ترشيد الفهم وتحييد الوهم .. في إعمال النظر الكلي حاكما للنظر الجزئي

دراسة بقلم أ.د. إدريس أوهنا(*)

لم يكن أبدا خطاب الوحي مجرد نصوص جزئية، بل كان وسيبقى إلى جانب الأحكام والمعاني المستنبطة من نصوصه الجزئية، قواعد ومعاني كلية، منهما معا تنتظم أحكام الشريعة الغراء، في تناغم وتكامل يرشد به الفهم ويزول به الوهم عند النظر في مسائل الشرع على اختلافها وتنوعها.

غير أن العقل المسلم -في فقهه وفكره- غالى كثيرا في الاهتمام بالجزئي على حساب الكلي، ولو أن بعضا من الجهد الذي بذل عبر التاريخ الإسلامي في الاهتمام بالفروع والاستغراق فيها، بذل في دراسة الكليات الشرعية ومدارستها، وتحكيمها في حياتنا الخاصة والعامة، لكان حال المسلمين غير الحال.

ولو أننا اهتدينا في كشف معاني الخطاب الشرعي وأحكامه وتنزيلها على واقعنا المتشعب والمتعدد إلى المنهج الوسطي المعتدل في إعمال الأدلة الشرعية: جزئيها وكليها، في إطار العلاقات الترابطية، والوشائج التفاعلية بين المعاني والأحكام الشرعية، لقدمنا الإجابة الحضارية عن كثير من تحديات عصرنا ومستجدات زماننا، ولتجاوزنا الكثير من خلافاتنا وانقساماتنا.

فكان لابد لمعالجة آفة “التجزيئية” تلك، باعتبارها عاملا بارزا من عوامل إعاقة العقل المسلم عن الإبداع والتجديد والبعث والإحياء، من العناية أساسا بمنهج النظر، فهما وتطبيقا؛ لأنه الكفيل برسم معالم الاهتداء إلى أقوم السبل في الجمع بين كليات الشرع وجزئيات النص والواقع، ضمن علاقات نسقية ترابطية، تمد شبكة التواصل بين الأدلة الشرعية، في سياق كلي ناظم لجزئيات المعاني انتظام أجزاء السبحة في عقدها، بحيث إذا انفرطت الأجزاء وتناثرت، ضاعت السبحة بضياع أجزائها، وضاعت الأجزاء بضياع عقدها.

ولتتضح لنا حقيقة الهدى المنهاجي في إعمال النظر الكلي، حاكما وموجها ومكملا للنظر الجزئي، أورد في هذا المقال بعض المسائل، برهانا عليه، ونبراسا مضيئا لمعالمه.

المسألة الأولى: عذاب الميت ببكاء أهله عليه:

 ثبت عن رسول الله ﷺ من حديث ابن عمر ومن حديث المغيرة وغيرهما في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: إن الميت يعذب بما يناح عليه ([1])، وفي رواية للبخاري: ببكاء أهله عليه ([2]).

وتلكم مسألة من المسائل التي تثار حينا بعد حين في أوساطنا الاجتماعية، وبخاصة عند فقدان قريب أو حبيب. ولا بد في كشف حقيقتها من توضيح ما يلي:

أولا: المراد بالبكاء في الحديث البكاء بنياحة ورفع الصوت بذلك، لا مجرد دمع العين، الناتج عن الإحساس بالحزن العادي على فراق قريب أو حبيب؛ فإن هذا الأخير ليس فيه أي مخالفة للشرع، وقد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم لفقد ابنه إبراهيم، ودمعت عيناه جراء ذلك.

ثانيا: إذا حملنا العذاب المذكور في الحديث على معناه اللغوي وهو مطلق الألم، وهو اختيار الإمام الطبري، ورجحه ابن المرابط وعياض، وأيده ابن تيمية وجماعة من المتأخرين ([3])؛ صحت إضافته إلى الميت بهذا المعنى عند بكاء أهله عليه؛ حيث يرد أن الميت يتألم بما صدر من أهله بعده من بكاء برفع صوت ونياحة، مما لا يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وسمي هذا الألم عذابا كما سمى الرسول – صلى الله عليه وسلم – السفر عذابا مع أنه لم يكن عقابا على ذنب في قوله: “السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه”. والإنسان قد يتعذب – بمعنى يتألم- بأمور مكروهة من عمل غيره، كما نتأذى عادة بالأصوات المزعجة، والروائح النتنة، وما إلى ذلك مما لا سعي لنا فيه.

ثالثا: إذا حملنا لفظ “يعذب” في الحديث على المعنى الشرعي، وفي تقديري المتواضع أرى ذلك راجحا؛ لأن الدلالة الشرعية لألفاظ الخطاب الشرعي تقدم على الدلالة اللغوية، فيكون معنى التعذيب في الحديث أن الله تعالى يعاقب الميت على بكاء أهله عليه بنياحة ورفع صوت، لكن كي يستقيم فهمنا لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث لا بد من عرضه على  قول الله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾    -الإسراء:15-، وما في معناها من الكليات الشرعية الأخرى؛  وتخصيصه بها، وذلك بحمل لفظ “الميت” الذي ورد في الحديث عاما على معنى خاص وهو الميت الموصي بالبكاء عليه في حياته، ومن في حكمه([4])، جمعا بين الدليلين: الكلي والجزئي، وهو صنيع الجمهور([5]) ؛ حيث خصصوا حديث ابن عمر رضي الله عنهما بالموصي.

ويعضد هذا الفهم أن العرب في الجاهلية كانوا يوصون، وهم على قيد الحياة، أهلهم وذويهم بالندب والنياحة عليهم بعد وفاتهم، قال الشاعر الجاهلي طرفة ابن العبد:

          فإن مت فانعيني بما أنا أهله       وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

 ويدخل في حكم الموصي من كان يقر أهله على النياحة في حياته، أولا ينكر عليهم، أو من كان يفعل ذلك فاقتدى به أهله عند وفاته، أو من كان يدعو إلى ذلك ويشجع عليه، وما شاكل ذلك مما يدخل في سعي الميت قبل وفاته بمعنى من المعاني.

             ولا غرو أن يخصص الدليل الكلي القطعي الدليل الجزئي الظني، في حال التعارض الظاهري بينهما – أما التعارض الحقيقي فمنتف بإطلاق بين نصوص الوحي الصحيحة – وفي هذا يقول الإمام الشاطبي:

“ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام الجزئي، أو تقييده لمطلقه، وما أشبه ذلك، بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق”([6]).

خلاصة القول في هذه المسألة أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ليس عاما في جميع الأحوال والصور، كما هو ظاهر بعض الروايات الصحيحة، بل هو خاص بحالات بعينها؛ وذلك بمقتضى حاكمية الدليل الكلي: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، على الدليل الجزئي: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، وهو مقتضى العدل الرباني.

المسألة الثانية: مسألة انتفاع الميت بعمل غيره:

ورد في نصوص الوحي ما يدل على أن المرء يجازى على ما قدم وسعى، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ -النجم: 39-

وهذه الكلية الشرعية لها شواهد كثيرة، ومنها:

– ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ -المدثر: 38-

– ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ -مريم: 80-

– ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ -مريم: 95- …

وبعرض هذه الكلية على أدلة جزئية ثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك، يبدو في الظاهر أو في نظر الناظر، أنها تتعارض معها تعارضا كليا([7])، ومن هذه الأدلة الجزئية:

– حديث عَائِشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ)([8]).

ومعنى الحديث أن من ترك الصيام لعذر من سفر أو مرض يرجى برؤه، أو حيض، لزمه قضاؤه، فإن مات دون أن يقضيه، مع تمكنه من القضاء، بقي الصيام في ذمته، واستحب لأوليائه أن يصوموا عنه.([9])

– حديث ابن عباس الذي رواه الدارقطني (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو أن أباك ترك ديناً عليه أقضيته عنه قال: نعم، قال: فاحجج عن أبيك)([10]).

وحديث ابن عباس أيضاً (أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره قال: فحجي عنه)([11]) .

“وأما حديث (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث) فلا يدل على انقطاع عمل غيره. وأما حديث: (لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد) فهو في حق الخروج عن العهدة، لا في حق الثواب.”([12])

    كما وردت أحاديث صحيحة في الصدقة عن الميت والإطعام عنه والدعاء له.

وعند تأمل هذه الشواهد الجزئية يظهر أن هناك ناظما واحدا ينظمها، أو قل جامعا كليا يجمع أطراف معانيها الجزئية المتفرقة، وهذا الناظم أو الجامع هو: قاعدة أو كلية “الفضل الإلهي”، فإن الحج عن الميت، أو عن الحي العاجز، والصيام عن الميت، والدعاء والاستغفار للحي والميت على السواء، وإلحاق الذرية بالآباء في الجنة… كل ذلك من باب ما تفضل الله به على عباده رحمة([13]) منه وإكراما وإنعاما.

وعلى قاعدة هذا الفهم -الذي أخاله الفهم السديد للمسألة- لا نكون إزاء تعارض جزئي مع كلي، بل نكون إزاء تعارض كلي مع كلي، والكلي الأول هنا هو: “العدل الإلهي”، والكلي الثاني هنا هو: “الفضل الإلهي”، والجمع بينهما ممكن بالتخصيص، بمعناه الأخص الذي ذكرناه قبل.

وبذلك تكون كل تلك الأحكام الجزئية التي تثبت انتفاع الإنسان بعمل غيره من حج، وصيام، وصدقة، ودعاء واستغفار، وجهاد، وإلحاق للذرية المؤمنة بالآباء في الجنة، مندرجة تحت كلية الفضل الإلهي، المخصصة لكلية العدل الإلهي بما يدخل تحت حكمها خاصة، والمتفردة دونها بتلك الجزئيات الأخرى التي هي أولى بها وأحرى.

هذا وجه، وبإطالة النظر والتدبر في النصوص المقررة لانبناء الجزاء على السعي الذاتي، مع النصوص الأخرى المقررة لجواز الانتفاع بسعي الغير، يمكن إيراد صور وأوجه أخرى للجمع بينها بمسلك التخصيص بمعناه الأخص، ومنها أن يقال إن الصيام عن الميت من ذوي الرحم، والحج عنه، والدعاء له، والصدقة عنه، كلها تندرج تحت كلية “صلة الرحم” أو “حقوق الرحم”، أو كلية “البر” بالنسبة للوالدين خاصة؛ وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ -الأحزاب: 6- وغيرها كثير.

فكما أن ولي الميت أو قريبه، ربما انتفع منه في حياته بالنفقة عليه إلزاما أو تطوعا، وربما دفع الدية عنه في حال القتل الخطأ لأنه من عاقلته، كما أنه عند موته يترك له إرثا يستفيد منه… فكذلك يحسن بهذا الولي أو القريب أن يصوم ويحج عنه إذا مات دون أداء ما عليه، ويدعو له ويتصدق عنه، كل ذلك من باب الصلة والمرحمة بين الأقارب التي أوصى بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وإذا قيل: لماذا ورد في السنة ذكر الصيام عن الميت والحج عنه، ولم يرد شيء من ذلك في الزكاة والصلاة، وكلها شعائر تعبدية وفرائض عملية؟

قلنا: إنما كان ذلك لأسرار عجيبة وحكم فريدة، منها لمن تدبر وتفكر، أن فرض الصيام والحج قليل الدوران في حياة المسلم، فالحج يجب مرة في العمر([14])، والصيام يجب مرة في العام؛ فلا يعسر على الحي أداؤهما عن قريبه الميت، بخلاف الصلاة؛ لتكررها في اليوم خمس مرات، يشق أداؤها عنه. وجنس هذا في الشرع معلوم؛ فقد أمرت الحائض بقضاء الصوم ولم تؤمر بقضاء الصلاة؛ للعلة ذاتها.

فإن قيل: ولماذا انضمت الزكاة إلى الصوم والحج في مسألة النيابة في العبادات قيد الحياة، وخرجت عن مقتضاها الصلاة؟

فلأن الشارع أجاز النيابة في العبادات المالية التي يتعدى نفعها إلى الغير كالزكاة، حيث حق الفقراء والمساكين، والحج حيث الهدي ومصاريف الحج الأخرى يتعدى نفعها إلى الغير، وفي الصوم، وإن عده غير قليل من الفقهاء من العبادات البدنية، فإن الفدية فيه تدفع عن العاجز بسبب الشيخوخة أو المرض المزمن فينتفع بها الفقير والمسكين كذلك.

 أما العبادات البدنية الخالصة التي ليس فيها نفع مباشر يتعدى إلى الغير كالصلاة، فلا نيابة فيها.

وعلى قاعدة ما ذكر، يكون قول الإمامين مالك([15]) وأبي حنيفة([16]) بعدم الصيام عن الميت([17]) وعدم الحج عنه مرجوحا، إذ لا تعارض في الحقيقة بين الأحاديث الصحيحة التي شرعتهما وبين الكلية الشرعية: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) إنما هو تجاذب كليات لجزئيات، لا مشاحة في تسميته تخصيصا لكلي بكلي، لكن بما هو اندماج أو إدماج، لا استثناء ولا إخراج([18])، إلا في الظاهر المتوهم.

وهذا النظر في الجمع بين الدليل الجزئي والدليل الكلي، استحضارا لتجاذب الكليات وتنازعها للأدلة الجزئية، كان معمولا به عند الإمام مالك في اجتهاده وفقهه، قال ابن العربي: “ومشهور قوله – يريد الإمام مالك – والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه”([19])

إلا أن حضوره من الناحية النظرية لا يستلزم ولا يستتبع حضوره في جميع ما اجتهد فيه، رحمه الله؛ فما قرره الإمام مالك من إبطال الإنابة في الصوم والحج، غير ثابت على شرطه فيما نقله عنه ابن العربي.

فإن شرطه – في القول المنسوب إليه من الإمام ابن العربي-، ومن خلال اجتهاده في الفروع، أن الحديث إذا عضد بقاعدة أو أصل عمل به.

وربما حمله على قول ما قاله في هذه المسألة تغليب أصل مخالفة عمل أهل المدينة على غيره([20]).

وعلى كل حال فقد رأينا أن حديثي الصيام عن الميت والحج عنه معضدان بكليات: “البر” و”الرحم” و”الفضل الإلهي”، فلا يسقط العمل بهما بدعوى معارضتهما للأصول، وأصل الأصول كتاب الله تعالى المقرر لتلك الكليات.

وبهذا النظر الكلي يزول الإشكال، ويرفع الالتباس، جمعا بين الكليات الشرعية والنصوص الثابتة الجزئية من غير إسقاط لأي منها.[21]

المسألة الثالثة: قتل الوالد لولده:

إذا نظرنا في الكلية الشرعية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ -البقرة: 179-، مع جزئية: (لا يقتل والد بولده) ([22])، وجمعنا بينهما بمسلك التقصيد والتعليل، وبخاصة: قصد المكلف، فلا شك يلوح لنا وجه الصواب في المسألة، والراجح من أقوال الفقهاء فيها.

فالإمام مالك رحمه الله ذهب إلى أن قتل الأب لابنه إذا كان مع علة العمد والعدوان، استوجب القصاص ([23])، جمعا بين النص الجزئي والدليل الكلي، فحكمه هذا رحمه الله بناه على النظر في قصد المكلف، لكشف الداعي والباعث على الفعل، هل هو مجرد التأديب من غير قصد إلى القتل، فوقع القتل خطأ، أم أن القرائن دالة على خلاف ذلك، وأنه فعل ذلك عمدا وعدوانا. فإذا كان المناط الأول فلا حد، وإذا كان الثاني وجب القصاص، وحكمه هذا مؤيد بقاعدة العدل، وقاعدة الدماء. مما يجعل رأيه في المسألة راجحا قويا، يحفظ للكلية حاكميتها وثبوتها، ويوجه النص الجزئي بمسلك التقصيد والتعليل، إلى حيث لا يعارض تلك الكلية، بل يؤكدها ويعضدها بما يقيم العدل ويحفظ الدماء، ويدرأ الحد عن الآباء ما لم يصدر منهم فعل القتل عمدا وعدوانا.

وكم كان ابن العربي موفقا وهو يرد على من قال بخلافه حين قال: “سمعت شيخنا فخر الإسلام أبا بكر الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الأب بابنه؛ لأن الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه، وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم وكان سبب وجودها، وتكون هي سبب عدمه؛ ثم أي فقه تحت هذا؟ ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك؟ وقد أثر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (لا يقاد والد بولده) وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر – رضي الله عنه – قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه، ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء المسألة مسجلة، وقالوا: لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة، فقال: إنه لو حذفه بسيف، وهذه حالة محتملة لقصد القتل وغيره، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد [إلى القتل] تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله”([24]).

ولا يقال: لعل حكم الحديث يندرج تحت كلي “الرحم”، ومنه حصل إعفاء الأب من الحد؛

لأنا نقول: إن الشريعة لم تعتبر هذا الكلي في إسقاط العقوبة في الدماء، ولو اعتبرته لسقطت العقوبة عن الأرحام في قتل بعضهم البعض، فلا يقتل الابن بقتل أبيه، ولا يقتل الأخ بقتل أخيه، إلخ. ولا تقوى مزية الوالد ومكانته في الرحم على إسقاط حرمة الدم التي وردت في تأكيدها ورعايتها نصوص صريحة مزلزلة، منها قوله تعالى:

﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ -المائدة: 32-.

 ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا﴾ -الإسراء: 33-.

﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ -النساء: 93-

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا”([25])

وقَالَ في حديث آخر: “لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ”([26])؟

وعن عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما أطيبك وأطيب ريحك. ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه، وأن نظن به إلا خيرا”([27]).

وعن ابن عباس قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبا بك من بيت، ما أعظمك، وأعظم حرمتك. وللمؤمن أعظم عند الله حرمة منك”([28])

وقد تواترت الأحاديث الدالة على هذا المعنى، وفيها من الترهيب، الذي لم يستثن أبا ولا غيره، ما تقشعر منه الجلود.

فظهر من ذلك سداد ورجحان ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه، في إيجاب القصاص من الوالد في حال ثبوت قتله لولده عمدا وعدوانا.. اللهم نسألك حسن الفهم ونعوذ بك من ظلام الوهم.

المسألة الرابعة: زراعة الأعضاء الآدمية:

من كليات الشرع ومحكماته قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ – الإسراء: 70- ومن شواهدها حديث: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم)([29])، وتلك الكلية الشرعية المحكمة قد تبدو معارضة لجزئية: زراعة الأعضاء الآدمية في الطب الحديث. إلا أن ما يظهر من تعارض بين الكلية وبين الحديث يؤول إلى التوافق بفهم النص على وجه يجمع بين الظواهر والمقاصد بمسلك التقصيد والتعليل؛ ذلك أن مقصود الشارع من تحريم كسر عظم الميت أو الحي هو النهي عن العبث بأعضاء الإنسان وانتهاك حرمته وكرامته، أما إذا كان القصد من استعمال عضو من أعضاء الميت أو الحي هو المحافظة على حياة غيره، أو إنقاذ غيره من عاهة صحية مستديمة، وكان ذلك برضا المتبرع البالغ العاقل الراشد، مع مراعاة الشروط اللازم مراعاتها شرعا في ذلك، فإن كلية حفظ النفس، كلا أو بعضا، تكون أولى والحالة هذه، باندراج جزئية نقل الأعضاء تحت حكمها من كلية: {ولقد كرمنا بني آدم}؛ حيث حق الحياة مقدم على حق رعاية حرمة الإنسان حيا وميتا، وحيث تقرر في فقه المقاصد تفويت المصلحة الأدنى بتحقيق المصلحة الأعلى بشكل عام، كما هو ثابت في جنس تصرفات الشارع.

ولذلك وجدنا الشيخ السعدي في فتوى مطولة، أجاب فيها عن سؤال:

هل يجوز أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه في إنسان آخر مضطر إليه، برضا من أخذ منه؟

يقول: “ولهذا نجيب عن كلام أهل العلم القائلين بأن الأصل في أجزاء الآدمي تحريم أخذها، وتحريم التمثيل بها، فيقال: هذا يوم كان ذلك خطرا أو ضررا، أو ربما أدى إلى الهلاك. وذلك أيضا في الحالة التي ينتهك فيها بدن الآدمي وتنتهك حرمته. فأما في هذا الوقت، فالأمران مفقودان: الضرر مفقود، وانتهاك الحرمة مفقود، فإن الإنسان قد رضي كل الرضا بذلك، واختاره مطمئنا مختارا، لا ضرر عليه، ولا يسقط شيء من حرمته، والشارع إنما أمر باحترام الآدمي تشريفا له وتكريما، والحالة الحاضرة غير الحالة الغابرة.

ونحن إنما أجزنا ذلك إذا كان المتولي طبيبا ماهرا، وقد وجدت تجارب عديدة للنفع وعدم الضرر، فبهذا يزول المحذور”([30]).

فاتضح من ذلك أن التعارض الظاهري بين كلية من الكليات وجزئية من الجزئيات، إنما هو لعارض ومقصد حتم نقل الجزئية من اندراجها تحت حكم الكلية المتوهم معارضتها لها، إلى كلية أخرى هي أولى وأحق بالانتساب إليها؛ وبذلك يرشد الفهم ويزول الوهم.

المسألة الخامسة: السر في بناء أحكام من الشرع على ظاهر فعل المكلف دون قصده، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيات”.

في بعض الفروع أو المسائل الفقهية الجزئية، قد تنازع “المصلحة”، وهي دليل كلي، دليلا كليا آخر؛ فتجذب ذلك الفرع الفقهي إليها؛ لأنها أحق به في موافقة مراد الشارع؛ فيتوهم من لم يدقق النظر أن التخصيص وقع بالدليل الجزئي المندرج تحت المصلحة، على ظنيته، والحال أن المخصص بمعنى الجاذب والمنازع حقيقة هو الدليل الكلي الذي هو المصلحة الراجحة، وعلى هذا الوزان يجري الحكم في كثير من المسائل الشرعية، ومنها جزئية تضمين الصناع ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم وإن لم يقع منهم تفريط، وسندها الإجماع -حيث نقل إجماع الفقهاء على تضمينهم-؛ فإن هذه المسألة في الظاهر تتعارض مع الكلية الشرعية: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ البقرة 286؛ إذ كيف يضمن الحرفي أو الصانع الآلة أو الجهاز الذي وضعه شخص عنده لإصلاحه، فتعرض للتلف من غير تفريط أو تقصير من ذلك الحرفي أو الصانع، إما بسبب احتراق المحل مثلا أو انهدامه أو تعرضه للنهب والسرقة أو ما شابه؟

لكن السبب الذي قضى بتضمينهم هو الضرورة، متمثلة في حاجات الناس الملحة إلى ترك أمتعتهم وممتلكاتهم بين أيديهم، فلولا الضمان لتهاون الصناع في حفظها، وأدى ذلك إلى تلفها وضياعها. فتبين عند التحقيق أن تلك الجزئية داخلة من باب أولى وأحرى تحت كلية الحاجيات التي تنزل منزلة الضروريات.
فخرجت بذلك من حكم الكلية الشرعية القرآنية: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، والتي تنص على رعاية المصلحة الخاصة في رفع التكليف عند انتفاء الوسع في الأمور كلها، ومنها ما نحن فيه من تضمين الصناع، إلى كلية شرعية أقوى منها في الحكم على الجزئية المذكورة وهي مراعاة الضرورة والحاجة العامة، التي ترجح في الموازنة على المصلحة الفردية الخاصة.

وضمان المتلفات بصفة عامة من هذا الجنس؛ فإنه لا اعتبار فيه بقصد المكلف ونيته؛ وذلك لعارض أقوى وهو وجوب المحافظة على المصالح العامة التي لا تتم إلا بالضمان. واعلم أنه لولا إيجاب الشارع لضمان المتلفات بغض النظر عن القصد لهدمت كليات الدين وخربت تحت ذريعة الخطأ أو النسيان أو الصغر، وما إلى ذلك؛ قال ابن القيم -رحمه الله-:

” وأما قوله : (إن الشريعة جمعت بين المختلفات، كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال ) فغير منكر في العقول والفطر والشرائع والعادات اشتراك المختلفات في حكم واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم، فإنه لا مانع من اشتراكها في أمر يكون علة لحكم من الأحكام، بل هذا هو الواقع، وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان،  وإن افترقا في علة الاسم، وربط الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها، وهو مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به، كما أوجب على القاتل خطأ دية القتيل، ولذلك لا يعتمد التكليف. فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال، فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض، وادعى الخطأ وعدم القصد. وهذا بخلاف أحكام الإثم والعقوبات، فإنها تابعة للمخالفة وكسب العبد ومعصيته، ففرقت الشريعة فيها بين العامد والمخطئ”(([31])).

ومن الكليات الشرعية الحديثية في هذا السياق، قوله عليه الصلاة والسلام: (لن، أو لا نستعمل على عملنا من أراده)([32]) وهي كلية ثابتة قطعية محكمة، لا يمكن تخصيصها إلا بدليل كلي في مرتبتها، كالمصلحة العامة مثلا، ولذلك متى اقتضت المصلحة العامة تولية من طلب الولاية، جازت توليته، وقد تجب، على قدر تعين المصلحة وتحققها في تعيينه، وعلى هذا تحمل استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب زعيم وفد ممن أسلموا من بعض قبائل اليمن بأن يؤمره على قومه، لما رآه كفأ، ورأى أن مصلحة قومه في توليته عليهم([33]).

خاتمة:

إن السبيل لضبط العقل المسلم على منهج التفكير السليم لا يستقيم إلا عن طريق الجمع في النظر بين طرفي الكليات الشرعية وجزئيات النصوص والنوازل، من غير استغراق في أحدهما وإهمال للآخر، وهو ما من شأنه أن يقوم الكثير من المزالق الفكرية، ويجيب عن الكثير من الإشكالات التي تعترض الأمة اليوم، فكرا وممارسة، نظرا وتطبيقا.


الهوامش:

   ([1]) رواه البخاري في (الجنائز)، باب ما يكره من النياحة على الميت برقم (1291)، ومسلم في (الجنائز) باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه برقم (933)، ورواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) من حديث المغيرة بن شعبة برقم (17737).

  ([2]) رواه البخاري في (الجنائز) باب قول النبي ﷺ: “يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه” برقم (1288).

 ([3]) ينظر: “نيل الأوطار” للشوكاني، تحقيق أنور الباز، دار الوفاء – مصر، الطبعة الرابعة، 1429هـ/2008م.، 3/212.

 ([4]) نحو من أهمل نهي أهله عن ذلك وهو قول داود وطائفة. أو من كان طريقته النوح فمشى أهله على طريقته.. (ينظر: “نيل الأوطار” للشوكاني، 3/211-212).

([5]) ينظر “نيل الأوطار” للشوكاني، 3/210.

([6]) الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، دراسة وتحقيق: الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي والدكتور سيد زكريا، دار الفضيلة بالقاهرة، الطبعة الأولى 2010م ، 3/15.

([7]) قال الشاطبي: “أن هذه الأحاديث -على قلتها- معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة، وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن.” الموافقات، لأبي إسحاق الشاطبي، 2/234. وقال في موضع آخر: “ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وقوله: (أرأيتِ لو كان على أبيك دين) الحديث لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله: {ألا تزر وازرة وزر أحرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.” المرجع نفسه، 3/25.

([8]) صحيح البخاري، باب: من مات وعليه صوم، وصحيح مسلم، باب: قضاء الصيام عن الميت.

([9]) “وأما الجواب بحمل الصيام على الإطعام لحديث الترمذي (من مات وعليه صيام فليطعم عنه وليه كل يوم مدا مسكينًا) فضعيف وأيضًا فالحديث غير ثابت ولو ثبت أمكن الجمع بالحمل على جواز الأمرين” شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، كِتَابُ الصِّيَامِ، بَابُ النَّذْرِ فِي الصِّيَامِ، وَالصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ.

“وأما الحنفية فاعتلوا لعدم القول بهذين الحديثين بما روي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم قالت يطعم عنها، وعن عائشة قالت لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم أخرجه البيهقي وبما روي عن بن عباس قال في رجل مات وعليه رمضان قال: يطعم عنه ثلاثون مسكينا. أخرجه عبد الرزاق، وروى النسائي عن بن عباس قال: لا يصوم أحد عن أحد قالوا فلما أفتى بن عباس وعائشة بخلاف ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه وهذه قاعدة لهم معروفة إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وعن بن عباس فيها مقال وليس فيها ما يمنع الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جدا والراجح أن المعتبر ما رواه لا ما رآه؛ لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهاد ومستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحققت صحة الحديث لم يترك المحقق للمظنون والمسألة مشهورة في الأصول.” فتح الباري، لابن حجر، باب: من مات وعليه صوم.

([10]) سنن الدارقطني، كتاب الحج، باب المواقيت.

([11]) صحيح مسلم، باب: الْحَجِّ عَنِ الْعَاجِزِ لِزَمَانَةٍ وَهَرَمٍ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لِلْمَوْتِ.

([12]) الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، دار الفكر بدمشق، الطبعة العاشرة 1428هـ/2007م ، 3/2096.

([13]) وآيات الرحمة في كتاب الله تعالى شاملة للأموات والأحياء على حد سواء؛ ومنها قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء}، وقوله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم}، وغيرهما كثير.

([14]) وبسبب ذلك قد يقع المكلف في الغفلة والتسويف والتفريط في أداء واجب الحج في حياته، فتتداركه رحمة الله بإجزاء عمل غيره عنه.

([15]) المدونة، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1994م ، 1/280.

([16]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، دار الكتب العلمية، 1986م،            2/103.

([17]) وقد حرر ابن رشد الحفيد (تـ 595هـ) سبب اختلاف الفقهاء في من مات وعليه صوم بعد عرضه الأقوال في المسألة فقال:

“والسبب في الاختلاف معارضة القياس للأثر؛ وذلك أنه ثبت من حديث عائشة أنه قال عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام، صامه عنه وليه)، وثبت عنه أيضًا من حديث ابن عباس أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال: (لو كان على أمك دَين، أكنت قاضيه عنها؟)، قال: نعم، قال: (فدَيْنُ الله أحق بالقضاء)، فمن رأى أن الأصول تعارضه؛ وذلك أنه كما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يتوضأ أحد عن أحد، كذلك لا يصوم أحد عن أحد – قال: لا صيام على الولي، ومن أخذ بالنص في ذلك قال بإيجاب الصيام عليه، ومن لم يأخذ بالنص في ذلك قصر الواجب بالنذر، ومن قاس رمضان عليه قال: يصوم عنه في رمضان، وأما من أوجب الإطعام فمَصيرًا إلى قراءة من قرأ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184] الآية، ومن خَيَّرَ في ذلك فجَمْعًا بين الآية والأثر” بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد الحفيد، دار الحديث – القاهرة، الطبعة: بدون طبعة، تاريخ النشر: 1425هـ – 2004 م ، 2/62.

([18]) أي أن بتدقيق النظر في جزئية من الجزئيات يتبين اندماجها تحت كليتها الحقيقية، وإدماج تلك الكلية لها؛ لأنها أحق بها، ليس على سبيل الخروج والاستثناء من كلية أخرى، بل لأن الأمر كذلك أصالة وحقيقة.

([19])  الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، 3/27.

([20]) الجامع لأحكام القرآن لشمس الدين القرطبي، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة الثانية، 1964م ، 2/276.

([22]) مسند أحمد ابن حنبل، مُسْنَدُ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، أَوَّلُ مُسْنَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وفي رواية الترمذي: (لا يقاد الوالد بالولد)، جامع الترمذي، رقم الحديث: 1383.

([23]) قال ابن العربي في أحكام القرآن: “المسألة السابعة هل يقتل الأب بولده مع عموم آيات القصاص؟ قال مالك: يقتل به إذا تبين قصده إلى قتله بأن أضجعه وذبحه، فإن رماه بالسلاح أدبا وحنقا لم يقتل به، ويقتل الأجنبي بمثل هذا، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: لا يقتل به.” أحكام القرآن، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003م، 1/94.

([24]) أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي المعافري، 1/94-95.

([25])  صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا جَزَاؤُهُ فَجَهَنَّمُ}.

([26]) صحيح مسلم، كِتَابُ الْقَسَامَةِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ، بَابُ مَا يُبَاحُ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ.

([27])  سنن ابن ماجة، كتاب الفتن، باب حرمة دم المؤمن وماله.

([28]) أخرجه البيهقي في الشعب، وهو في السلسلة الصحيحة برقم: 3420.

([29])  سنن ابن ماجة، كِتَابُ الْجَنَائِزِ، بَابٌ فِي النَّهْيِ عَنْ كَسْرِ عِظَامِ الْمَيِّتِ.

([30]) ملحق رقم 3، فتاوى الشيخ السعدي، من كتاب: “دراسة في فقه مقاصد الشريعة …” للدكتور يوسف القرضاوي، ص232.

([31]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق عصام فارس، دار الجيل بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ-1998م، 2/152.

([32]) صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم. صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ الْإِمَارَةِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا.

([33]) ينظر: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، ابن سيد الناس، اليعمري الربعي، أبو الفتح، فتح الدين (المتوفى: 734هـ) تعليق: إبراهيم محمد رمضان الناشر: دار القلم – بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ/1993م، 2/318-319.

(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، فاس، المغرب.

اترك تعليق

  1. يقول محمد السائح:

    قولكم في ديباجة المقال:
    (غير أن العقل المسلم -في فقهه وفكره- غالى كثيرا في الاهتمام بالجزئي على حساب الكلي، ولو أن بعضا من الجهد الذي بذل عبر التاريخ الإسلامي في الاهتمام بالفروع والاستغراق فيها، بذل في دراسة الكليات الشرعية ومدارستها، وتحكيمها في حياتنا الخاصة والعامة، لكان حال المسلمين غير الحال).
    ينبغي تقييده بهذا العصر الذي اضطراب فيه النظر الشرعي عند كثير من المصدرين ، أما عبر التاريخ الإسلامي، فلا، بدلالة أن الأمثلة التي جلبتها ذكرت فيها كيف فهمها كبار الفقهاء وفق الجمع بين الكليات والجزئيات.