حرب أوكرانيا.. حرب الغرب ضد نفسه؟

بقلم/د: محمد الحبيب الدكالي 

بعد خمس وسبعين عاما تعود المدافع للزمجرة في أوروبا في مشهد مخيف لم يتوقعه العالم. فهل تغير الغرب جوهريا في عمقه الحضاري بعد استقرار النظم الديموقراطية كتجربة إنسانية فريدة حسب معها الناس أن الإنسانية قد استقرت على برّ الأمان من مخاطر الصراعات المسلحة كما في سوابق التاريخ الحديث والمعاصر؟ هذا أمر مشكوك فيه. كثيرون هم الفلاسفة والمفكرون الغربيون الذين دقّوا أجراس الخطر حول المخاطر التي تمثلها الحضارة الغربية، بجوهر روحها، كما هي عليه،  وهي تجسد حالة من التناقض التام يجمع بين القوة المادية الهائلة الطاغية والخواء الروحي والأخلاقي، وهو ما أنتج دينا مضادا للدين قوامه عبادة المادة والقوة والروح الفرعونية والاستكبار في الأرض. 

أمم البرّ وأمم البحر 

تاريخ الحروب بين الأمم والدول الأوروبية قديم يمتد لمئات السنين. دائما كانت هناك تناقضات وتصادمات في المصالح وتنوع في الدوافع، دينية و قومية و إيديولوجية و اقتصادية وراء الصراعات بين الأباطرة و الملوك التي كانت تساق إليها الأمم والشعوب سوقا. 

معطيات التاريخ والجغرافيا تقول لنا أنه منذ بدايات العصور الوسطى استحكم الصراع والتدافع بين ما تسميه دراسات الجغرافيا السياسية المعاصرة أمم البر، أي البلدان الأوروبية المغلقة جغرافيا التي لا تتوفر على منافذ البحار المفتوحة وأكبر هذه الأمم في العصر الحديث الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمِساوية من جهة، وأمم البحر الأقوى أي إمبراطوريات إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، كما استحكمت الصراعات والحروب فيما بين أمم البحر نفسها. لقد انجرّت كل هذه الإمبراطوريات مرارا إلى حروب طويلة وموجات احتلال بينية توسعية متبادلة في عقر القارة الأوروبية.

وبعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى كانت هذه الصراعات على خطوط التجارة البرية والبحرية وعلى المستعمرات، لتتطور تلك الحروب في القرن 19 مع ظهور عصر القوميات، ثم الإيديولوجيات العابرة للقوميات (الماركسية، النازية، الليبرالية) عاملا بارزا في الصدامات بين الأمم الأوروبية وصولا إلى الحربين العالميتين التي أهلك في أولاها 20 مليونا من الأنفس وفي ثانيها 60 مليونا. ثم كان ما عرف بعدها بالحرب الباردة التي ساد فيها الهوس الإيديولوجي إلى الحد الذي اعتبرت فيه الاشتراكية والرأسمالية هما الجنة أو النار، وهاج وماج العالم كله في لجج هذا الهوس طوال خمسين عاما.

لكن يبدو أن الغرائز الإنسانية الأكثر أنانية ووحشية تبقى كامنة لإحداث التغيرات الكبرة العنيفة، مثل الجيولوجيا الباطنية التي تنجم عنها كوارث الزلازل والبراكين والتسونامي، والتاريخ حافل المعاصر بالمفاجآت الكبيرة وبالظواهر الشاذة، كالحروب العالمية التي لم تعرفها البشرية من قبل، التي لا يمكن تفسيرها بمجرد العوامل الإيديولوجية أو الاقتصادية أو السياسية. يجب استنطاق كوامن الميول والغرائز الأعمق في النفس البشرية. 

فها هي الحضارة الغربية قد أنتجت أفكارا كبيرة في الحقوق وفي قواعد الحكم والتنظيم الاجتماعي بعد تجارب طويلة من الصراعات والدماء، وطورت تجارب ديموقراطية غنية جدا، جعلت من مشاركة شعوبها في بناء الدولة وإدارة المجتمع ركنا ركينا، وخاضت تجارب كبيرة في بناء صيغ التعايش المسالم والتعاون والتكامل في تأمين سبل العيش والسلم، ولعل تأسيس المجموعة الأوروبية أفضل مثال.

لكن يبدو أن هناك شيطانا ما ظل يسكن تفكير كل أولئك القادة الكبار الذين تعاقبوا في علياء الحكم في الغرب منذ قرن فأوحى لهم وزين لهم أن يأمّنوا الإمبراطوريات بالأحلاف العالمية، فأسسوا حلف الأطلسي وحلف وارسو الذي ورثته روسيا الاتحادية بشكل أو بآخر، لترتكس نفس الإمبراطوريات من جديد في حمأة حرب تقليدية مدمّرة في بلد كان من الممكن تجنيبه إياها، توشك أن تتحول إلى حرب عالمية أخرى كما توقع القطب الصهيوني جاك آتالي، وهو الخبير الضليع الذي عمل مستشارا لفرانسوا ميتران عشر سنوات، في مقابلة له مع قناة Europe1 بتاريخ في 05/06/2014  حيث ذكر من بين ما ذكر أن الولايات المتحدة جرّت فرنسا خلال 2009-2010 للمشاركة في برنامج للناتو لدعم أوكرانيا دون أن يفصح عن طبيعة هذا البرنامج . الآن، كل دول المنظومة الغربية انجرّت إلى هذه الحرب بأشكال مختلفة، وهو نذير شؤم مظلم بأن تتوسع كما توسعت بينهم من قبل. 

صناعة الحرب 

لعل أكثر الأسئلة إلحاحا من بين تلك التي تثيرها هذه الحرب المجنونة في أوكرانيا، هو : لماذا أشعلت الولايات المتحدة هذه الحرب؟ العالم كله يتابع خطب وتصريحات القادة والمسؤولين الأمريكيين ومعهم كبار قادة حلف الناتو ووراءهم جيش من “الخبراء” و”المحللين” وماكينة إعلامية كاسحة، والنوتة واحدة، شيطنة روسيا مقابل “التزامهم” بالدفاع عن “القيم الديموقراطية والليبرالية للعالم الحر”، لكن ربما كان ألكسندر دوغين فيلسوف القومية الروسية أجرأ من أجاب على هذا السؤال كما سنرى لاحقا في هذه المقالة. وفي صراع دولي بهذا الحجم متعدد الأبعاد والمستويات، هناك حاجة لترتيب الأفكار والمعلومات لمحاولة فهم دوافع وأهداف هذه الحرب.

وفي جميع الحالات، هي حرب تشتعل في عمق الغرب بالمعنى الحضاري والجيوسياسي العام أي أمريكا وأوروبا وروسيا، حتى وإن كان أ. دوغين يرفض بشدة فكرة أن تكون روسيا جزءا من هذه الحضارة. إن ما يجري يذكّرنا بشكل لا لبس فيه بالسياقات التي اكتنفت إشعال الحربين العالميتين الأولى والثانية. 

هناك شواهد بارزة على أن الحرب في أوكرانيا قد تمّ التحضير لها تحضيرا. أول هذه الشواهد تسعير الخلافات والصدامات القومية والسياسية في شرق أوكرانيا بين المكوّنين القوميين الأبرز الروس والأوكرانيين وصولا إلى صدامات عسكرية بين القوميتين منذ 2014،  ولم يكن هذا التسعير بعيدا عن تقنيات الاختراق والحرب النفسية والدعاية لتسميم الأوضاع في أوكرانيا إلى أقصى حد، وإن يسأل أحد عن اللاعب الأبرز في الساحة الأوكرانية بعد إعلان استقلالها عن الاتحاد السوفييتي بمجرد انهياره سنة 1991، فهو لن يكون أحد آخر سوى الولايات المتحدة.

كان الهدف الرئيس للاختراق الأمريكي هو الحيلولة دون نجاح انتقال ديموقراطي طبيعي في البلد. ففي مقابلة لقناة آر تي الروسية (بالعربية) مساء يوم 06/03/2022 في برنامج نيوزميكر مع نيكولاي آزاروف رئيس وزراء أوكرانيا الأسبق استعرض فيه كثيرا من التفاصيل حول الاختراق الأمريكي للمؤسسات الأوكرانية السياسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية بالطول والعرض، فتحدث مثلا عن زيارة جون برينان مدير سي آي إي سنة 2014 لكييف بغرض التعاون الأمني، وعن تأسيس مجموعات مسلحة قومية متطرفة معادية لروسيا تتبنى عدد منها بشكل صريح إيديولوجيا نازية (يسميها الروس المجموعات النازية) تم حشدهم في إقليمي دونباس ودونيتسك وكان هذا إيذانا ببدء الحرب الأهلية في هاتين المحافظتين منذ 2014 (!) وبقيت مشتعلة حتى بداية الحرب الكبيرة الحالية.

كما تحدث عن تفاصيل دعم أمريكا لأحزاب وشخصيات سياسية موالين لها وصلوا للرئاسة ولمناصب عليا في الدولة، وعن إغلاق كل محطات المعارضة.

كما لفت الانتباه إلى تصريح وزير الخارجية الأمريكي بلينكن مؤخرا “اننا سنضمن انتقال السلطة” في حال انتهاء دور الرئيس الحالي زيلنسكي، كمؤشر آخر على حجم التدخل الأمريكي في أوكرانيا. وعن مظاهر هذا الاختراق الآمريكي كذلك تحدث الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يوتشينكو (2005- 2010) ومسؤولون كبار سابقون في برنامج “شريط وثائقي” في نفس القناة الروسية أذيع بعد برنامج نيوزميكر المشار إليه مباشرة وفي نفس الليلة، عن جملة من المعلومات ذات الدلالة، منها أن بايدن زار أوكرانيا 14 مرة عندما كان عضوا في الكونغرس، وعن مصالح شخصية لابنه هنتر بايدن الذي ترأس شركة للتنقيب عن النفط براتب 50 ألف دولار دون نتيجة تذكر، كما ظهر شريط لبايدن في إحدى هذه الزيارات وهو يضع رجلا على رجل مخاطبا المسؤولين الأوكرانيين بابتسامة ساخرة “أمامكم ستّ ساعات قبل أن أغادر لإقالة النائب العام وإلا فلن يكون هناك قرض المليار دولار”.

أما رودي جولياني المحامي المعروف الذي شغل منصب عمدة نيويورك لمدة سبع سنوات والمرشح السابق للرئاسة والصديق الحميم لدونالد ترامب فقد ذكر في نفس البرنامج الوثائقي أن جورج سوروس امبراطور الإعلام في العالم والشخصية الصهيونية المعروفة، أشرف على تمويل وتوجيه منظمة غير حكومية كبيرة في أوكرانيا وهي Open society foundation وهي متخصصة في العمل في أوساط المجتمع المدني الأوكراني. 

أما ثاني الشواهد على التحضير لإشعال الحرب فهو التلكؤ والتسويف في قبول انضمام أوكرانيا للمجموعة الأوروبية وهي مجموعة اقتصادية وليست حلفا عسكريا، وقد ذكر الرئيس الأوكراني الأسبق ن. آزاروف في المقابلة المذكورة آنفا أن الدستور الأوكراني ينص على النظام الديموقراطي وعلى حياد أوكرانيا أي عدم انضمامها إلى أي حلف عسكري وأنها دولة غير نووية أي لا تسعى لامتلاك السلاح النووي، ومثل هذا الانضمام كان من الممكن معه أن يتيح فرصا أمام المجموعة وروسيا لإيجاد حلول معقولة لمشكلات شرق أوكرانيا خاصة وأن الأوروبيين لهم أصلا علاقات اقتصادية كبيرة مع روسيا، لكن الأمريكيين رفضوا فكرة الانضمام، في الوقت الذي عملت فيه  المجموعة الأوروبية بهمّة، ووراءها حرص أمريكي، على ضم بلدان أوروبية كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو ولها حدود مع روسيا إلى المجموعة الأوروبية وهي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وكذلك الدول الأوروبية القريبة جدا من روسيا وهي بولاندا وسلوفاكيا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا وأغلب هذه الأخيرة هي أقل أهمية بالنسبة للمجموعة الأوروبية من أوكرانيا من حيث الأهمية الاقتصادية. 

أما ثالث الشواهد فهو إدخال أوكرانيا في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي وصولا إلى انقلاب 2017 وهي أيضا مرحلة لم تكن بعيدة عن التدخلات الأمريكية الاستخباراتية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية، وصولا إلى مرحلة إنضاج الظروف لاستفزاز بوتين بالقدر الكافي في محافظتي دونباس ودونيتسك لاتخاذ قراره بشن الحرب على أوكرانيا.

وفي الوقت الحالي وأمام أنظار العالم، تنخرط الولايات المتحدة في عملية تسليح مكثفة لأوكرانيا وتمارس ضغوطا كبيرة على حلفاءها الأطلسيين للانخراط في عملية التسليح هذه على ألمانيا التي حرصت طويلا على عدم استفزاز الروس وبناء علاقات جيدة معهم فدخلت شركاتها الكبيرة للعمل في روسيا التي تعتمد عليها ألمانيا لتأمين نسبة كبيرة من مصادر الطاقة.

ولا شك أن الضغط الأمريكي على ألمانيا لإلغاء مشروع “نورث ستريم2” المخصص لزيادة حجم نقل الطاقة من روسيا إلى ألمانيا بدعوى العقوبات هو أمر سيئ جدا بالنسبة للألمان وبرفع من مستويات التهديد والمخاطر في القارة العجوز ويزيد من هياج الدب الروسي. 

“الغرب مكبّ النّفايات السامة” 

لكن هذه المعطيات ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، فأمامنا الآن، الغرب الأطلسي بإيديولوجيته الليبرالية كرؤية كونية نهائية للعالم وبنظامه الشمولي، ومن جهة أخرى روسيا، كبلد قارّي  يتبنى إيديولوجيا جديدة لها رؤيتها الشمولية كذلك تلقي أضواء على خلفيات ما يبدو أنه صراع ضار من نوع غير معهود، ويتكشّف بشكل غير متوقع عن أبعاد أعمق بكثير مما يجري على السطح في أوكرانيا.

لقد تحدث بوتين في إحدى خطبه مع بداية حربه على أوكرانيا عن روسيا الجديدة، ربما لأول مرة بهذا الشكل كرئيس للدولة، مستحضرا التاريخ والقومية الروسيين وللأرثوذوكسية بلغة التمجيد البالغ، ولأمر ما تعمّد بوتين أن يستقبل ويتعامل مع رئيس فرنسا ماكرون بطريقة مهينة أمام العالم. 

يتعلق الأمر هنا بإيديولوجيا حقيقية لها مرتكزات ورؤية وأهداف كما يعتقدها ويراها بوتين رئيس روسيا الاتحادية الذي يعتبره ألكسندر دوغين امبراطورا حقيقيا، وهذه مفاهيم جديدة وغير عادية أو عابرة في سياقات التدافعات الهائلة الجارية في الغرب. 

لكن فيلسوف القومية الروسية الجديدة أ. دوغين يذهب أبعد بكثير في رؤيته الفكرية والسياسية للقومية الروسية المبنية بشعور العظمة الإمبراطورية، كما بسطها في كتبه العديدة وكما عبّر عنها ببساطة شديدة في مقابلته مع علي الظفيري التي أذيعت حلقتها الأولى في 14 نوفمبر 2021 على قناة الجزيرة. فهو يعتبر هذه الرؤية القومية بديلا، هكذا، لأفكار ومقولات “الحضارة الغربية” التي يمثلها الغرب والتي لا تعبر في رأيه عن “الحضارة الغربية الحقيقية” التي قامت على الإرث الحضاري لأمم البحر الأبيض المتوسط وعلى إرث المسيحية، لأن الحضارة الغربية التي تدعيها أمريكا وأوروبا، كما يراها، تنبني على القيم المادية الصرفة وعلى تحييد الدين والقيم الأخلاقية، وصولا إلى “نظام عالمي” طاغ مفروض بالقوة على العالم. 

ويزيد أ. دوغين إلى الشعر أبياتا مذهلة في صراحتها عندما يتحدث عن طبيعة ما يعتبرها مواجهة شاملة بين روسيا القومية الإمبراطورية والغرب العولمي، ويشير بأصبعه بدون أي تلعثم إلى من يعتبرهم “أعداء روسيا” أي أولئك الذين صنعوا حسب رأيه “النظام العالمي ” والمتحكمين فيه، وسمّى بعضهم بأسمائهم.

ففي ورقة نشرتها الباحثة الفرنسية بريجيت باسكال بتاريخ 3 مارس 2022 ضمن سلسلة “رسائل سياسية” (Lettre politique de Brigitte Pascall) تنشرها بانتظام، أوردت مقتطفات من آراء أ. دوغين حول هذه المواجهة التي تذكّرنا بصعود النازية واليمين الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وفيما يلي، نظرا للأهمية، نص هذه المواقف والآراء: 

” تخلق روسيا ساحة شمولية للمقاومة. القطيعة مع الغرب ليست قطيعة مع أوروبا، إنها قطيعة مع الموت، مع الانحطاط والانتحار”. 

“إنها ليست حربا ضد أوكرانيا، إنها مواجهة ضد الشمولية كظاهرة كلية. إنها مواجهة على كل المستويات الجيوسياسية والإيديولوجية”. 

“روسيا ترفض كل شيء في العولمة – أحادية القطبية، التحالف الأطلسي، ما هو نقيض التقاليد، التقنوقراطية، النظام الجديد باختصار. من جهة أخرى واضح أن كل القادة الأوروبيين هم جزء من النخبة الليبيرالية الأطلسية”. 

“روسيا مستبعدة منذ الآن من الشبكات العولمية، ليس لديها خيار: إمّا أن تبني عالمها، أو تختفي. لقد رسمت روسيا طريقا لبناء عالمها، حضارتها. نحن بهذا، في حرب، وهذا هو رد فعل روسيا”. 

“والآن، قد تم قطع المرحلة الأولى، لكن السيد (le souverain)، لا يمكن إلا أن يكون مجالا كبيرا، دولة – قارة، دولة – حضارة. لا يمكن لأي بلد أن يقاوم طويلا لكي ينفك تماما”. (أي من سيطرة النظام العالمي) 

“روسيا بصدد إيجاد مجال عالمي للمقاومة وانتصارها سيكون انتصارا لكل القوى البديلة، من اليمين ومن اليسار ولكل الشعوب. لقد بدأنا المسارات الأكثر صعوبة والأكثر خطرا. ولكن عندما نربح سيربح العالم. يجب أن يكون الأمر هكذا. نحن نعمل على إيجاد شروط تعددية أقطاب حقيقية، وأولئك الذين يريدون قتلنا الآن سيكونون أول من يستفيد من مشروعنا غدا”. 

“ماذا تعني قطيعة روسيا مع الغرب؟ النجاة. الغرب الحديث، حيث يسود روتشيلد، سوروس، شواب(1)، بيل غيتس، ماكرون(2)، زوكربرغ، هو أكثر شيء مقرف في تاريخ العالم”. 

“إنه ليس غرب الثقافة المتوسطية اليونانية – الرومانية، ولا العصر الوسيط المسيحي ولا القرن العشرين العنيف والمتناقض، بل هو مقبرة المخلّفات السامة للحضارة، إنه نقيض الحضارة”. 

“كلما عجّلت روسيا (في مواجهتها هذه) واستكملت انفصامها، عادت إلى جذورها، إلى ماذا؟ إلى الجذور المسيحية، اليونانية الرومانية، المتوسطية، الأوروبية.. أي إلى الجذور المشتركة للغرب الحقيقي”. 

وقد أشار دوغين في مقابلته مع علي الظفيري أن هذه العقيدة الإيديولوجية تواجه معارضة شرسة من أتباع الغرب في روسيا، لكنه يؤكد على أنها محل اقتناع تام من طرف بوتين والنخبة العسكرية الروسية تحديدا. 

هذه الرؤية لطبيعة الصراع الأعمق بين روسيا وأمريكا ومعها الناتو، تعيد إلى الأذهان صعود الاتجاهات اليمينية في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى (هتلر، موسوليني، حكومة فيشي في فرنسا)، التي نادت بالقضاء على النفوذ اليهودي المسيطر على المؤسسات المالية وعلى علياء مواقع الحكم في أوروبا واتهام اليهود بتسعير الحروب وتخريب أخلاق المجتمعات الأوروبية وهويتها المسيحية. 

المجانين الكبار 

تذكرت وأنا أتابع مجريات هذه الحرب وبشاعاتها، والألاعيب والضغوط التي استخدمت وتستخدم لافتعالها وإذكاء سعيرها، الكتاب المشهور للدكتور ألكسيس كاريل (1873-1944) “الإنسان ذلك المجهول” (L’homme cet inconnu) ، وهو طبيب جراح وفيلسوف حصل على جائزة نوبل في الطب وتعتبره المصادر الغربية من الأسماء البارزة في الفكر الغربي المعاصر.

في هذا الكتاب طرح أ. كاريل رؤيته العلمية والفلسفية والأخلاقية لطبيعة الحضارة الغربية المعاصرة، ومفادها، بشكل عام، أن هذه الحضارة قد غيرت بالفعل، وبشكل عميق بل جذري، كل التصورات والمفاهيم حول القضايا الكبرى للإنسان التي سادت طوال مسارات الحضارات البشرية، لقد أعادت صياغة تعريف الإنسان والحضارة والتاريخ والأخلاق والتقدم والاقتصاد والسياسة والأدب والفن والعلاقات بين الشعوب والأمم، وفقا لرؤية مادية نفعية محضة، ورسّخت مفهوم عبادة المال والقوة الكاسحة العمياء وإدارة شؤون العالم ومصالح البشرية وفقا لهذه الرؤية البئيسة الشاذة عن بديهيات الفطرة.

استعرض في كتابه (أزيد من 500 صفحة) شواهد عديدة، مستحضرا أدوات علم الاجتماع وفلسفة العلوم والاقتصاد السياسي للتدليل على أن الحضارة الغربية سائرة بالإنسانية في طريق محفوف بالمخاطر التي لا يمكنها، بحكم طبيعتها التي حلل خصائصها في كتابه، أن تتلافى مصيرا كارثيا. 

وقد أورد أ. كاريل العديد من الظواهر والمعلومات حول رؤيته للحضارة الغربية التي بنيت حسب تحليلاته على جهل بطبيعة الإنسان والمجتمعات البشرية، وحول المصير الذي ينتظر هذه الحضارة، وهي رؤية لم تكن متشائمة بالمطلق، لكونه طرح تصورا عجيبا لإنقاذ البشرية من هذا المصير لا يتسع المجال للتعريف به.

ومن بين هذه الظواهر الدّالة التي ساقها، انتشار الأمراض النفسية والعقلية بشكل كبير في المجتمع الأمريكي باعتباره قمة الهرم في الحضارة الغربية، وتحدّث في هذا الإطار عن مؤشر غريب ومفزع وهي أن عدد العيادات والمستشفيات المتخصصة في الأمراض النفسية والعقلية في أمريكا آنذاك تفوق من حيث عددها مثيلاتها الخاصة بالأمراض العضوية، واعتبر أن هذه الظاهرة، التي لا تزال منتشرة في أمريكا بالذات، مؤشرا واضحا على وجود اضطرابات عميقة وغير عادية في المجتمع الأمريكي،  وهو يرى أن مثل هذه الظواهر مرتبط بتأثيرات القيم المادية الصرفة على النظام الكلّي وعلى المجتمع.

وهذا مجرد مثال من بين أمثلة أخرى عديدة أوردها للتدليل على صحة نقده لهذه الحضارة، كطغيان مفهوم “الربح” (Profit) بكل الطرق والوسائل الممكنة، ومفهوم “اللذة أوالمتعة” (Pleasure) واستحكام القاعدة الرأسمالية القائمة على فكرة الإنتاج والاستهلاك بدون توقف كقاعدة جوهرية في النظام الرأسمالي الصناعي باعتبارها الطريقة الوحيدة المنطقية للنمو الاقتصادي (دعه يمر دعه يعمل) إلخ.. وكيف تحولت هذه المفاهيم إلى قيم كبرى وثقافة عامة مسيطرة على العقول وكيف تحدث تدميرا منهجيا لعوامل التماسك الفطرية في المجتمعات الغربية.

لكن ما استذكرته بشكل خاص من هذا الكتاب، ونحن بصدد مشاهدة ما يحصل في أوكرانيا، هو اعتقاده، بكل جدية، بأن أخطر المرضى العقليين في البلدان الغربية هم أولئك الموجودين في سدة الحكم وعلياء مواقع اتخاذ القرار. 

التاريخ المعاصر للحضارة الغربية هو تاريخ حافل بالتطور العلمي والتكنولوجي المبهر والتقدم في الرفاه الاجتماعي، لكنه في نفس الوقت، ويا للمفارقة، تاريخ حافل بالوحشية والظلم الهائل، فليس عسيرا أن نستحضر عددا لا يحصى من القرارات والسياسات المجنونة التي دفعت فيها شعوب عديدة، في جميع القارات، أكلافا هائلة من الإبادة البشرية والقتل الجماعي والتدمير الشامل وأنواعا مرعبة من الظلم الشامل المنهجي في حق حريات وحقوق وأرزاق مئات الملايين من بني آدم وإفساد النظام البيئي العالمي.

وليس من العسير كذلك معرفة من هم كل أولئك الذين تعاقبوا على مراكز الحكم والقرار في الدول الكبرى وفي رقابهم كل الأوزار والأهوال التي اقترفتها أيديهم في حق البشرية. لقد أصاب أ. كاريل تماما عندما اعتبرهم من أخطر المرضى العقليين. 

ــــــــــــ 

(1) البروفسور كلاوس شواب Klaus Schwab الرئيس المؤسس لـ”المنتدى الاقتصادي العالمي” الواجهة البارزة للنظام العولمي وصنو البنك الولي وصندوق النقد الدولي. 

(2) كناية على دور عائلة روتشيلد في فرنسا في إيصاله لرئاسة الجمهورية وزوجته من نفس العائلة.

المصدر:
هوية بريس 

 

اترك تعليق

  1. يقول ben kami:

    وضع السياسات العامة لدول العالم لا شك في انه لا يتم رسمها من خلال المؤسسات العالمية التي تمثل واجهة النظام العالمي الجديد و ان الظاهر فيها هو وجود زخم معاريفي و رصيد تاريخي يكاد يكون ميتافيزيقي في استشراف عالم الغيب و المهيكل في أطر تنظيمية مخفية و مخيفة يدين اصحابها بعقائد و مبادئ تظبط سير التحرك لهذه الهياكل بحيث يصير مثلا رئيس أي دول و الذي هو أعلى منصب في دولة و امة ما لا يشبه في دوره سوى دور عرائس القراقوز ثم ينتهي و يأتي آخرون …و هكذا ، و مالم يتعرف الجنس البشري على هؤلاء من خلال فكرهم و طريقة عمله و معتقداتهم و طريقة اكتسابها و الولاء فيها و اساليب و وسائل انجاز مشارعهم الشريرة و المصلحية النفعية الضيقة في حدود دوائرهم و فقط ، فسيبقى الوضع و المسار يسير نحو بروز أفراد في صور أشخاص معنوية لمؤسسات مدمرة بفكرها نتاج صورة نمطية ل…….المسيح الدجال …….بكل ما يحمله من معنى الفساد المتحضر .