فقه صناعة القلة الرائدة في ضوء علم السنن الإلهية (1-4)

 ✍️ أ.د. رمضان خميس الغريب(*)

تعيش أمتنا العربية والإسلامية الـيـوم حـالـة مـخـاض سـيـكـون لها ما بعدها على مدار التاريخ وتطاول الأيام، فهي تـتـشـكـل فـكـرا وحـركـة وعلاقة بين الحاكم والمحكوم بصورة جديدة.


وهذا الظرف الذي نحياه يحتاج قيادة فكرية وروحية واعية وريادة علمية وعملية واعية لمتطلبات المرحلة وتوازنات الحاجة، وترتيب الأهم قبل المهم، والفرض قبل الواجب، والواجب العيني قبل الكفائي، والآني قبل الآتي، وإعداد كوادر وقيادات على المدى القصير والطويل تكون مؤهلة لحمل الرسالة، وأداء الأمانة أداء مبنيا على وعي القلة يكون أساساً لسعي حميد.
وإذا تأملنا واقع المسلمين بين الماضي والحاضر، وموقفهم من سنة الله في القلة والكثرة، رأينا أن وعي المسلمين بها وعنايتهم بأثرها، أو إهمالهم لها وعدم اهتمامهم بها الذي شكل محور الأساس وحجر الزاوية في فترات الانتصار أو الانكسار، فيوم أن وعى المسلمون على ضوء مقاصد القرآن وفلسفته للقلة والكثرة بل سنته فيها، يوم أن وعوا أثر القلة في الشهود الحضاري وقيمة هذا التضامن والتجمع على مستوى العلماء والأمراء، والنخبة الفكرية والعلمية وعلى مصاف الساسة والحكام، والزهاد وأرباب السلوك، يوم أن عـزوا وقدموا للبشرية الخير، فضلا عن الإسلام أروع صور الحضارة، وأرقى نماذج الإنسان عندما يبدع ويبتكر في ضوء مقولات الوحي ومتطلبات السماء، ويوم أن أغفلوا النظر إلى هذه السنة الماضية وأهملوا التعامل معها يوم أصبحوا غثاء كغثاء السيل أو هباء تذروه الرياح، فلا وزن في عالم الحضارة، ولا قيمة في دنيا الأرقام، ولا سبق في مجال العلم ولا ريادة في جانب الاجتماع، وكانوا هم من انطبقت عليهم السنة في القلة والكثرة كما انطبقت على غيرهم؛ {كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}.

وإذا سألنا التاريخ عن فترات الشهود الحضاري للأمة المسلمة، أخبرنا أنها تلك الفترات التي فهم المسلمون فيها أثر هذه القلة ومهمتها في الشهود الحضاري وإنهاض الأمة، وقد بدا ذلك في عصور متتابعة، فيوم أن تصدر العلماء لإرشاد الأمة ونصح الأمراء بالكتاب والسنة، يوم أن وصلت الأمة إلى مرحلة مشهودة من التمكين، وإذا نظرنا إلى محنة ضياع الأقصى وكيف عاد إلى دوحة الإسلام وحصن المسلمين، عرفنا مهمة القلة من العلماء الرواد الذين تعاونوا مع الأمراء الحكماء في معركة حطين التي انتصر فيها صلاح الدين الأيوبي عام 583 هـ، والتي لم تكن وليدة تراتيب إدارية وعسكرية فقط، بل تراتيب تربوية لنفوس الجيش والأمة، وليس على مستوى المرحلة الزمنية للمعركة بل على تطاول أجيال متعاقبة في عهود زنكي، ونور الدين، ثم صلاح الدين ..
فإن عددا من الدعاة والعلماء قد وقفوا مع هؤلاء الأبطال الثلاثة – زنكي، ونور الدين، وصلاح الدين – وكان على رأس هؤلاء المؤرخ بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن شداد ( ۵۳۹ ٦٣٢ هـ )، والفقيه ضياء الدين عيسى بن محمد الهكاري ( 585 هـ )، والمؤرخ المعروف عبدالله محمد الأصفهاني المعروف به العماد الكاتب، ( 519 – 597 هـ / ١١٢٥ – ۱۲۰۰ م )، الذي كان قلمه كما يصفه المؤرخون أشد وأنكي على الصليبيين من سيوف المجاهدين، إذ به جمع صلاح الدين عساكر المسلمين بأسلوبه البليغ المؤثر ألف بين قلوبهم وحبب الاستشهاد إلى نفوسهم.

ومثل وعي العلماء وفقههم بمتطلبات الحضارة، وإقرار شـؤون الدولة ومصالح العباد ورعايتهم جانبا مهما من علاقتهم بالأمراء ومدى تأثيرهم فيهم وسماعهم رأيهم، فقد أشار القاضي الفاضل على صلاح الدين بعد صلح الرملة 588 هـ بتأجيل الحج إلى سنة أخرى لأسباب عرضها عليه: مؤيدا إقناعه بفتوى دينية نصها: (أن الانقطاع لكشف مظالم الخلق أهم من كل ما يتقرب به إلى الله).

والمطالع لحقب التاريخ المتطاولة في حياة المسلمين يرى ريادة القلة والتكامل بينها كان له أبعد الأثر في نهضة الأمة، فالتكامل بين الساسة والدعاة في العصر المملوكي والعثماني كان له أثره البالغ في حضارة الأمة واستقرارها، كما لا يخفى على مطالع للتاريخ مدى التكامل بين أمراء المماليك والعلماء في مقاومة التتار، وإذا نظرنا إلى بلاد المغرب وبلاد الهند واستعرضنا مواقف العلماء والقلة الرائدة وأثرها بالأسماء والأرقام عرفنا مدى أثر الوعي بسنة القلة وريادتها في الشهود الحضاري. ووجود هذه القلة الرائدة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر الداعية إلى صراط الله المستقيم صـرورة مـن ضـرورات المنهج الإلهي ذاته: فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير، المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل، والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم.. عمل الخير أيسر من عمل الشر، والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة، والحق فيه أقوى من الباطل، والعدل فيه أنفع من الظلم.. فاعل الخير فيه يجد على الخيـر أعـوانـاً، وصانـع الـشـر فيه يجد مقاومة وخذلانا، ومن هنا قيمة هذا التجمع.

كيفية صناعة القلة الرائدة:
وإذا انتقلنا من التنظير إلى التطبيق، ومن ميدان الكلام إلى ميدان العمل، نستطيع أن نرصد في برمجة عملية وخطوات إجرائية كيفية صناعة القلة الرائدة التي ترود امتها إلى الشهود الحضاري وأستاذية العالم كما أراد الله تعالى حين أخبر: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾.

ويمكن أن نرصد بعض الخطوات العملية التي من شأنها أن تساعد في صناعة القلة الرائدة على النحو التالي:

أولا: إدراك أهمية هذه القلة، والقناعة العملية وليست الفكرية أو النظرية بمدى حاجة الأمة إلى ريادة حقيقية، إن لم على المستوى الرسمي من الحكومات والدول فلتكن على مستوى أصحاب الرأي والفكر والمعنيين بالهم الإسلامي العام، والمنشغلين به؛ فقد ثبت عمليا أن غياب الوعي وعدم الإدراك الحقيقي لمدى خطورة فراغ الأمة من قلة رائدة أثر تأثيرا مروعا في عدم بروز هذه القلة، وعدم العناية بها إذا برزت، وبدا ذلك بصورة ملحوظة في عدم تفرغ كفايات علمية لحمل ما خلقت من أجله من وعي يكون أساسا للسعي، ومن ثم توعية الأمة برسالتها ومهمتها حسب طبيعة كل مرحلة من المراحل التي تمر بها والمكان الذي تشغله، فما يصلح في وقت قد لا يصلح في وقت آخر، وما يتفع في زمان قد لا ينفع في زمان آخر، وما يفيد قوما قد لا يفيد منه آخرون، وقد حوت الشريعة الإسلامية من عوامل السعة والمرونة أثبت لدى البعيد قبل القريب صلاحيتها لكل زمان ومكان .
وهذه القناعة العملية الحقيقية ليست بالأمر السهل اليسير، بل تحتاج إلى توطين النفس واكتشاف نقطة البداية؛ لأن معرفة مدى حاجة الأمـة إلـى قـلـة رائدة لها أثر تربوي وفكري وعلمي يستطيع أن يؤثر ولا يتأثر ويجذب ولا ينجذب أمر مهم ومؤثر، واكتشاف نقطة البداية هذه له ما بعده من تكاليف ومشاق.. ولعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه، ولا عجب فإن كوارث التاريخ التي تحيد بالشعب عن طريقه ليست بشاذة.

ثانيا: إعداد قيادات المستقبل، في ضوء النظرة الاستشرافية العامة تنورنا بها قضية السنن بصفة خاصة فإن أوجـب الـواجـبات لـدارس السنن أن يفيد منها، ويفيد من تيارها ولا يصادمها، خاصة أن من خصائصها عدم التبدل أو التغير، فإذا وعينا ثباتها واطرادها فلنستفد منها على ضوء خصائصها وسماتها، وقد ثبت سننيا من خلال عرض هذه السنة في القلة والكثرة أن الريادة لكل أمر لا تكون لعامة الناس ولا لجمهور البشر، بل لفئة لها من الوعي ما يعينها على إحسان السعي، ولها من العلم ما ييسر لها إتقان العمل، وقد سبقنا الغرب في هذه الدراسات الاستشرافية والمستقبلية بصورة جعلته يستفيد من السنن، وإن لم يسندها إلى ربها ومجريها، لكن على عادة السنن أنها تعطي من يحسن التعامل معها دون تفريق بين مسلم وكافر، وتلك من خصائص السنن التي لا تتخلف، فرأينا الدراسات الرقمية والإحـصـائـيـة الـتـي تمـهـد لاتخاذ القرار الصحيح، وكثير من أعمالنا ارتجالي لحظي يمهد بدراسة ولا يبنى على معرفة متينة ومعلومة قوية، وهذا ما جعل أعمالنا تخضع إلى حد كبير لمفاجئات القدر، مع أننا أولى الناس بالوعي بالسنن، فكل شيء في ديننا « بحسبان »، وب « تقدير العزيز العليم » عبادة ومعاملة، وفرائض وسننا، وهناك تلازميات بين الفرائض والسنن ومواقعها في خريطة العمل الإسلامي .

والناظر في منهجية القرآن الكريم يجد أنه عنى بالنظرة المستقبلية حتى في العهد المكي الذي بدا فيه للناظر المتأمل معاناة المسلمين فيه، لكن القـرآن الـذي هـو كلمة الله الخاتمة للبشرية يهيئ الأمة المسلمة لتكون رائدة ميدان وفارسة مضمار، فهو منذ الـبـدايـة « يـوجـه أنـظـار المسلمين إلى الغد المأمول، والمستقبل المرتجى، ويبين لهم أن الفلك يتحرك، والعالم يتغير، والأحوال تتحول، فالمهزوم قد ينتصر، والمنتصر قد يهزم، والضعيف قد يقوى، والدوائر تدور، سـواء أكـان ذلـك علـى المـسـتـوى المحلي أم العالمي، وعلى المسلمين أن يهيئوا ويرتبوا بيتهم لما يتمخض عنه الغد القريب أو البعيد».
والمتأمل لسورة «القمر» مثلا ورصدها المركز لغزوة «بدر» يجد مدى عناية القرآن الكريم بالنظرة المستقبلية، وإرشادها المسلمين لما سيكون بعد سنين، فما بان معنى قوله تعالى: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر﴾، لعمر بن الخطاب وقت نزولها، وما فهمها إلا يوم «بدر» حين رأی رسول الله ﷺ يثب في الدرع ويتلوها.
والمتأمل لصدر سورة «الروم» في قوله تعالى: ﴿الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في ضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون﴾، المتأمل لذلك يجد مـدى حـرص الـقـرآن الـكـريم على توعية المسلمين بما يدور حولهم من أحداث، يترتب عليها كثير مما يخصهم، ويظهر منها أمران:
الأول: مدى وعي المجموعة المسلمة – على قلتها وضعفها المادي – بأحداث العالم الكبرى، وصراع العمالقة من حولها، وأثره عليها إيجابا وسلبا.
الثاني: تسجيل القرآن لهذه الأحداث، وتوجيه النظر إلى عوامل التغير، والانتقال من الواقع إلى المتوقع في ضوء السنن.


(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعتي الأزهر وقطر.

اترك تعليق