في وداع العلامة صلاح الخالدي… عالما عاملا وداعية ربانيا

بقلم: د. محمد همام سعيد ملحم

من أين أبدأ في وداع شيخنا العلامة الرباني شيخ المفسرين الدكتور صلاح الخالدي رحمه الله 

لا نقول في وداع شيخنا وأستاذنا العلامة الرباني شيخ المفسرين وإمامهم في هذا الزمان الشخ الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي إلا كما قال حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قبض ابنه إبراهيم: “لولا أنَّه وعد جامعٌ وسبيلٌ مأتِيٌّ، وأنَّ الآخر منَّا يلحق بالأوَّل لوجَدْنا غير الَّذي وجدْنا، وإنَّا بك” يَا شيخنا وأستاذنا يا معلم الناس الخير لَمَحْزُونُونَ، “تَدْمَعُ العين، وَيَجِدُ القلبُ، وَلَا نقول مَا يُسْخط الرَّبَّ عز وجل”.  

والله إن المصاب جلل وفقد الأمة لهذا العالم الرباني أدى إلى ثلمة في الإسلام لا يسدها أحد، فقد صح عن الحسن البصري أنه قال: “موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما طرد الليل والنهار” فكيف إذا كان هذا العالم الرباني هو شيخنا العلامة الدكتور صلاح الخالدي رحمه الله.

لا أدري من أين أبدأ حديثي عن شيخي وأستاذي ومعلمي فضيلة الشيخ العلامة الرباني الدكتور صلاح الخالدي هل أبدأ من سيرته في العناية بطلبة العلم واحتضانه لهم ولي مع شيخنا العلامة تجربة فريدة أذكرها لعله يقتدى بها من أهل العلم والدعوة، فقد كنت ممن احتضنهم فضيلة الشيخ في طلب العلم منذ الصغر وكنت وقتها لم أكمل الحادية عشرة من العمر حيث كان يعقد لنا درسا أسبوعيا في التفسير في مكتبة بيته العامر، وذلك عندما كان إماما لمسجد عبد الرحمن بن عوف، فقد بدأ معنا بتفسير الإمام النسفي حسب ما أذكر، وكان يعتني بأدق التفاصيل ابتداء باختيار طبعة الكتاب المناسبة ومرورا بطريقة كتابة التعليقات والفوائد على حاشية الكتاب، وكان هذا الدرس درسا خاصا لمجموعة من الطلبة ممن هم في سني أو يكبرونني بسنة أو سنتين، ثم بعد ذلك صار يعقد فضيلة شيخنا دروسا في التفسير لطلبة العلم الشرعي في المسجد وكنت حريصا على متابعتها بشغف شديد.   

حيث بدأ بدرس في تفسير الإمام ابن كثير ثم انتقل إلى تفسير الإمام الزمخشري ثم بعد فترة وجيزة بدأ بدرس التفسير التحليلي وكان يسميه رحمه الله رحمة واسعة بفقه التأويل، وبقي هذا الدرس مستمرا لعدة سنوات، وكان الشيخ رحمه الله يحرص على أخذ الحضور والغياب في بداية كل درس، وإذا تغيب الطالب ثلاث مرات دون عذر حرمه من حضور الدرس، وكان يقسِّم قراءة المتن على الطلبة بحيث لا ينفرد أي منهم بالقراءة أو المناقشة، ثم بعدما فُصل من إمامة مسجد عبد الرحمن بن عوف صارت الدروس تعقد في بيته المجاور للمسجد حيث رتب لطلبة العلم دورة علمية متكاملة في عدد من العلوم والفنون في التزكية والتفسير التحليلي والنحو وإعراب القرآن والعقيدة، وذلك كل يوم خميس حيث كنا نأتي إلى بيت شيخنا رحمه الله من بعد صلاة الفجر ونبقى إلى صلاة الظهر. 

ثم بعد ذلك ابتدأت المراكز القرآنية التابعة لجمعية المحافظة على القرآن الكريم بعقد الدورات الشرعية وكان فضيلة شيخنا على رأس العلماء الذين كانوا يبثون العلم في تلك الدورات، وقد تخرج على يد شيخنا العلامة الآلاف من طلبة العلم واستفاد من علمه أضعاف كثيرة لذلك العدد.  

أم أبدأ من سيرته في إمامة مسجد عبد الرحمن بن عوف في الحي الشرقي من مدينة صويلح فقد كان شيخنا العلامة الحبيب رحمه الله يملأ هذا المسجد علما ومحبة ودفئا وحنانا وخيرا وقربا من الناس ونفعا لهم، وقد كان نشيطا جدا في عقد الدروس العامة للناس فكان يعطي درسا في التفسير فجرا ثم يعطي عدة دروس بعد صلاة المغرب في الفقه والحديث والتزكية والسيرة والمناقب. 

أما في شهر رمضان فقد كان شيخنا رحمه الله أجود ما يكون في التدريس وحض الناس على العبادة وفعل الخيرات فيه، وكان يرتب برنامجا علميا وإيمانيا وعمليا لم أر له مثيلا في أي مسجد آخر حسب علمي حيث كان هنالك درس بعد كل صلاة بالإضافة إلى درس خاص قبل المغرب بنص ساعة كان يسميه شيخنا درس الأصيل كنت أحرص عليه جدا وأشعر فيه بمتعة لا تضاهيها متعة، هذا بالإضافة إلى أنه كان يقدم للناس خطة متكاملة للعبادة في شهر رمضان، وقد فقد المسجد روحه وبهاءه وحيويته وحلاوته ونشاطه العلمي بعد قرار منع الشيخ من الإمامة في مسجد عبد الرحمن بن عوف.

أم أتكلم عن آثار فضيلة شيخنا العلامة العلمية النافعة ومصنفاته الكثيرة النفيسة في التفسير والحديث والتزكية والعقيدة والدعوة والفكر والسيرة والمناقب، فشيخنا مجدد في التفسير قدم علم التفسير بلغة معاصرة، وهذب العديد من أمهات كتب التفسير بأسلوب عذب واضح سلس، وشيخنا مجدد في بيان قضايا الأمة والواقع من خلال التصور القرآني. 

والذي ينظر في مؤلفات شيخنا يجدها بشكل عام مصنفات تلامس الواقع وتعالج مشكلات الأمة وتتصدى للقضايا الكبرى من خلال المنهج القرآني، فنجده يتناول قضية الأمة المركزية قضية فلسطين بالدراسة وفق المنهج القرآني مع تجليته لحقيقة العدو وفكره ومناهجه من خلال القرآن، فقدم لنا كتاب الحقائق القرآنية حول القضية الفلسطينية وألحقه بكتاب شمولي منهجي حول وعود القرآن بالتمكين للإسلام، ثم فصل في بيان الشخصية اليهودية من خلال القرآن، وبين حديث القرآن حول التوراة، وتناول سفر التكوين بدراسة مقارنة في ميزان القرآن الكريم، وبين جذور الإرهاب اليهودي في أسفار العهد القديم ولم يفته أن ينبه الأمة الإسلامية إلى خطورة الإسرائيليات المعاصرة. همام

أما في مجال التفسير وعلوم القرآن فقد صنف العديد من المصنفات الموسعة في تفسير القرآن عموما فقد هذب وقرب تفسير شيخ المفسرين الإمام الطبري في سبعة مجلدات، ثم هذب وقرب تفسير الإمام ابن كثير، وحقق أخيرا تفسير الكشاف ووضع حاشية عليه فيها شرح واف وتقريب شاف لكلام الإمام الزمخشري، وقد شاركه في التحقيق ابنه الفاضل الدكتور حذيفة العالم اللغوي الجامع للقراءات حفظه الله، وقد قدم لنا فضيلة شيخنا دراسات متنوعة تجديدية شملت معظم حقول التفسير وعلوم القرآن فقد بين مفاتيح العلاقة مع القرآن في كتابين منهجيين أحدهما سماه هذا القرآن والآخر مفاتيح التعامل مع القرآن، وقدم تصويبات مهمة في فهم بعض الآيات القرآنية، واعتنى بمناهج التفسير وصنف فيها مصنفا شاملا سماه “تعريف الدراسين بمناهج المفسرين” ثم أفرد كلا من التفسير الموضوعي والتحليلي بجملة من المصنفات القيمة منها التفسير الموضوعي بين النظرية والتطبيق، وقام بتفسير موضوعي تحليلي معمق للقصص القرآني وقصص الأنبياء في القرآن. 

ومن دراساته الموضوعية التحليلية: 

التفسير والتأويل في القرآن، والأتباع والمتبوعين في القرآن، وعتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن، والأعلام الأعجمية في القرآن، ثم نجده يعيش مع الشهيد سيد قطب رحمه الله وتفسيره وكتبه وينافح عنه وعن منهجه فهو سيد قطب الثاني وهو الذي قدم للأمة فكر سيد وتفسيره فقد كتب عن سيرة سيد قطب كتابين وهما سيد قطب الشهيد الحي، وسيد قطب الأديب الناقد والداعية المجاهد، ثم درس النظرية التجديدية التي قدمها سيد قطب ألا وهي نظرية التصوير الفني، وجلى منهج التفسير التجديدي لدى سيد قطب في كتابه المنهج الحركي في ظلال القرآن، ثم قدم مدخلا منهجيا لكل من يريد الإفادة من تفسير الظلال في كتابه: 

مدخل إلى ظلال القرآن، ثم نافح عن سيد قطب في عدد من المؤلفات منها: في ظلال القرآن في الميزان، وقد انتصر للقرآن العظيم ورد على المطاعن والشبهات في جملة من المصنفات منها : القرآن ونقض مطاعن الرهبان، والانتصار للقرآن أمام افترءات متنبئ الأمريكان، ورد على تأويلات الرافضة الباطنية في كتاب: الكليني وتأويلاته الباطنية للآيات القرآنية في أصول الكافي، وصنف مصنفات في إعجاز القرآن ولطائفه منها إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرباني، ولطائف قرآنية، أما في مجال الفكر فقد قدم شيخنا للشباب المسلم كتابا في غاية الأهمية يحتاج إليه كل شاب من شباب الأمة بين فيه ثوابت المسلم المعاصر، ووضع للشاب المسلم خطة منهجية في طلب العلم والعمل وذلك في كتابه النفيس الخطة البراقة لذي النفس التواقة حري بكل شاب من شباب المسلمين أن يقرأه ويسير على خطاه.

وفي مجال الحض على الجهاد في سبيل الله قام بتهذيب أجمع كتاب في فضائل الجهاد وهو كتاب مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق للإمام المجاهد ابن النحاس رحمه الله وهذا الكتاب في أصله تهذيب لكتاب آخر جامع في فضائل الجهاد كتبه الإمام القاسم بن علي بن عساكر للملك الناصر صلاح الدين الأيوبي وقد قرأه في مجلس حضره صلاح الدين الأيوبي سنة 576ه ودعا في بدايته ونهايته بأن تفتح بيت المقدس وتقبل الله دعاءه. 

وأنا أدعو إلى تبني كتاب شيخنا هذا ونشره والإقبال عليه وبثه بين الناس لعله يكون سببا من أسباب بث روح الجهاد في الأمة، وسببا من أسباب النصر القريب بإذن الله، وفي ميدان الدعوة والسيرة والمناقب صنف كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ، والخلفاء الراشدون بين الإستخلاف والإستشهاد، وصور من جهاد الصحابة، وسيرة آدم عليه السلام، دراسة تحليلية، وفي مجال العقيدة والتزكية كتب: القبسات السنية من شرح العقيدة الطحاوية، وفي ظلال الإيمان، وله كتب ومصنفات نفيسة أخرى، نفعنا الله ونفع أمة الإسلام بعلم شيخنا العلامة رحمه الله وجعله نورا ورفعة له في الدرجات في أعلى درجات الجنان. 

أم أتكلم عن دوره في الدعوة وبث العلم والتربية فقد كان عالما ربانيا بحق داعيا إلى الله على بصيرة معلما ملهما، إذا رأيته وخالطته تشعر أنك مع علم من أعلام السلف الصالح، فقد كان المثال الحي على العالم الرباني، علم الناس كتاب الله عز وجل وفسره كاملا ثلاث أو أربع مرات في دروس الفجر، وكانت دروسه وكلماته تبعث الأمل والحياة في النفوس وتبث الهمة والحماسة في القلوب ويزداد معها الإيمان والثقة بنصر الله واليقين. 

أم نتكلم عن مواقفه فهو الشيخ الذي لم يغير ولم يبدل كان قوالا للحق وفي الحق ومع الحق لا يخشى في الله لومة لائم، لم تمنعه المضايقات ولم تثنه الابتلاءات حرم من الإمامة في مسجد عبد الرحمن بن عوف فصار إماما ومعلما للناس في كل مكان وأحيل إلى التقاعد من عمله في الجامعة فكون جامعة متنقلة يبث العلم في كل مكان ويصنف ويؤلف للأمة المصنفات العظيمة النفع. 

أم أتعرض لمبادراته العظيمة، فمن مبادراته المباركة مبادرته بالدعوة إلى إنشاء جمعية المحافظة على القرآن الكريم وقد أنشئت هذه الجمعية المباركة وانتشرت في كل مدينة وفي كثير من أحياء الأردن أرض الحشد والرباط، وكان شيخنا العلامة أول رئيس لها لكنه بعد تأسيسها واستقرارها آثر ترك هذا المنصب ليستلمه بعده سماحة الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني رحمه الله، فقد كان الشيخ رحمه الله رائد فكرة إنشاء الجيل القرآني ونشر التعليم القرآني في ربوع أردن الحشد والرباط. 

أم أتكلم عن زهده وتواضعه وعبادته ومجاهدته لنفسه وصبره وإعراضه عن المناصب والمكاسب الدنيوية ولين جانبه ودماثة أخلاقه وطيب معشره، فهذا والله يحتاج إلى كتاب كبير، لكن سأقتصر على إيراد فحوى رسالة صوتية قدم فيها نصيحة لمجموعة من الدعاة وطلبة العلم قبل شهرين تقريبا قال فيها بأنه ينهي ورده من القرآن قبل الفجر وبين الأذان والإقامة لصلاة الفجر ونصح باستغلال هذا الوقت، ولك أن تتصور بعد ذلك كيف كان فضيلة شيخنا يمضي ليله ونهاره في طاعة ربه عز وجل. شهود لوجو

شيخنا العلامة الدكتور صلاح الخالدي كان قرآنا يسير على الأرض، وكان خلقه القرآن مقتديا بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ينطلق من القرآن في كل شيء ويرجع إلى القرآن في كل شيء، عاش حياته مع القرآن وبالقرآن، فكان بحق عالم القرآن في هذا الزمان. 

اللهُمَّ، اغْفِرْ لفضيلة شيخنا وأستاذنا العلامة المربي الدكتور صلاح الخالدي وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، اللهم بارك فيه وصل عليه، وأورده حوض رسولك صلى الله عليه وسلم، اللهم وَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، اللهم وأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، اللهم وارزقه الفردوس الأعلى من الْجَنَّةَ، اللهم أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ونجه مِنْ عَذَابِ النَّارِ، اللَّهُمَّ َلَقِّه مِنْكَ رِضْوَانًا. 

اللَّهُمَّ تقبل منه جهاده وصبره وبثه للعلم وعمله وزهده ووخدمته لكتابك العظيم وسنة نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم اللهم ألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ألئك رفيقا، اللهم وَأَلْحِقْهُ بِنَبِيِّهِ المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، أعظم أجره وأتمم نوره وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ أَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ. اللهم تقبله في الشهداء والصديقين. اللهم أعنا على السير على طريقه ودربه. 

 

اترك تعليق

  1. يقول أ د أمين محمد سلاّم المناسيه البطوش العمرو:

    رحمه الله وغفر له وأسكنه الجنة