحد، إلا ما كان يقوم به في فترات السجن –وما أكثرها وأطولها كما أشرنا– فكان يطلع على هذه الأحوال من كان يلاحظه في الزنازين، ويعايشه في المعتقلات.

ثالثاً: الصلاة في المسجد والصف الأول:

كان د. العريان حريصاً على الصلوات في المساجد مهما كانت الظروف، حتى لو كان في سفر كان يحرص أيضاً على ارتياد المساجد رغم أن له رخصة في الصلاة فردياً وفي مكانه، ومع هذا كان يحرص على المسجد والصف الأول، وكان يقدمه الناس للصلاة إماماً، وكان مصلياً سنن الصلوات القبلية والبعدية على الطريقة التي ذكرناها.

رابعاً: خطب الجمع والأعياد:

ومن تجليات الجانب الرباني في حياة د. عصام أنه كان يخطب الجمعة في المساجد التي تعود الصلاة فيها، وكذلك خطبة العيدين في الساحات، ويلتقي الناس ويلتفون حوله، ويسأل عن أمورهم وأحوالهم وأولادهم وأسرهم، كان شامة في المساجد، وعلامة في أداء الشعائر، مكّنه من ذلك العلمُ الذي حازه، والدراسات التي حصّلها، والثقافة التي انعقدت له كما لم تنعقد لأحد من أبناء جيله في الحركة الإسلامية.

خامساً: طلب العلم:

العلم هو طريق الربانية؛ ولهذا ورد عن مفسري الصحابة والتابعين وتابعيهم أن قوله تعالى: “ولكن كونوا ربانيين” أنهم فقهاء علماء، وقال ابن القيم: “إن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلِّمه، فمن علم وعمل وعلَّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات” (زاد المعاد في هدي خير العباد).

وكما ورد في “بطاقة حياة” من هذا المقال فإن د. العريان لم يترك نفسه في فترة من حياته دون تعلم وتعليم فهو الحاصل على الشهادات في الطب والحقوق والشريعة والتاريخ والقراءات؛ فضلاً عن متابعته لقضايا الأمة وأحداث الواقع وقراءته للصحف والكتب.

وقد كنت معه ذات يوم في الطريق المتفرع من شارع الهرم إلى الجمعية الطبية الإسلامية فاشترى حوالي ستة كتب من الصحفي وأكثر من تسع جرائد، أتذكر أنه دفع مبلغاً قدره عشرون جنيهاً، كان ذلك بداية الألفينيات.

لقد مكن هذا العلمُ وتلك المعرفة د. العريان من اللباقة والطلاقة والحوار الأخاذ الجذاب الذي يكسب به خصمه، ويخرج مظفراً من أي لقاء أو مناظرة أو حتى مقالة، علماً بأنه كان مكثراً من كتابة المقالات في الصحف والمواقع والمجلات، وهذا أمر طبيعي لمن حمل هموم أمته وواقعها، ومن تشبع بثقافات متنوعة؛ فإن هذا ينعكس على ما يكتبه وما يتكلم به.

سادساً: تحفيزه للشباب على الكتابة والتعلم:

في بدايات ممارستي للكتابة في الصحف والمجلات قبل أن يظهر “الإنترنت” والكتابة على مواقعه ونوافذه كنت أفاجأ باتصالات من د. عصام يُزكّي فيها ما أكتب ويُثني عليه، ويفتح أمامي النوافذ والطرق ويدلني على أماكن الكتابة من صحف ومجلات، وكان دائم التحفيز لي بالاتصال وحين اللقاء.

كنت أظن أنني الذي أحظى بهذا منه، ولكنني اكتشفت بعد ذلك أنها كانت عادته مع الشباب جميعاً، وكل من يرى فيه موهبة –كتابة أو غير ذلك– كان يشجعه ويثني عليه ويوسع أفقه ويشد عزمه ويرفع همته ويقوي إرادته في السعي قدماً نحو ما يحسن والتراكم فيه والبناء عليه والتعمق في دراسته.

وهذه الميزة أو العلامة تعد مؤشراً على الإخلاص والتجرد لدينه ودعوته، فالمخلصون هم الذين يفرحون بالمواهب الصاعدة فيحفزونها ويشجعونها على التطوير والتقدم، ومن ناحية أخرى هي مؤشر على أنه كان مليئاً لا فارغاً، أما غير المخلصين والفارغون فيخشون أن تظهر هذه المواهب فتغطي عليهم وتحتل مكانهم، وتظهر فراغهم فيكبتونها، ويحقرون من شأنها تحت زعم أن فلاناً “يرى نفسه”، ولا بد من “كبته” أو “تجريده” من كل المهام كي “يتعلم” الإخلاص الذي هم أبعد الناس عنه.

سابعاً: مكانة الحكم العطائية عنده:

كانت للحكم العطائية مكانة خاصة عند فقيدنا العزيز؛ حيث كان يلقيها دروسًا في المساجد، كما كان يلقيها مواعظَ في المعتقلات، وكان يقرؤها مع أسرته حين يلتقي بهم، حتى حفظها عن ظهر قلب، وكان دائماً يوصي بها الإخوان.

حتى كان آخر ما كتبه عند اعتقاله على صفحته بـ”فيسبوك” حكمة من حكم ابن عطاء الله، كتب يقول: “لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود، وإن تعين زمنه، لئلا يكون ذلك قدحاً في بصيرتك وإخماداً لنور سريرتك”، كان ذلك بتاريخ 30 أكتوبر 2013.

وقال بعدها: “من حكم ابن عطاء الله السكندري: اطمئنوا، وإلى لقاء”! راسماً تلك البسمة مع كلمة اطمئنوا، فقد كان دائماً بساماً ضاحكاً كما كان مطمئناً، وختم منشوره بـ”وإلى لقاء”؛ حيث لا لقاء في هذه الدنيا الفانية معه، وإنما هناك عند من لا يظلم الناس مثقال ذرة.

ثامناً: تمنيه الشهادة:

كل المسلمين يتمنون الشهادة ويتطلعون لمثوبتها ومنزلتها، ويكفي قولُ الله تعالى بيانًا لهذه المنزلة العالية وتلك المكانة الرفيعة: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران).

وما جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ للشَّهيدِ عند اللهِ سبعَ خصالٍ: أن يُغفرَ له في أوَّلِ دفعةٍ من دمِه، ويرى مقعدَه من الجنَّةِ ويُحلّى حُلَّةَ الإيمان، ويُجارَ من عذابِ القبرِ، ويأمنُ من الفزعِ الأكبرِ، ويوضعُ على رأسِه تاجُ الوقارِ الياقوتةُ منه خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويُزوَّجُ ثنتَيْن وسبعين زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعين إنسانًا من أقاربِه”. (أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وقال شعيب الأرناؤوط: “رجاله ثقات”، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: “إسنادُ أحمدَ حسنٌ”).

ولكن ليس كل من يرجو الشهادة ينالها، فالشهداء يصطفيهم الله تعالى من خلقه، ويتخذهم من المؤمنين: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ)، فمن كان يرجو الشهادة وسعى لها سعيها وهو مؤمن سيوفقه الله لها، وييسر له سبيل الوصول إليها.

وقد انتشر مقطع “فيديو” للدكتور عصام إثر وفاته يقول فيه: “كنت أقول لزوجتي قبل أيام أنا أدعو الله أن يرزقني الشهادة، فهي التي ستجُبُّ كل شيء”، وقد نالها د. عصام على أيدي زبانية العسكر “سلطان جائر”، كما تم كشفه لاحقاً، نحتسبه عند الله شهيداً ولا نزكيه على ربه.

تاسعاً: صبره على الأذى:

ما دام الإنسان في هذه الحياة فهو مخالط للناس حتمًا، وما دام مخالطًا للناس فلا بد من تلقي الأذى منهم، وهذا ما يشير إليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: “المؤمنُ الذي يخالطُ الناسَ ويَصبرُ على أذاهم خيرٌ منَ الذي لا يُخالطُ الناسَ ولا يصبرُ على أذاهمْ”. (أخرجه ابن ماجة (4032)، وأحمد (5022) باختلاف يسير، والبخاري في «الأدب المفرد» (388) واللفظ له، وقال ابن حجر في الفتح: “إسناده حسن”).

وفي هذه الرحلة المخالطة لابد من التأثير في الناس والتأثر بهم، ودفع أذاهم ولكن بالتي هي أحسن، وهذه مرتبة عظيمة لا يصل إليها إلا الصابرون ذوو الحظ العظيم؛ طبقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (فصلت).

وأنا أشهد أن د. عصام العريان كان من أوسع الناس مخالطة للناس، وأكثر الناس تأثيراً فيهم وسعياً بينهم، وقد ناله في ذلك الأذى من ثلاثة طرق:

الطريق الأولى: الحكومات المتعاقبة المستبدة في مصر التي اعتقلته فترات متعددة كما ذكرناه أعلاه، حتى أفرج عنه بأحداث ثورة يناير 2011م، فقد لقي –رحمه الله وتقبله شهيداً- من هذه الأنظمة عنتًا وتضييقًا وتعذيبًا وانتهاكًا لحقوقه الأساسية.

الطريق الثانية: عموم الناس الذين سعى بينهم بالإصلاح والتعليم والدعوة، فقد ناله أذاهم كذلك؛ تحقيقاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام السابق، بالتشويه مرة، والغيبة مرة أخرى، والكذب عليه والافتراء مرات ومرات، صدر هذا من بعض عامة الناس، ومن الصحف والإعلام، ومن قوى سياسة وأفراد، وهذا خارج عن نطاق الحصر، لكنه من جهة أخرى كان يحظى بمحبة واسعة بما يحقق له “القبول في الأرض”.

الطريق الثالثة: وهي ثالثة الأثافي من حركته الإسلامية التي انتمى إليها وعمل فيها، وهي “جماعة الإخوان المسلمين”، فلا يكاد يكتب مقالاً فيه مراجعة وانتقاد ذاتي إلا وُوجِهَ بعاصفة من بعض “القيادات” التي ترى هذا من “المحظورات” التي ربما لا تبيحها “الضرورات”، وكان من مقالاته: “جردة حساب” الذي نشره موقع “إسلام أون لاين” في عام 2010م رأى فيه أن الجسم التنظيمي والهيكل الإداري تضخم كثيراً ويجب إعادة النظر فيه بتحجيمه، وإطلاق الطاقات والمبادرات لتأخذ مداها، وكان نتيجة هذا المقال تحويله للتحقيق!

كذلك مُنع د. عصام العريان من دخول مكتب الإرشاد لفترة طويلة بفعل الترتيبات والتوجيهات المعهودة التي تحذر منه ومن تفكيره الحر؛ حتى كتب شيخنا الإمام يوسف القرضاوي مقالاً وجه فيه نقداً لاذعاً للجماعة كيف تستبعد عَلَمًا مثل العريان وقد رشحته التيارات الأخرى لمناصب كثيرة وروابط وهيئات متنوعة، فكيف لا تنتخبه جماعته، وتنتخبه جماعات أخرى، وهو من أكثر الإخوان بلاء وعلماً ونشاطاً وعطاء؟ ورد عليه د. محمود غزلان في ذلك الوقت، وكان نتيجة هذه الصيحة الإعلامية أن دخل العريان مكتب الإرشاد.

لكن العجيب في هذا كله –وهو موضع الشاهد!- أن كل هذه الأخبار وتلك التصرفات والممارسات كان يعلمها العريان ويأتيه بأخبارها “مَن لم يُزوَّدِ”، وكان يواجهها ببسمات عريضة تنطوي على ألم مدفون، ويصبر على الأذى من كل هذه الجهات، بما يملكه من أفق واسع، وعلم غزير، وثقافة موسوعية، ومرونة نفسية فائقة الحد، وقبل ذلك زاد إيماني عظيم يرفده بالصبر والرضا.

عاشراً: شهادة أبنائه:

آثرت أن أختم هذه المقالة بشهادة أبنائه له بعد وفاته، وهي شهادة تضع أيدينا على مدى سلوكه مع أبنائه وأسرته، وإذا أردت أن تعرف أخلاق الإنسان فاسأل عنه أهله وأولاده الذين هم أقرب الناس إليه، فقد يتجمل الإنسان خارج بيته لكنه لا يستطيع التجمل داخل البيت.

بل إن هذه الشهادة تتضمن مجمل ما ذكرناه سابقاً في هذا البعد الرباني الذي خصصنا مقالتنا له، وأقتصر هنا على شهادتين: شهادة ابنه إبراهيم، وشهادة ابنته أسماء، وأنقل الشهادتين من حساب كل واحد منهما عن “فيسبوك” بنصه وحروفه، معتذراً عن اللغة العامية والأخطاء الإملائية الواردة في الشهادتين:

الشهادة الأولى: شهادة إبراهيم التي كتبها يوم 15 أغسطس 2020م، بعد وفاته بأقل من يومين، وتناقلتها وسائل الإعلام، كتب يقول:

“الحمد لله على كرم ربنا لينا.. أبويا ان شاء الله درجته عالية ومقامه رفيع.. ربنا حقق له كل اللي بيتمناه ويرجوه.. كل اللي كان عايزه أبويا في حياته وعاش عشانه كان رضا ربنا عليه.. خواطره كانت في حتة تانية والله.. أوقاته كلها كانت ذكر وعبادة.. كان معاه سبحته اللي بعداد في كل مكان.. يسيب واحدة في العربية عشان وهو سايق وواحدة على المكتب وتلاقي في كل جاكت او بدلة سبحة صغيرة..

كان ممكن يقعد يدعي لساعات والله من غير زهق أو تعب.. في يوم عرفة من بعد العصر يجمعنا ويبدأ الدعاء لحد المغرب.. بأدعية جميلة جدا.. تحس ان مفيش حد بيدعيها غيره..

كان يقولي يا واد مش عارف تقعد ربع ساعة على بعضها تدعي ربك وتناجيه.. كتاب الأذكار للنووي وغيره كان تقريبا مذاكره، وحافظ الأدعية وكنت بلاقي خواطره وتعليقاته وتلوينه في الهوامش.. كنا كمان نلاقي الأدعية اللي تمس قلبه كاتبها في قصاصات صغيرة تحت زجاج المكتب..

ووالله ما كان حد بيدخل مزاجه ويعجبه إلا لما يكون متقدم خطوة لربنا أو ليه حال مخصوص مختلف.. لا كان بيفرق معاه فلوس ولا جاه ولا خلافه.. كان بيكون حريص جدا على صفاء روحه ونقاء قلبه بعيد عن الناس.. بيراجع نفسه دايما ويتهمها.. كان مشغول أوي بحكم بن عطاء الله السكندري وشروحاتها المختلفة وكان حافظها.. وكان بيحاول يحفظنا احنا كمان..

كان كل ما يخرج من السجن يبقا صعبان عليه انه كان بعيد عننا.. كان نلاقيه كاتب بيفكر نفسه دايما بورقة صغيرة على المكتب “فاطمة والولاد” ولما كان بيحاول يعوضنا كان بيحاول ينظم لينا جلسة للعيلة.. يفسر لينا آية ونقرأ حديث من الأربعين النووية ويشرح لينا حكمة لابن عطاء ويخلينا نحفظها.. وكان بيبقى مبسوط جدا وواحد مننا بيقرأ بلغة عربية مكسرة شوية أو يقول خاطرة حلوة حتى لو مش متنظمة كويس.. ويضحك معانا بصوت عالي..

كان حافظ للقرآن وبيختمه في الصلاة.. كان واحد صاحبنا بيتابع معاه صلاة الفجر بيشوف وصل لفين وهيختم امتى.. ولما يلاقيه متأخر.. يهزر معايا ويقولي.. قول لأبوك يشد حيله شوية..

كان بيدخل للصلاة في الجامع مع الآذان.. مهما كان مشغول ولو في الطريق يوقف العربية وننزل نصلي.. برنامج اليوم وتنظيمه كان بيعتمد على أوقات الصلاة.. دي كانت حياته كلها مش رمضان مثلا ولا اوقات معينة من السنة.

لا يمكن ننسى حرصه علينا وعلى نفسيتنا وهو مسجون.. عمره في حياته ما اشتكى لينا من السجن أو التضييق عليه مع انه اتسجن كتييير.. مكنش كمان بيقعد يوعظنا بكلام كبير زي ” اصبروا.. دي ضريبة نضالنا “.. ولا كان بيشتم في حد.. كان يدخل علينا في الزيارة يضحك ويطمنا وهو اللي يسألنا عاملين ايه؟ ونبص لعيون بعض وكله بيتفهم..

ومرة حد من اخواتي البنات كان بيعيط في النيابة.. قالنا: “يا ولاد الغـافـل إذا أصبح يـنـظـر مـاذا يـفـعـل والـعـاقـل يـنـظـر مـاذا يـفـعـل الله به”.

حياته كانت بسيطة خالص حبيبي.. كان سايب لأمي تقريبا أغلب أمورنا الحياتية والمنزلية.. طلباته في البيت بسيطة خالص.. سهل تدخل عليه وتسأله.. سهل تطلب منه.. تحب جدا تاخد رأيه.. المشاوير معاه كانت لطيفة.. نحب نتجمع عليه ومعاه آخر اليوم ونحكي ونهزر.. ويقوم يسيبنا عشان ينام بدري عشان صلاة الفجر..

دايما فخورين بيك حبيبي في حياتك واستشهادك.. كان كلامنا كله وأمنياتنا بيننا وفي جروب العيلة عن اننا هنتجمع تاني ونهزر ونضحك ونحاول نخفف عنك اللي حصل ونرد ليك شوية من اللي في رقبتنا.. كان صعبان علينا أوي اللي بيحصلك من حثالات الخلق.. الناس رديئة المقام.. وساخات النفوس وقذارتها.. بنطلب منهم يحققوا آخر وصيتك في دفنك ومراسم عزاك..

وصعبان علينا الظابط الشيك اللطيف اللي كان زعلان وبيتنحنح واحنا في المقابر بندعي علي الظلمة اللي قتلوك.. أيوة صحيح.. مفيش دعاء هيطلع فوق غير من بعد إذنك يا باشا..

مبسوطين والله مبسوطين بمقامك وقدرك حبيبي.. وعارفيين انك كمان مبسوط وفرحان.. “فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”

متأكد يا أبويا انك هتشفعلي يوم القيامة عشان أعرف أكون معاك.. معادنا إن شاء الله حبيبي جنات الخلد”.

 انتهت شهادة إبراهيم ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الشهادة الثانية: هي شهادة أسماء ابنته، كتبتها على حسابها بـ”فيسبوك” يوم 24 أغسطس 2020م، كتبت تقول:

“كان بابا لازم يعمل لنا اجتماع للاسرة وكان لازم ناخد فيها حكم بن عطاء الله كان بيحبها ويتلذذ بشرحها.. اوقات كتير منبقاش فاهمين لكن اصراره انه يشرحهالنا بطرق بسيطة كانت بتوصل وبتتثبت كمان.. وكان كل واحد فينا ليه دور في القراءة وكان حريص ان لا نخطأ في التشكيل لانه يغير معني الكلمه.. من اكتر الحكم اللي علقت في ذهن الواحد: “ربما أعطاك فمنعك، و ربما منعك فأعطاك، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع صار المنع عين العطاء”. أحمد بن عطاء الله السكندري.

طبت حيا وميتا يا ابتي ♥️ اشتاق لك بشكل لا يوصف، اللهم الحقنا به علي خير، اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره”.

انتهت شهادة أسماء، وبه ينتهي المقال.

اللهم تقبل عبدك عصاماً شهيداً، وألحقنا به غير مبدلين ولا مغيرين، وأنزل عاجل نقمتك وسريع غضبك على قاتليه، وأدل اللهم دولتهم، وأزل عن أرضك سلطانهم، اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليق

  1. يقول البشير بلول:

    جزاكم الله خيرا وجعلها الله في ميزان حسناتكم يوم القيامة