بسطة العلماء …

بقلم أ.د. مدحت ماهر الليثي

تحذير خاتم الأنبياء أمته من دلالة قبض العلماء

وما بعده من سيادة الجهلاء والإفتاء بالافتراء:

في السنوات القليلة الماضية لاحظ المتنبهون توالي قبض العلماء، فذهبت عقولهم إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الظاهرة، وما قد يترتب عليها إذا قل العلماء. إن العلماء ضرورة اجتماعية إنسانية؛ أي في كل مجتمع إنساني. فالناس لا يكفون عن السؤال طلبا للعلم أو للفهم أو للتدبير. والعلماء في كل مجال هم الأهل للسؤال والجواب. ولكل مجال علماؤه وقضاته ومفتوه وقادته. ولعموم المجتمع أو الأمة علماؤه الكبار ومفتوه وقادته. فإذا قل العلماء مع اضطرار الناس للسؤال، تصدر وترأّس الجُهال؛ فيُسألون فيجيبون بجهل، فيكون الضلال والإضلال: يضلون بأنفسهم، ويُضلون غيرهم.حاتم الليتي

وهكذا أخرج البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا)-الحديث.

هذا من أحاديث الإنذار المبكر، ينبه الناس (من العلماء وطلبة العلم، ومن غيرهم وهم الأكثرون عادةً للأسف)، إلى ضرورة الحفاظ على حضور العلم في المجتمع. ولا حضور للعلم إلا بالعلماء، ولا حضور للعلماء إلا ببذل الجهد والوقت والمال، وببذل التقدير والتعزير والتوقير. فإذا مات عالم فإن سياسة تعزيز العلم تخرج غيره وتصدر عالما متعلما لا جاهلا متعالما. هذه سياسة اجتماعية شاملة أخلاقية وعملية؛ ما لم يتنبه لها حراس المجتمعات أعملت فيها قوارض الجهل أسنانها.

تقوم الإيسيسكو على متابعة بعض هوامش العالم الإسلامي في أفريقيا وآسيا، وتقوم مجالس الإفتاء ومراكز الدعوة ومؤسسات كثيرة باشياء من هذا القبيل، لكن غياب العلماء عنها وعن فعالياتها وبقائها بيد طلبة علم فما أدنى نذير خطر. استشعر الجويني أن دروس الشريعة مقدمته شغور الزمان من حملة العلم… وقدم حلا أصوليا وفقهيا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يحذر وينذر ويجب أخذ تحذيره مأخذ الجد.

رحيل العلماء بشارة لهم نذارة لمن بعدهم:

أما لهم فإنهم كانوا وهم طلبة علم محفوفون برعاية الله ويرسل إليهم ملائكة تضع لهم أجنحتها تواضعا ورضا بما يقوم به من طلب العلم. ثم لما صاروا معلمين للخير صارت تستغفر لهم الكائنات والبريات في الأرض والسماوات، وفي البر والبحر والطير في جو السماء… يا لله ما كان لهم في الدنيا. فكيف وقد قدموا على العليم المعلم الأعظم الذي يحب العلم والعلماء. إن الله تعالى ينزل العلماء منازل لا يعلمها إلا هو، كيف لا وقد ضمهم إليه في القرآن في الشهادة على توحيده جل شأنه، وفي البلاغ عنه، وفي الشهادة على كتابه ورسوله؟ وجعلهم خاصة أهل خشيته، وسماهم بهذا الاسم العظيم: العلماء؟

أما لمن بعده من طلبة العلم أو غيرهم، فليحذروا إن العلم يقبض مع قبض العلماء. وإن قبض العلم نذير شر وخراب، وضلال وإضلال. والحديث غني عن الشرح.

إنه قبض، وما أدراك ما القبض! إن الله تعالى القابض الباسط، لا قابض لما بسط، ولا باسط لما قبض، يقبض ويبسط وإليه ترجعون. وكل أمره بين القبض والبسط؛ فإذا قبض الشر بسط الخير، وإذا قبض الخير انبسط الشر. فماذا عن قبض العلم بقبض العلماء؟ أليس في هذا ما يخوف وينبه إلى خطر؟!

مرت الأمة بأحوال كهذه، ووجدت في عمومها مثل هذه الحال حتى أنكر أناس أنه على الأرض مجتهد أو مستحق للاجتهاد، فأنكر السيوطي، ووجد كثيرا في قطاعات منها حتى انطمس العلم تماما، فلم يك من بد من إرسال العلماء وبسط العلم في مناطق القحط العلمي. إن قصة حركة المرابطين ثم المهديين نموذج تاريخي مهم في هذا الصدد.

إنه لابد للناس من رءوس فإن لم تصنع الرءوس على عين مراد الله، وتركت هملا، ارتقت فوق الأجسام رءوس ملئت جهلا، وجهالة، وجاهلية!! إن الإسلام عالِمية بكسر اللام أي بناء يحمله العلماء، ومن ثم يواجه كل جاهلية؛ ومناط الجاهلية سيادة وترؤس الجهال؛ فيطاع الجهل ويعصى العلم.

من يرث النبوة؟ وأين ميراثها بعد العلماء؟

إن الأنبياء ورثوا العلم للعلماء، فماذا بعد قبض العلم بقبض العلماء؟ من يرث النبي محمدا صلى الله عليه وسلم؟ إنهم يقلون. ويذلون. ويرهقون. ويحاربون. وووو

الأدعياء أعداء الأنبياء

وكما للأنبياء ورثة، فلكل نبي عدو وأعداء؛ جعلهم الله تعالى من سنة الابتلاء، ليسمع إلى النبي من يستحق الخير والإحسان، وتصغى أفئدة الأشرار لوحي السيطان. (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا: شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون)-الآية.

فقبض العلماء ورثة الأنبياء يعني بسط الأعداء خاصة الأدعياء ممن لا عل لهم، ولا رع يمنعهم من اختطاف ميراث الأنبياء ومواقعهم وتشويهها والتشويش على الناس. بهم تكتمل سنة الابتلاء؛ فالنبوة ابتلاء للناس بالخير والحسنات، وهؤلاء ابتلاء للناس بالشر والسيئات. ومن ثم فالإنذار شامل لفقد الخير (قبض العلماء) وانتظار الشر (بسط الأدعياء).

الإنذار الراهن!!

ثمة أعلام رحلوا قريبا، في غضوان السنوات الخمس الأخيرة، وبالأخص في العام الماضي والراهن. قبضهم الله تعالى بعد بسطهم وبسط بهم قطاعات من حياة الأمة. إن قبضهم مخيف. إنهم أنواع ونماذج في العلوم الشرعية بتنوعها، والاجتماع والقانون والقضاء والدعوة والثقافة والسياسة والفكر والاقتصاد والإعلام والتربية والتعليم. وما هذه المجالات إلا الحياة، وما علومها إلا علوم الحياة والحضارة والعمران بل والتزكية في ظلال أمة التوحيد.

إنهم علماء الإسلام، وعلماء أمته، وعلماء العصر، وبناة المستقبل. ولكل منهم سهمه الذي صوبه، وهدفه الذي سدد إليه وقارب، واجتهاده الذي أصاب فيه أو أخطأ، وتعليمه للخير. ولكل أبناؤه وتلاميذه، وجماعته العلمية، ومؤسساته التي ارتبط بها وتأثرت به.

تفكرات:

يجب علينا أن نمارس تفكرات من واقع الحال ووقع الحديث النبوي التحذيري الإنذاري.

فأين الإسلام مع قبض علمائه؟ إنه يتعرض لخطر التشويه والتشويش.

وأين الأمة مع قبض علمائها؟ إنها في خطر محدق لا يقل عن مخاطر الغزو الخارجي. حصوننا مهددة من الداخل. بعض أهم حراسها يرحلون.

وأين العصر والمعاصرة؟ نخشى من انكفاءة أو توهمات لا يقشعها إلى علم العالم بزمانه البصير بشانه.

أين إسهاماتهم؟ هل تضيع برحيلهم؟

أين ما وصلوا إليه؟ حتى لا نعيد الكرة، ونصنع عجلة أول التاريخ ونحن قرب نهايته.

وأين الاجتهادات وتصفيتها؟ لنميز ما أصابوا مما أخطأوا.

وأين الأبناء والتلاميذ؟

وأين الجماعات العلمية التي يجب وصل رحمها؟

وأين المؤسسات التي هي مجموع علمائي مكبر؟ أين مؤسسات العلماء ضمن مؤسسات الأمة؟

اقتراح: بسطة العلماء

بالتفكر ومحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات تبين أن ما نحتاجه -استجابة للإنذار النبوي وظهور هذه الظاهرة في السنوات القليلة الماضية والله أعلم أين تمضي- هو بسطة العلماء.

بسطة العلماء تعني توسيع منافذ إنباتهم وبنائهم، ونمائهم وإنمائهم، وأدائهم لدورهم:

1: في رياض الأطفال: حب العلم والعلماء.

2: في التعليم الأساسي: حب طلب العلم.

3: في التعليم الثانوي: تعليم طلب العلم وممارسته.

4: في الجامعة: تكوين العالم حارس وممارس العلم.

5: ما بعد الجامعة: الإنتاج العلمي المنظم في مؤسسات التعليم والتفعيل.

6: مؤسسات تكريم العلماء: لا تكفي فيها الجوائز التشجيعية والتقديرية التي تصيب البعض وتترك الأكثرين.

مؤسسات التكريم تتابع الإنتاج العلمي، وتجمعه، وتعمل لكل عالم أو ممارس للعلم ولحراسته وتفعيله ملفا يتضمن: سيرته الذاتية والعلمية والعملية، أهم إنتاجه، جماعته العلمية، وشجرة طلبه وعطائه، وتقدير الأمة له.

وكما في الأوطان فعاليات في ذلك، وكما تقوم بعضها بتقديم جوائز عبر الأمة والعالم، فإن المجتمع الأهلي العابر للحدود مدعوّ لتأسيس مؤسسة نموذج في هذا الباب.

ألا وإن من أهم مهام مؤسسات بسطة العلماء، الفرز والتمييز؛ لميز العلماء من الأدعياء، وبسط العلماء، وقبض الأدعياء. والله يتولى الصالحين.

اترك تعليق