صور بارزة

تركيا ومعركة سيف القدس: الموقف والتداعيات المستقبلية

ورقة علمية:
إعداد: د. سعيد وليد الحاج[1] 

ملخص تنفيذي: 

فتحت معركة “سيف القدس” مرحلة جديدة مختلفة نسبياً في الصراع مع الكيان الصهيوني، وخصوصاً على صعيد علاقات الفلسطينيين وفي مقدمتهم قوى المقاومة مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية، وموقف هذه الأطراف من الاحتلال واعتداءاته على الفلسطينيين ومن القضية الفلسطينية عموماً.

وتعد تركيا قوة إقليمية صاعدة وكذلك دولة مسلمة وصديقة للفلسطينيين، ولها علاقات جيدة مع المقاومة الفلسطينية ولا سيّما حركة حماس التي قادت المعركة الأخيرة من خلال موقع ذراعها العسكري كتائب القسام لغرفة العمليات المشتركة، بالإضافة إلى علاقاتها مع عدد من الأطراف المؤثرة في القضية الفلسطينية أو المهتمة بها.

تبحث هذه المادة في موقف تركيا من معركة “سيف القدس”، ومدى اختلافها عن مواقفها من الاعتداءات والحروب السابقة، وتقييم هذا الموقف، لا سيّما فلسطينياً، بعد تحليل أسبابه، والآفاق الممكنة لتطويره مستقبلاً.

مقدمة:

في 2021/5/10، بدأت معركة “سيف القدس” بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وهي الحرب التي أطلقها الأخير رداً على صواريخ تحذيرية من المقاومة باتجاه القدس. فقد تزامنت عدة تطورات هي خطة الاحتلال لإجلاء سكان حيّ الشيخ جراح في القدس، وتسهيل مسيرة علنية وكبيرة للمستوطنين في المسجد الأقصى فيما يدعى “يوم القدس الموحدة”، وإغلاق باب العمود في المسجد الأقصى، ما استدعى ردود فعل فلسطينية عديدة، كان من بينها تهديد المقاومة الفلسطينية وتحديداً كتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالردّ على ذلك.[2]

إنّ استمرار الاحتلال في خطواته وتصعيده في المسجد الأقصى وتعامله العنيف مع المصلين والمرابطين فيه عَقِبَهُ إطلاق صواريخ المقاومة باتجاه مدينة القدس، وهو ما ردّ عليه الاحتلال بإطلاق عملية أسماها “حارس الأسوار Operation Guardian of the Walls” ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.[3] بينما أطلقت علية المقاومة معركة “سيف القدس”.[4]

توقف إطلاق النار بعد 11 يوماً من إطلاق العملية، أي في 2021/5/21، إثر وساطة مصرية ودون اتفاق نهائي لتثبيت التهدئة،[5] والذي تُرك لوقت لاحق من خلال التواصل المصري مع المقاومة والاحتلال. وقد دفع هذا الكثيرين لعدِّ التهدئة هشّة وقابلة دائماً للانهيار،[6] لا سيّما بعد تشكيل حكومة جديدة للاحتلال تركت بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu لمقاعد المعارضة واحتمالات السجن بسبب ملفات الفساد التي تلاحقه.[7]

في الحصيلة المباشرة لجولة التصعيد هذه، ارتقى نحو 291 شهيداً فلسطينياً إضافة لآلاف الجرحى في غزة والضفة والقدس والأراضي المحتلة سنة 1948، مقابل 12 قتيلاً إسرائيلياً وعشرات الجرحى، بالإضافة إلى الدمار الذي لحق بالمباني السكنية والبنى التحتية والمراكز الطبية الفلسطينية.[8]

وقد اتفقت معظم التقييمات على أن هذه الجولة من المواجهة كانت مختلفة واستثنائية من حيث بعض تمظهراتها وكذلك نتائجها وارتداداتها. وقد تبدّى ذلك في الترابط الذي تبلور خلالها بين القدس وغزة، وكذلك في ظهور المقاومة الفلسطينية كحامية للكل الفلسطيني بشرياً وجغرافياً وسياسياً، والقدرات المتعاظمة للمقاومة،[9] ودخول مناطق الـ 48 داخل الخط الأخضر على خط المواجهة بشكل غير مسبوق، وحضور المقاومة في مشهد بدء المواجهة وختامها بما أعطاها تفوقاً واضحاً فيها،[10] وانتهائها بخسارة نتنياهو معركة تشكيل الحكومة بالرغم من أن ذلك كان أحد أهم دوافعه في جولة التصعيد.

كما أن الكثير من التقييمات ذهبت إلى أن معركة “سيف القدس” سيكون لها تداعيات على المشهد الداخلي الفلسطيني، والعلاقات العربية والإقليمية والدولية للفصائل الفلسطينية، ولا سيّما حماس، وكذلك على الصراع مع الاحتلال.

إنّ استثنائية المعركة من هذه الزوايا قد دفعت لتقييم الفواعل الإقليمية المختلفة، وبمعايير تقييم تختلف جزئياً عن الاعتداءات السابقة والمواجهات التي حصلت قبل ذلك بين الاحتلال والمقاومة، ومن بين هذه الأطراف تركيا لعدة اعتبارات ستأتي تفصيلاً.

أولاً: تركيا والمقاومة الفلسطينية:

لطالما كان موقف تركيا من القضية الفلسطينية جدلياً لا سيّما في السنوات الأخيرة، لما يشتمل عليه من تعقيدات متداخلة وتناقضات ظاهرية. حيث ما زالت تركيا تملك علاقات مع الكيان الصهيوني بالرغم من تراجعها في السنوات الأخيرة، وما زالت علاقاتها التجارية معه في نمو بالرغم من الجفاء السياسي، ولها في الوقت نفسه علاقات طيبة مع فصائل المقاومة الفلسطينية ولا سيّما حماس، وكذلك مع السلطة الفلسطينية.

يعني ذلك أن أنقرة لها علاقات أكثر من جيدة مع طرفي المشهد الفلسطيني الداخلي (حماس وفتح أو السلطة)، ومستوى من العلاقات كذلك مع الكيان الصهيوني عدو الفلسطينيين والمعتدي عليهم، بالإضافة إلى السقف المرتفع لخطابها تجاه الأخير.

وفي الأصل فإن الموقف التركي من القضية الفلسطينية محكوم بعدة محددات من بينها الخلفية التاريخية للعلاقات مع الكيان الصهيوني، حيث كانت أول دولة مسلمة تعترف به وتنسج معه علاقات تحالفية،[11] وعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) North Atlantic Treaty Organization (NATO)، وعلاقاتها مع الكتلة الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن ذلك أيضاً الروابط التاريخية والجغرافية والدينية والثقافية مع الفلسطينيين، وكون الدولة العثمانية آخر دولة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية قبل الانتداب البريطاني ثم إعلان الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى التعاطف العابر للشرائح الاجتماعية والسياسية والفكرية مع القضية الفلسطينية. وفي الموقف السياسي، فإن تركيا ملتزمة بحل الدولتين والمبادرة العربية للسلام.[12]

هذا الإطار العام لمحددات الموقف التركي من القضية الفلسطينية تضاف له خصوصيتان:

الأولى: القدس لما لها من أهمية خصوصاً لدى الأتراك، دينياً وتاريخياً وكذلك للآثار العثمانية الموجودة فيها.

الثانية: غزة والملف الإنساني فيها بعد الحصار.[13]

وفيما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية، تحتفظ أنقرة بعلاقات أكثر من جيدة مع عدد من الفصائل في مقدمتها حركة حماس. تقليدياً، تبرر تركيا علاقاتها بالأخيرة بأنها حركة سياسية منتخبة من الشعب الفلسطيني،[14] وتشجيعاً لها للانخراط في حل سياسي للقضية.[15] لكن السنوات الأخيرة شهدت استخدام الرئيس التركي مصطلحات المقاومة، وخصوصاً مقاومة الظلم، لوصف حماس.[16]

هذه المحددات وغيرها صاغت موقفاً تركياً معقداً من القضية الفلسطينية وكذلك تجاه الاحتلال. فمن جهة تعلن أنقرة رغبتها في تطوير العلاقات مع “إسرائيل”، محمّلةً الحكومة الإسرائيلية مسؤولية تردّيها، ومن جهة ثانية لا تكاد تمرر عدواناً أو مشروعاً استيطانياً أو انتهاكاً للحقوق الفلسطينية دون أن ترفع السقف في مواجهة الاحتلال. وقد شهدت الاعتداءات الإسرائيلية السابقة في السنوات 2008 و2012 و2014 مواقف تركية متقدمة في انتقاد العدوان ووصف “إسرائيل” بـ”دولة الإرهاب” وما إلى ذلك.[17]

ثانياً: الموقف التركي من سيف القدس:

بالعودة لموقف تركيا قبل معركة “سيف القدس” وخلالها، ينبغي الإشارة إلى أن الاهتمام بموقفها ينبع من كون تركيا دولة إقليمية صاعدة، ومنخرطة في عدة قضايا وملفات إقليمية مهمة، ودولة مسلمة في المقام الأول، إضافة لعلاقاتها الغربية وعضويتها في حلف الناتو، وسقفها المرتفع تقليدياً في وجه الاحتلال، وعلاقاتها الجيدة مع الفلسطينيين سلطةً ومقاومة.

ومن العوامل التي تزيد من أهمية تقييم موقف تركيا، أن المواجهة الأخيرة أتت في ظل تصريحات أشارت إلى رغبتها في تحسين العلاقات مع الاحتلال. فقد قال الرئيس رجب طيّب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan إنّ بلاده تريد تطوير العلاقات مع “إسرائيل”، محمّلاً حكومة نتنياهو وسياساتها تجاه الفلسطينيين مسؤولية عدم حصول ذلك.[18] كما قال مستشار الرئاسة للسياسة الخارجية مسعود جاشين Mesut Caşın، إنّ بلاده مستعدة لذلك وأنها لا تريد أزمة جديدة مع الاحتلال، متوقعاً عودة العلاقات الديبلوماسية في آذار/ مارس 2021.[19] كما أن بعض المصادر توقعت تعيين سفير تركي في تل أبيب مع جملة التعيينات الديبلوماسية في الشهر ذاته، وقد طُرح اسم السفير المتوقع والذي لم تعلن أنقرة لاحقاً عن تعيينه.[20]

وأخيراً، أتى التصعيد الأخير قبيل اللقاء المنتظر بين الرئيسين التركي أردوغان والأمريكي جو بايدن Joe Biden على هامش قمة الناتو في بروكسل، وهو اللقاء الذي سعت إليه أنقرة بما تملك لإنجاحه وتجنب أي أزمة جديدة مع إدارة بايدن خلاله. فقد كان واضحاً أنه كان لموقف تركيا من التصعيد ارتداد على العلاقات مع واشنطن، فقد دانت الأخيرة ما عدَّته عداءً للسامية في تصريحات أردوغان،[21] بينما قال الأخير إنّ الدول الداعمة للاحتلال شريكة في ظلمها للفلسطينيين.[22]

رسمياً، صدرت مواقف منددة بالعدوان الإسرائيلي على القدس ثم غزة، وبما اقتُرِفَ خلال المعركة من جرائم من مختلف المستويات السياسية، الرئاسة والبرلمان والحكومة والأحزاب السياسية. فعلى صعيد الرئاسة التركية، وصف الرئيس رجب طيب أردوغان دولة الاحتلال بأنها “دولة إرهاب”، واتهمها بارتكاب جرائم حرب على مرأى ومسمع العالم أجمع.[23] كما هاجم أردوغان الدول التي دعمت الكيان خلال المعركة واصطفت إلى جانبه، محمّلاً إياها مسؤولية مشتركة عن الجرائم المرتكبة.

كما هاتف أردوغان كلاً من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وأجرى اتصالات وحوارات بخصوص الأمر مع عدد كبير من رؤساء وقيادات دول عربية ومسلمة وعالمية، في مقدمتها قطر والأردن والكويت وماليزيا والباكستان وروسيا بالإضافة إلىمنظمة التعاون الإسلامي Organisation of Islamic Cooperation (OIC).ا[24]

وأعلن أردوغان أن بلاده سوف “تدعم القدس كما دعمت أذربيجان” سابقاً خلا حرب تحرير أراضيها من الاحتلال الأرميني،[25] وقدّم مقترحات تتعلق بالقضية الفلسطينية عموماً والقدس على وجه الخصوص، مثل توفير حماية دولية للفلسطينيين وإدارة القدس من قبل هيئة مشكلة من الديانات السماوية الثلاث.[26]

ودعا الرئيس التركي إلى تدفيع الاحتلال الإسرائيلي ثمن الجرائم التي يرتكبها ضد الفلسطينيين،[27] الأمر الذي عرّضه لانتقادات من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة. أمّا اتهام واشنطن لأردوغان بـ”معاداة السامية”، فقد ردّت عليه أنقرة بحدة، من خلال تصريحات عدد من المسؤولين، منهم الناطق باسم حزب العدالة والتنمية Justice and Development Party (AKP) الذي وصف الاتهامات الأمريكية بـ:الكذبة”.[28]

أما رئيس البرلمان مصطفى شانتوب Mustafa Şentop، فلقد كرّر بدوره اتهام دولة الاحتلال بممارسة “إرهاب الدولة”،[29] ونظّم البرلمان برئاسته جلسة خاصة “للتضامن مع الفلسطينيين وإدانة جرائم الاحتلال”.[30] وأصدر البرلمان بياناً يدين الاعتداءات الإسرائيلية، وقّعت عليه الأحزاب المنضوية تحت قبته، وهو أمر نادر الحدوث بسبب الخلافات البينية الداخلية.[31]

وقد صدّرت الأحزاب كذلك بشكل منفرد مواقف تضامن مع الفلسطينيين وإدانة للاحتلال. فوصف الناطق باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم عمر جليك Ömer Çelik ما يفعله الاحتلال بـ”الوحشية” و”الانتهاك الصارخ للقانون والأعراف الدولية” مطالباً العالم يوقف العدوان.[32] وأكّد زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري Republican People’s Party كمال كليتشدار أوغلوKemal Kılıçdaroğlu استمرار حزبه في دعم الفلسطينيين واصفاً ما تقوم به دولة الاحتلال بـ”المجزرة”.[33]

من جهته قال رئيس حزب الحركة القومية Nationalist Movement Party (MHP) دولت بهجلي Devlet Bahçeli إنّ “الإرهاب الإسرائيلي بلغ حدوداً لا تطاق” داعياً لمحاكمة نتنياهوأمام المحكمة الجنائية الدولية International Criminal Court (ICC).ا[34]كما صدرت مواقف مشابهة من رئيس الحزب الجيد İYİ (Good) Party ميرال أكشنار Meral Akşener، ونائب رئيس الدولة فؤاد أوكتاي Fuad Aktay، والناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين İbrahim Kalın، ورئيس دائرة الاتصال فيها فخر الدين ألتون Fahrettin Altun، وعدد من الوزراء،ورئيس الشؤون الدينية علي أرباش Ali Erbaş.ا[35]كما دعا رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب المستقبلFuture Party أحمد داود أوغلو Ahmet Davutoğlu الأحزاب التركية للتوحد من أجل القدس والحكومةَ إلى خطوات عملية لدعم الفلسطينيين.[36]

شعبياً، تصدر العدوان الإسرائيلي على القدس ثم غزة عناوين نشرات الأخبار التركية وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي وخصصت مختلف وسائل الإعلام ساعات لتغطية الأحداث بشكل موسع.[37] كما شهدت مختلف المدن التركية مظاهرات حاشدة للتنديد بالعدوان الإسرائيلي. وقد نُظّمت المظاهرات بالرغم من “الإغلاق الكامل” في البلاد بسبب جائحة كورونا، وهو ما عنى ضمناً تسهيلاً رسمياً للمظاهرات، وتركزت المظاهرات في أنقرة وإسطنبول أمام سفارة الكيان وقنصليته.[38]

وإضافة لمواقف سجّلها عدد كبير من مؤسسات المجتمع المدني، فقد خصصت رئاسة الشؤون الدينية خطبتـَيْ العيد والجمعة خلال المعركة عن فلسطين، مع الدعاء للفلسطينيين وجمع التبرعات لهم.[39]

ثالثاً: تداعيات:

وبناء على ما سبق، فإن تركيا صدّرت موقفاً مرتفع السقف من العدوان الصهيوني على القدس ثم على قطاع غزة في معركة “سيف القدس”، وهو موقف بدا موحَّداً سياسياً وشعبياً، ومن مختلف الشرائح والتوجهات.

وبالرغم من ذلك، كان ثمة تقييم أن الموقف التركي كان جيداً ولكنه غير كافٍ، أو على أقل تقدير لم يرتقِ لما يكافئ المعركة الدائرة وما كان منتظَراً من تركيا. فالموقف في مُجمله كان خطابياً وسياسياً/ ديبلوماسياً وإعلامياً مكرراً، شبيهاً بمواقف تركيا من الاعتداءات السابقة على غزة، في حين أن الجميع متفق على أن المعركة الأخيرة مختلفة تماماً عن كل سابقاتها.

هذا التقييم ورد على لسان رئيس حماس في قطاع غزة يحيى السنوار في لقائه مع وكالة الأناضول Anadolu Agency، حين شكر وأثنى على موقف أنقرة، لكنه أكد أنّه بانتظار ما هو أكثر، وبما يليق بمعركة القدس، التي هي معركة تركيا كما هي معركة الفلسطينيين وفق تصريحه.[40]

في التحليل والقراءة، يبدو أن علاقات تركيا المتراجعة مع مصر والتي لم تصل بعد محاولاتُ ترميمها لنتيجة ملموسة حالت دون إيصال مساعدات إنسانية وإغاثية للقطاع، كما حصل في مرات سابقة. كما يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي أظهرت اهتماماً واضحاً بجولة التصعيد وسعت لإيقافها عبر بعض حلفائها في المنطقة، قد حرصت على استبعاد أنقرة ومنعها من لعب دور محوري، ومن دلائل ذلك تجنب بايدن الاتصال بأردوغان خلال جولة التصعيد، واستثناء تركيا من جولة وزير الخارجية الأمريكي في المنطقة.[41]

في خطابه الأول بعد وقف إطلاق النار، لم يأت رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية على ذكر تركيا بالنص بين الدول والأطراف التي شكرها بشكل مباشر. قرئ ذلك من قبل البعض على أنه زلة لسان وخطأ غير مقصود، بسبب طبيعة خطابات الرجل الارتجالية، لكن البعض أيضاً فهم أنها رسالة عتب من هنية وحركته لتركيا، من باب انتظاره منها ما هو أكثر.[42]

وفيما بدا حرصاً من حماس على نفي الاحتمال الثاني، فقد خصّ هنية إحدى قنوات التلفزة التركية (خبر تورك Habertürk TV) بحديث تلفزيوني مطوّل، أثنى خلاله على الدور التركي. بل وأكّد هنية على أن مقترحات الرئيس أردوغان بخصوص الحماية الدولية وإدارة مدينة القدس، إضافة لفكرة ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، هي مواضيع يمكن مناقشتها مع أردوغان بشكل مباشر لدى لقائه.[43] كما حرص رئيس الحركة في غزة، السنوار، على أن يكون أول لقاء إعلامي له بعد الحرب مع وكالة الأناضول التركية، وقد كرر خلال اللقاء نفس المعاني تقريباً.[44]

في المقابل، لم يُعلن عن حصول أي اتصال هاتفي أو لقاء مباشر أو افتراضي بين أردوغان وهنية بعد وقف إطلاق النار حتى لحظة كتابة هذه الورقة، وهو أمر يُعزى جزئياً إلى أجندة الأول المزدحمة وحرص بلاده على إتمام لقائه مع بايدن على هامش قمة الناتو في حزيران/ يونيو 2021 بشكل سلس، لكنه أيضاً يطرح علامات استفهام حول ما إذا كان ذلك ردة فعل على خطاب هنية الذي أسقط تركيا لفظاً من قائمة الشكر بشكل صريح.

كما أن تركيا أعلنت لاحقاً، منتصف حزيران/ يونيو الفائت، عن توصّلها لاتفاق مع السلطات المصرية لإيصال مساعدات إنسانية لقطاع غزة.[45]

رابعاً: آفاق مستقبلية:

إذا كانت القراءة في تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي وتصريحات بعض قيادات حماس تشير إلى أن موقف تركيا من العدوان الأخير مقدّر ومشكور، ولكن هناك توقع وانتظار لما هو أكثر، بما يرتقي لمرحلة ما بعد “سيف القدس” وكذلك لمكانة تركيا وإمكاناتها وما هو متوقع منها، فإن البحث ينبغي أن ينصب على ما هو فعلاً المطلوب منها مستقبلاً، وكذلك على كيف يمكن تحقيق ذلك.

في نظرنا، يمكن لتركيا تبنّي مسارات ترفع سقف موقفها وتعطيه زخماً إضافياً عملياً، إضافة للسياقات السياسية والديبلوماسية والإعلامية والإغاثية سالفة الذكر. ومن البديهي أن المنتظر من تركيا يفترض أن يضع في الحسبان علاقاتها الدولية وعضويتها في حلف الناتو وغيرها من العوامل.

من هذه المسارات على سبيل المثال لا الحصر:

1. التراجع عن مسار تطوير العلاقات مع الاحتلال، بل وتخفيض مستوى التمثيل الديبلوماسي بينهما، بغض النظر عن سقوط نتنياهو وتشكيل حكومة مختلفة.

2. قيادة محور من دول صديقة للفلسطينيين لتشكيل لوبي ضاغط على الدول الداعمة للاحتلال، وكذلك لرفع سقف المنظمات الدولية (مثل الأمم المتحدة United Nations) بخصوص القضية الفلسطينية على المدى البعيد.

3. تطوير العلاقات بمختلف أنواعها ولا سيّما السياسية مع المقاومة الفلسطينية، بما يناسب المكاسب التي حصلت عليها بعد المعركة ويوفر لها شبكة أمان سياسية.

4. المقاطعة الاقتصادية والتجارية للكيان الصهيوني، على الأقل في البعد الرسمي إن لم يمكن على صعيد القطاع الخاص.

5. المقاطعة الأكاديمية والثقافية والسياحية (وأنواع أخرى) للكيان الصهيوني.

6. تطوير المساعدات لتركّز على تقوية صمود الشعب الفلسطيني وتطوير البنية التحتية في قطاع غزة، ورفد الأخير بمعدات الدفاع المدني والإنقاذ التي يحتاجها خلال العدوان وجولات التصعيد.

خلاصة:

ما زال وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال هشّاً ويمكن أن ينقضه الأخير في أي وقت، بالإضافة إلى أن سياسة العدوان لديه معتمدة (متى ما وجد هدفاً مناسباً)، ولم يطرأ عليه تغيير. كما أن نتائج معركة “سيف القدس” تبشّر بمرحلة جديدة ومختلفة في القضية الفلسطينية على عدة صعد، من بينها مواقف الأطراف الإقليمية والدولية والعلاقات معها.

ومن هاتين الزاويتين، الميدانية والسياسية، بات لزاماً على الفلسطينيين، ولا سيّما قوى المقاومة، أن تعمل على استثمار نتائج المعركة فيما يتعلق بمواقف هذه الأطراف، لزيادة أوراق قوتها وإضعاف الاحتلال.

ومن الأمور التي ينبغي العمل عليها إيصال رسالة للاحتلال بأن سياساته العدوانية والجرائم التي يرتكبها لا ولن تمر دون أن يدفع ثمناً، سياسياً كان أم اقتصادياً أم على صعيد العلاقات مع مختلف الأطراف أم غير ذلك من السياقات.

ولأن موقف أي طرف إقليمي أو دولي ليس معطى جامداً وإنما عملية تتأثر بالمعطيات الميدانية والسياسية، فإنه يمكن بعد متغيرات “سيف القدس”، وبكثير من التخطيط والعمل والتواصل، رفع سقف عدد من الأطراف تجاه القضية، ومن بينها تركيا، خصوصاً وأن المطروح على المدى القريب على الأقلّ، يقع في إطار الممكن.

اترك تعليق