حاجة الحركة الإسلامية للفكر المستقبلي

بقلم الإمام يوسف القرضاوي(*)

من خصائص الفكر الذي نريده للحركة الإسلامية: أن يكون فكرا مستقبليا يرنو دائما إلى الغد، ولا يحصر في الحاضر، وليس غريبا أن تهتم الحركة الإسلامية بالمستقبل، فهذا هو منطق الإسلام في قرآنه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

القرآن الكريم والمستقبل

فالمتدبر للقرآن الكريم يجده منذ العهد المكي يوجه أنظار المسلمين إلى الغد المأمول، والمستقبل المرتجى، ويبين لهم أن الفلك يتحرك، والعالم يتغير، والأحوال تتحول، فالمهزوم قد ينتصر، والمنتصر قد يهزم، والضعيف قد يقوى، والدوائر تدور، سواء كان ذلك على المستوى المحلي أم العالمي.

يتمخض عنه الغد القريب وعلى المسلمين أن يهيئوا أنفسهم، ويرتبوا بيتهم لما يتمخض عنه الغد القريب، أو البعيد، فكل آت قريب.

نقرأ سورة (القمر) المكية فنجد فيها قول الله تعالى عن المشركين، وهم أولو القوة والشوكة، والعدد والعدة: ﴿سَیُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَیُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ. بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ﴾ (القمر: 45- 46).

ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت “سيهزم الجمع ويولون الدبر” قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر” فعرفت تأويلها يومئذ.

وروى البخاري عن عائشة قالت: نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة، وأنى لجارية ألعب: “بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر”. فكان المقصود بهذه الآية وأمثالها تهيئة الذهنية المسلمة، والنفسية المسلمية، للتغير الحتمي، والغد المرتقب.

وعلى المستوى العالمي نجد آيات الكتاب العزيز تتحدث عن ذلك الصراع، التاريخي بين الدولتين العظيمتين: فارس والروم ـ وقد كان صراعا اهتم له الفريقان في مكة: المسلمون والمشركون ـ فتبشر الآيات الجماعة المؤمنة بأن المستقبل للروم من أهل الكتاب، على الفرس المجوس عباد النار، وأنهم ـ وإن غلبوا اليوم ـ سيغلبون في بضع سنين، وفي هذا تقول السورة جازمة: ﴿الۤمۤ ۝١ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ ۝٢ فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ ۝٣ فِی بِضۡعِ سِنِینَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ۝٤ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ یَنصُرُ مَن یَشَاۤءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ ۝٥﴾ (الروم: 1-5).

وهذه الآيات الكريمة من كتاب الله تعالى تدلنا على أمرين:

1- مدى وعي المجموعة المسلمة ـ على قلتها وضعفها !لمادي ـ بأحداث العالم الكبرى، وصراع العمالقة من حولها، وأثره عليها إيجابا وسلبا.

2- تسجيل القرآن لهذه الأحداث، وتوجيه النظر إلى عوامل التغير، والانتقال من الواقع إلى المتوقع في ضوء السنن.

وفي سورة المزمل المكية، نقرأ الآية الأخيرة من السورة التي تتضمن تخفيف الله عن نبيه ومن معه في قيام الليل وقراءة القرآن، لما ينتظرهم من مهام جسيمة في المستقبل، فسيواجهون أعداء يقاتلونهم ويصدونهم عن سبيل الله. فليوفروا بعض قوتهم لهذا اللقاء المفروض عليهم.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ یَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَیِ ٱلَّیۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ یُقَدِّرُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَیَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ یَضۡرِبُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنۡهُۚ﴾ (سورة المزمل: 20).

الرسول والمستقبل

والقارئ المتأمل لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين له أنه لم يكن غافلا عن مستقبل دعوته، بل كان يفكر فيه، ويخطط له، في حدود ما هيأ الله له من فرص، وما آتاه من أدوات.

ويكفي أن نقرأ عن جهده ونشاطه صلى الله عليه وسلم في مواسم الحج التي تجمع ممثلين من جميع قبائل العرب، وكيف كان عليه الصلاة والسلام يعرض دعوته عليهم، ويطلب نصرتهم، ويعدهم بوراثة ممالك كسرى وقيصر، ليعلم إلى أي أفق كان يرنو بصره صلى الله عليه وسلم.

وكان الرسول الكريم مؤمنا بمبدأين أساسيين:

الأول: أن هذا الواقع لا بد أن يزول، لأنه يحمل عوامل زواله، وأن البديل له هو الإسلام، وأن ليل الجاهلية الحالك والجاثم سيعقبه فجر صادق، وما على المؤمنين إلا أن يصمدوا ويصبروا ولا يستعجلوا الثمرة قبل إبانها.

“لما اشتد الأذى بالصحابة في مكة، وخصوصا المستضعفين منهم، جاء خباب بن الأرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ويستنجد به، وهو متوسد رداءه في ظل الكعبة. فقال بلسانه ولسان المعذبين من أمثاله: لا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين! ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه! والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الركب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”. [أخرجه البخاري].

الثاني: أن هذا المستقبل المنشود إنما يتحقق وفق سنن الله في رعاية الأسباب، وإعداد المستطاع من العدة، وإزاحة العوائق من الطريق، وترك ما عدا ذلك للإرادة الإلهية، فما يعجز عنه البشر لا تعجز عنه القدرة المطلقة.

تجد ذلك واضحا كل الوضوح في الهجرة إلي المدينة؛ فقد اختار الرسول الكريم مهجره في جزيرة العرب لا خارجها ـ كالحبشة مثلا ـ فهذا هو الموقع المناسب، واختار أنصاره من العرب الخُلص، الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وذرياتهم، وقدم هجرة أصحابه على هجرته، ليكون ذلك أمكن لهم، وأليق بمَقْدمِه بعدهم.

وهيأ للهجرة – بعد إذن الله له – الرواحل والرفيق والدليل، والغار الذي يتوارى فيه حتى يهدأ الطلب، ويفتر الحماس، وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر والكتمان، وأسباب الاحتياط.

وترك للإرادة الإلهية بعد ذلك ما لا حيلة له فيه؛ ولذا لم يخامره صلى الله عليه وسلم أدنى شك في أن الله ناصره.

وعندما قال أبو بكر له، وهما في الغار: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! قال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟. ونزل في ذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَیۡهِ وَأَیَّدَهُۥ بِجُنُودࣲ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِیَ ٱلۡعُلۡیَاۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمٌ﴾ (التوبة:40).


(*) من كتاب: “أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة: 133-137”.

اترك تعليق

  1. يقول zelma:

    Waiting patiently for you to come home and fuck me! https://bit.ly/3UIKI2R