قوى الإحياء في الأمة وتحدي الاستئناف الحضاري – دراسة

دراسة بقلم أ.د. حسين محمد القزاز(*)

 

ملخص استهلالي

تقترح هذه المداخلة أن قوى الإحياء الإسلامي في الأمة مطالبة بتغيير أساسي في مقاربتها للتحديات الحضارية التي تواجهها الأمة.

إذ كان الخيار الذي يمكن اعتباره الخيار الاستراتيجي الحاكم لفكر وحركة قوى الإحياء الرئيسة في الأمة خلال العقود الماضية هو مقاومة الزحف الحضاري على هوية الأمة ودينها ومسيرتها الحضارية عبر مقاربة اعتمدت بالأساس على تثبيت الأمة، وخاصة شرائحها الوسطى وقواها الشابة، تثبيتها على ثوابت دينها وهويتها، وإبطاء زحف المشروع الحضاري المغاير وتغوله على مقدرات الحياة في بلاد المسلمين فكراً وقيماً وبنى اجتماعية وسياسية واقتصادية وأنماطَ حياةٍ وممارساتٍ يوميةً.

لم تختر القوى الفاعلة إذن أن تواجه هذا المشروع من خلال تحديه المباشر والإصرار على تأسيس مقدرات حياة على نماذج إسلامية خالصة، وإنما اختارت أن تعمل تحت سقف تلك البنى الحضارية الوافدة، وتمارس دورها المقاوم والإحيائي من ذلك الموقع.

نقترح هنا أن قوى الإحياء الإسلامي تحتاج أن تراجع تلك المقاربة بشكل جذري، وتتحرك منها إلى مقاربة تتبنى الإصرار على تأسيس حالة حضارية جديدة في أمتنا وعالمنا مستندة إلى نماذج إسلامية خالصة.

منهجيات نظر وتحليل

تتطلب معالجة الأسئلة الكبرى من نوع تحديات الاستئناف الحضاري اللجوء لمفاهيم ونماذج تحليلية تكافئ في تركيبها ومستويات تجريدها الظاهرة محل النقاش.

ونقترح لأغراض هذه المداخلة الاتكاء على مفاهيم ونماذج تحليلية متعلقة بالوضعيات والنماذج الحضارية.

ونعرف هنا “النماذج الحضارية” بــاعتبارها مجموعات من الأفكار والقيم والمشاعر والمنطلقات ذات الطبيعة الجذرية الحاكمة التي تنعكس في جوانب الحياة الأساسية لأي مجتمع إنساني.

تنطلق النماذج الحضارية وتتشكل أساساً بمعلومية ثوابت عقدية وقيمية وفكرية يتبناها أي مجتمع، وتعكس الطرق والمداخل الفريدة التي يقارب بها أبناء ذلك المجتمع سياقاتهم المعقدة. يمكن النظر للنماذج الحضارية إذن في رحاب هذا التصور بأنها مساحة وسيطة بين الثوابت العقدية وبين تجليات الحياة الإنسانية في أبعادها المختلفة: مساحة وسيطة تلعب فيها إدراكات الناس لملامح تلك السياقات المعقدة المتغيرة المتنوعة التي يعيشونها أدواراً مهمة في تفسيرهم لتلك الثوابت العقدية وتمثلهم لها. إذن هي مساحة وسيطة ديناميكية، يشكلها تفاعل الثابت العقدي مع المتغير السياقي المدرك.

تفيدنا معرفة هذه النماذج الحضارية في فهم قواسم مشتركة وفروق مهمة بين المجتمعات الإنسانية.

كما أنها تعيننا في فهم وتفسير التطورات التي تطرأ على حياة الناس والمجتمعات عبر الزمن.

فالحياة في أي بلد لا تتطور ولا تتشكل ولا تتحرك بشكل عشوائي، بل تتطور وتتشكل وتتحرك اتساقاً مع مثل هذه الأفكار والنماذج المعرفية والقيم الحاكمة والمشاعر والاتجاهات النفسية الجمعية. إن جهلنا تلك المنطلقات، قد تفاجئنا التطورات والتغيرات.

أما “الوضعيات الحضارية” فهي تلك الحالات المركبة التي تتشكل وتتطور من تفاعلات تخص كل جانب من جوانب الحياة الأساسية لأي مجتمع، كما تخص تداخل تلك الجوانب وعلاقاتها المتداخلة المتشكلة والمتأثرة بشكل أساسي بالنماذج الحضارية السائدة في لحظة ما من حياة ذلك المجتمع.

هكذا تشير الوضعيات الحضارية إلى ملامح وتطورات متعلقة بكل من الجوانب الأساسية الآتية:

مجالات ومستويات المعرفة الإنسانية، ومنظومات الإمكانات والإستخدامات المرتبطة بها.
الثقافة وطرق التفكير والإتجاهات الجماعية.
هياكل السلطة والنفوذ وتأطير مسارات حركة المجتمعات، والنظم السياسية، الإقتصادية، التقنية والإدارية.
الوظائف المجتمعية والأنظمة الوسيطة (تعليم وصحة وأمن وقضاء إلخ).
التشكيلات المجتمعية الأساسية (أسر وعائلات وقبائل وأحياء وروابط مجتمعية إلخ).
الأوضاع والموارد المادية، وأوضاع المكان وإملاءاته وترتيبات الحياة الأساسية بمعلوميته.
العلاقات الأساسية لتلك الجماعة الإنسانية بالمحيط الإنساني الأوسع.

كلها تتشكل وتتفاعل وتتطور كما أسلفنا في فضاءات تؤسسها وترشدها نماذج حضارية يتشابك فيها الثابت العقدي مع المتغير السياقي.

خذ مثلاً تلك المساحة الحرجة المتعلقة بالمعرفة الإنسانية في أي مجتمع/ طبيعتها ومصادرها ومنطلقاتها ومناهج اكتسابها وفحصها وتركيمها، والبنى المؤسسية المرتبطة بإنتاجها وتوظيفها في المجتمع ومنظومات الإمكانات التقنية والأداتية التي تتطور في رحابها. تلك المعرفة التي يتكئ عليها المجتمع في البحث عن إجابات لما يواجه الناس من أسئلة وإشكالات ومعضلات في مساحات حركتهم الأساسية كلها: طبيعية واجتماعية/ مادية وروحية/ فردية وجماعية/ منتظمة وطارئة إلخ.

جانب من حضور المؤتمر السادس لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة – اسطنبول ديسمبر 2022م

إن أردت أن تعرف الملامح والاتجاهات الأساسية للمعرفة التي يتكئ عليها أي مجتمع فعليك أن تدرك الجذور التي تنطلق منها: ما يسمى بفلسفة المعرفة، كما أن عليك أن تلم بمفاتيح عمليات التشكل والتكيف والتغير التي تتطور بها تلك الفلسفة.

فنجد مثلاً أن الغرب بحضارته المعاصرة يعزل وحي السماء عن المعارف المقبول لها أن تحكم حياة المجتمعات. فالمعرفة العلمية عندهم هي ما يمكن قياسه بالحواس أو بامتدادات الحواس ثم يعمل عليه العقل البشري لاستخراج قوانينه وفهم محددات حركته. ما يخرج عن ذلك لا يمثل معرفة علمية. نجد أيضاً أن تلك الفلسفة الحسية التجريبية الرشدية تتطور عبر مراحل مسيرة التجربة الحضارية الغربية المعاصرة، فتتحرك من ساحات الحداثة بانحيازاتها إلى ساحات ما بعد الحداثة بتطرفها.

الدين إذن وما يتعلق به مستبعد من تشكيل ما يصنفه أبناء هذه الحضارة على أنه معرفة علمية، إذ الدين نوع من الخبرات الذاتية التي لا تخضع للقياس بالحواس وامتداداتها، ولا يقع تحت منطق الرشد المادي الصارم بمدارسه. مكانة الدين إذن في خريطة المعرفة الإنسانية المنوطة بتوجيه حياة الناس شبيهة عندهم بمكانة مثيلاته من الخبرات الذاتية كالسحر والخرافة والرياضات الروحية والرؤى والإلهامات الذاتية إلخ. لا تجد بالتالي مكاناً لوحي السماء في المنطلقات والنماذج والنظريات والأدوات السائدة في علم النفس ولا في علم الاجتماع ولا في الاقتصاد والإدارة إلخ.

وما ينطبق على المعرفة ينطبق على المفردات الحضارية الأخرى.

مثلاً: في مساحة النظم الكلية: سياسية واقتصادية وإدارية وتقنية/ هل نعيش في ظل أنظمة تتبنى أفكاراً تأسيسية من نوع  أن الحكمة والقدرة على صنع القرار وتوجيه المال والوعي يكون من قبل قلة واعية محتكرة، وأن الأسس التي تبنى عليها تلك النظم تتعلق أساساً بالمصالح المادية الذاتية لمكونات المجتمعات، أم نعيش مثلاً في ظل أنظمة تتبنى أفكاراً من نوع أن الشأن العام هو شأن الناس جميعا، وأن إقامة الدين هو الواجب السياسي الأول (إقامة الأمر بما يصلحه)، وأنه تكليف للأمة لا لنخب محتكرة؟

في مساحة أوضاع المكان والسكان: هل نعيش في صحبة أنماط عمران مكاني تقيم بيننا مفهوم الجيرة بأن تعطي كلاً منا مكانته في حياة جاره وأخيه وتعينه على أداء ما لتلك الجيرة من حقوق وواجبات؟ وهل هي أنماط تحيي عندنا روابط الأحياء والمناطق وتعيننا على التعاضد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة للخير في تلك الأحياء والمناطق (كالأنماط التي سادت في مراحل سابقة من تطور التجربة الحضارية الإسلامية؟)  هل البيوت التي نسكن فيها اليوم هي انعكاس لفلسفة حياة لناس يعيشون متجاورين متعاونيين حريصين على سلامة وصلاح المكان الذي يتشاركونه، أم انعكاس لفلسفة قائمة على نظرة فردانية انعزالية مستوحشة؟

إن ما أسميناه هنا النموذج الحضاري هو ما يكمن وراء هذه البنية الحضارية بمكوناتها المتداخلة.

هو الذي يُعَرِّفُ لها منطلقاتها ويحدد الملامح الأعمق للفضاءات التي تتشكل فيها وتتطور بمعلوميتها.

وهو الذي نستطيع أن نرى تجلياته في ثلاثة مستويات:

1- الإنسان الفرد: ميوله واهتماته الأساسية وانحيازاته ودوائر تركيزه وملامح فكره واتجاهات حركته.
2- البنى المجتمعية بأنواعها ومستوياتها: هيكلية رسمية كلية/ تشكيلات مجتمعية/ أنظمة وسيطة/ أبنية ثقافية عامة وجزئية/ إلخ.
3- أوجه سلوك وأنماط حياة وقرارات فردية وجماعية يوجه بها الناس موارد مجتمعاتهم ويحددون كيفيات إنفاق أوقاتهم وأموالهم.

 

تكمن أهمية وخطورة النماذج الحضارية في أن الناس في أي مجتمع ينطلقون منها ولا يسائلونها. كما لو كان الإنسان والمجتمع يتحرك بقوة الدفع الذاتي دون أن يفكر فيما يحركه.

هكذا تجد نفسك وأنت تعيش تحت مظلة نموذج حضاري معين وقد أصبح هدفك من الحياة أن تتفوق وحدك وتستمتع بمفردك. أو تجد نفسك تمارس في حياتك اليومية حالة من الانعزال أو الاستعلاء لا تلقي لها بالاً. كل ذلك هو في الحقيقة انعكاس لمكنون نموذج حضاري مؤسس على مرتكزات من الفردانية والنفعية المادية والنخبوية المستعلية.

الوضعيات والنماذج الحضارية السائدة في بلادنا اليوم

يمكن القول إن الوضعية الحضارية في بلادنا هي نتاج تفاعل تجربتين حضاريتين:

الأولى: التجربة الحضارية الإسلامية الأصيلة في بلادنا والتي أصابها الوهن بعد عشرة قرون من الازدهار. أصابها تفريط في مراحل مختلفة من مسيرتها الطويلة في مقومات أساسية من مقومات تماسك أي تجربة حضارية إسلامية/ كما ميزها حرص على مقومات أخرى من مقومات التماسك والاستمرار والحيوية تلك.
والثانية: التجربة الحضارية التي بنيت على نموذج حضاري علماني بالأساس: تجربة حضارية صاعدة تشكلت ملامحها الأساسية في معية تطورات تاريخية لا مجال للخوض فيها هنا، ثم تقدمت وصعدت وأخذ أهلها بأسباب البناء والتماسك والهيمنة والصعود بمعلومية معطيات ذلك النموذج الحضاري الذي تبنته.

التقت التجربتان على أرضية مشروع استعماري (استخرابي) شرس (لا في ساحات تجارة أو علم أو سياحة).

واجهت الأمة هذا المشروع الاستعماري بمزيج من المقاومة والاستيعاب والتحديث/ في عمليات وتطورات تاريخية مركبة ليس هنا مجال الإفاضة فيها. يكفي فقط تقرير أن الحالة الحضارية الراهنة لأمتنا، والتي تمخضت عن هذه العمليات المركبة، هي في جوهرها حالة أمة مستعمَرة: أمة واقعة تحت هيمنة مشروع استعماري هو (كأي منظومة تحكم وسيطرة نشطة) في حالة تطور مستمر: ينتقل من مرحلة إلى مرحلة ومن شكل إلى شكل ومن منهج إلى منهج ومن إنجازات إلى إنجازات ومن مرتكزات هيمنة إلى مرتكزات أخرى.

من المهم أيضاً الانتباه إلى أن النماذج الحضارية العلمانية التي ترتكز عليها الحضارة الغربية ويتغذى منها ذلك الزحف الاستعماري، لم تفلح في إزاحة النماذج الحضارية المتجذرة في أمتنا، رغم التراجع الحضاري. من الدقيق إذن أن نقول إن الوضعية الحضارية في بلادنا هي وضعية مزدوجة ملتبسة، يتدافع فيها نوعان من النماذج الحضارية متناقضان في جذورهما العقدية وحمولاتهما الفلسفية. بقدر قليل من التأمل الفكري والملاحظة الواقعية ندرك أن هذا واقع مربك أبعد ما يكون عن أن يوفر للأمة سلاماً أو استقراراً أو نماءً.

لسنا إذن شعوباً متحررة كما يحب بعضنا أن يفكر أحياناً.

وقد يسعفنا في تقرير هذا الأمر الجلل أن نتفق على معيار نحتكم إليه:

معيار مفاده أن الإنسان/ والشعب الحر المستقل هو الذي يفرض نموذجه الحضاري الخاص به في جوانب حياته المختلفة.

هكذا: عندما يفرض على الإنسان في بلادنا أن يعيش حياة يهيمن عليها النموذج الحضاري الذي يفرضه مشروع استعماري ويزاحم بتلك الهيمنة المرتكزات الإسلامية التي تتعرف بها هوية الأمة وإنسانها المسلم، لا يمكن أن يكون هذا إنساناً حراً.

المشروع الاستعماري بالمناسبة مشروع واعٍ جدا (منذ اليوم الأول) للأبعاد الحضارية لتلك المواجهة التي يخوضها مع شعوبنا. ولمن أحب أن يراجع هذا الأمر أن يعود إلى تراث الاستشراق المصاحب للمشروع الاستعماري من بداياته.

ندافع اليوم إذن في ظل هذه الحركة الإستعمارية المتحركة، ندافع هيمنة نموذج علماني حثيث الجهد في نقض عرى النموذج الإسلامي الأصيل في بلادنا، وتفكيك ما تبقى من منطلقاته وقيمه وبنيته وتجلياته في جوانب الحياة كلها.

خيارات قوى الإحياء الإسلامي

كيف كان الخيار الحاكم (صريحاً أو ضمنياً) لحركة التيارات الأساسية في القوى الفاعلة في الأمة إزاء هذه الوضعية الحضارية، خصوصاً في العقود القليلة السابقة على تفجر الثورات العربية؟

اختارت تلك القوى الفاعلة العمل تحت مظلة هذا النموذج العلماني الزاحف/ مع محاولة تثبيت الأمة على دينها في مساحات الحركة الممكنة (المعتقدات والقيم الأساسية/ السلوك الفردي والاجتماعي الأساسي/ التذكير بالقضايا الكبرى والرابطة الأممية، إلخ).

هذه نقطة مفصلية تحتاج وضوحاً وصراحة مع النفس.

بمعنى: علينا تقرير أن تلك التيارات الأساسية، وفي القلب منها الحركة الإسلامية بمدارسها، لم تَتَحَدَ بنية المعرفة ولا بنية الثقافة ولا فلسفة وهياكل التعليم ولا أنماط العمران ولا فلسفة وبنية الدول القائمة ولا الأنظمة الاقتصادية والإدارية والتقنية إلخ التي فرضها المشروع الاستعماري: لم تسع لأن تقدم بديلاً حضارياً إسلامياً مستقلاً مغايراً لهذه الفلسفة وتلك البنية المفروضة على الأمة من مستعمريها.

بل سعت في الأساس لمحاولة إبطاء زحف تلك الفلسفة والبنية وتخفيف آثار ذلك الزحف على هوية الأمة وعلى تمسك أهلها بمعتقداتهم وقيمهم الأساسية وأنماط تفكيرهم وسلوكهم/ في كل المساحات التي تسنى لها العمل فيها.

ظهر هذا السعي في تلك المسارات والحلول الجزئية التي نشطت الحركة الإسلامية في تقديمها، بمعلومية وفي رحاب الفلسفة والبنية التي فرضها المشروع الاستعماري والنموذج الحضاري الذي استند إليه (مدارس إسلامية تعمل تحت مظلة أنظمة التعليم الرسمي بنفس فلسفتها ومناهجها الدراسية وهيكلتها ولكنها تقدم جرعات مختلفة من المواد الدينية وتتبنى مستهدفات تربوية منحازة للقيم والممارسات الدينية/ مصارف إسلامية تقدم معاملات لاربوية للحريصين على تجنب الربا في تعاملاتهم الشخصية تعمل في إطار منظومات اقتصادية ومالية رأسمالية صرفة لا علاقة لها بفلسفة ومستهدفات وأحكام المال في الإسلام/ أحزاب وتكتلات سياسية تضم القوى ذات المشارب الإسلامية تعمل تحت سقف سياسي تحدده فلسفة وبنية الدول المستبدة التي تؤدي أدواراً متبادلة متكاملة مع القوى الإستعمارية الخارجية، إلخ).

كان هذا نوعاً من التكيف والخيار الإستراتيجي الذي حكمته في تقديرنا ثلاث مجموعات من العوامل الأساسية:

1- عوامل متعلقة بمستوى التهديد الذي يسببه النموذج الحضاري الزاحف على الأمة ودينها وهويتها/ كما تدركه تلك القوى الفاعلة وتخبره على الأرض.
2- عوامل متعلقة بمنابع وأحجام الطاقة اللازمة للدخول في مثل هذه المواجهات الحضارية والمطلوبة لتأسيس نموذج حضاري إسلامي مستقل تنطلق في رحابه تجربة حضارية إسلامية جديدة.
3- عوامل متعلقة بموازين القوى بين الأمة وقواها الفاعلة من ناحية والمشروع الاستعماري بمراكزه وأطرافه من ناحية أخرى.

باختصار، كان تقدير التيارات الأساسية في القوى الفاعلة في الأمة على امتداد العقود الماضية لتلك المجموعات الثلاثة من العوامل أنها تقود إلى خيار إستراتيجي يعمل على إبطاء النموذج العلماني الزاحف ولكن لا يتحداه بشكل مباشر.

فالتقدير كان أن التهديد ليس واصلاً إلى حد النقض أو المساس الخطير بأساسيات الدين والهوية وهيمنة الدين على الحياة العامة (صحوات إسلامية عفية وخطاب إسلامي مسموع واتساع مضطرد في أحجام وتأثير الحركات الإسلامية وحدود دنيا من القيم والسلوك الإسلامي محفوظة في سلوك الأفراد والأسر في شرائح وسطى عريضة إلخ).

كما كان التقدير أن تلك الحالة الإسلامية تعيش وتنشط على خلفية من حالة عامة من الغياب أو الغفلة أو الاستقالة من الحياة العامة لجموع الناس في الأمة. الطاقة الحاضرة إذن هي طاقة حركات ومجموعات وتيارات على أحسن تقدير وليست طاقة أمة.

أما موازين القوى فالخلل فيها لا تخطئه عين.

آن أوان تبني خيار مختلف

اللحظة الفارقة التي تعيشها الأمة الآن تدعونا لموقف مختلف.

فالتهديد تطور وزحف وبات يهدد أساسيات التدين والهوية ويهدد معها بمصادرة كاملة للحالة الإسلامية الشعبية التي ارتكزت عليها تلك المسارات والحلول الجزئية التي انتهجتها الحركات الإسلامية في سعيها لإبطاء الزحف العلماني.

(ولا ينبغي أن يغيب عنا أن هذا التهديد المتطور هو مصاحب ومواكب للتطور في التجربة الحضارية الغربية المرتكزة على ذلك النموذج العلماني/ في تجلياته المعاصرة/ في مراكزها وأطرافها).

والثورات العربية في موجاتها المتلاحقة/ وحالات التدافع والاضطراب والتحول والترقب التي تعيشها الأمة والعالم/ تشهد على منابع ومستويات للطاقة الراغبة والقادرة على إحداث تغييرات كبرى/ بأشكال ودرجات غير مسبوقة.

أما الاختلال في موازين القوى فقائم دون شك.

 سؤال مختلف وإجابات جديدة

هكذا نرى أن السؤال الذي نناقشه اليوم يؤول من سؤال عن:

هل آن أوان أن تستأنف الأمة مسيرتها الحضارية بأن تؤسس نموذجها الحضاري على مرجعيتها الدينية الخالصة؟”

إلى سؤال عن:

كيف يمكن استئناف تلك المسيرة (أو بالأدق بدء مسيرة جديدة) وبناء نموذج حضاري إسلامي يحكم حياة الأمة، بالاستفادة من طاقة التغيير الهائلة، وبما يتعامل مع الضعف المتراكم والخلل الخطير في موازين القوى الحضارية؟” .. ولا شك أن هذا تحدٍ هائل.

وهو في تقديرنا التحدي الجوهري الأساسي الذي تتحدد بناء على الإجابات التي تقدمها القوى الحية في الأمة عليه، تتحدد مواقعها وأدوارها في خدمة أمتها وإقامة دينها في هذه اللحظة الفارقة.

وهو تحد يتطلب عطاءات فكرية وحركية وعملية عميقة وعديدة، وحوارات وتجارب وممارسات متنوعة.

نختم هذه المداخلة بمحاولة الاشتباك مع هذا التحدي الكبير عبر تقديم أفكار أولية عامة عن السؤال المتعلق بكيفية السعي لإطلاق تلك المسيرة الحضارية.

 

أربع زوايا مقترحة للنظر

نقترح زوايا أربعة يمكن أن ندير حواراً بشأنها نستطلع به آفاقاً ممكنة لإطلاق تجربة حضارية إسلامية جديدة تتبنى وتستصحب نموذجاً حضارياً إسلامياً مستقلاً:

الزاوية الأولى: محركات التاريخ الأجدر بالتركيز في لحظات التحولات التاريخية الفاصلة

كيف تنهض الأمم وتبنى الحضارات؟

جانب من المشاركين والمحاضرين

دعنا نتذكر أن الأمم تنهض بعد ضعف وتقوى بعد انكسار (والعكس). ودعنا بالتالي نفكر في المحركات الكبرى التي تعين في هذا النهوض ونحاول استصحاب تجلياتها المعاصرة، ثم دعنا نجتهد في التساؤل عن مساحات السعي المتاحة لنا في رحابها. لعلنا بذلك نتقدم خطوة مهمة في اتجاه كسر ذلك الحاجز الذهني النفسي الذي يعيق كثيرين منا عن طرح سؤال الانبعاث الحضاري الإسلامي أصلاً. عندما نراجع سنن التبدل ومكنات البناء الحضاري، ونتأمل مكاننا من هذه السنن وأنصبتنا من تلك الممكنات، نطرح على أنفسنا السؤال:

ألا نستطيع إذن:وألا يجدر بنا: أن نتتبع سنن هذه العوامل والمكنات والمحركات للتاريخ الإنساني ولنهوض الأمم ونأخذ بأسبابها؟

الزاوية الثانية: الوعي باللحظة/ ومكانتها ومُكْنَاتِها

الحياة الإنسانية في حالة مستمرة من التشكل والتغير، ومسيرات التجارب الحضارية الإنسانية تمر عبر دورات حياة يمكن تتبع بعض ملامحها العامة، وإن اختلفت تضاريسها وتفاصيلها وأحداثها الفارقة وتتابعها وانقطاعها وانتظامها وطفراتها اختلافات بنية بين التجارب الحضارية المختلفة، وحتى داخل التجارب الممتدة زمناً والمتسعة مكاناً بين مراحلها وأجزائها.

الأمر الذي لا تختلف فيه تلك التجارب على تنوعها هو أن كلاً منها هو بمثابة رحلة في التاريخ تمر بمحطات متنوعة تتطور عبرها الحياة الإنسانية وتتغير وتتبدل أحوالها.

هكذا من المهم جداً لنا أن نميز طبيعة وخصائص المحطة التي نمر بها الآن: ملامح وفرص وإملاءات وإمكانات المرحلة الحضارية التي تعيشها أمتنا.

وهي كما هو بادٍ لحظة مخاض حضاري صعب، واجب الوقت فيها هو العمل على استكمال شروط عبورها وعبورنا معها لذلك الانطلاق المنشود.

ألا نستطيع إذن: وألا يجدر بنا: أن نفقه طبيعة تلك اللحظة وأولوياتها، ونسعى جادين لإعلاء تلك الأولويات واستيفاء الوسع في تحقيق مقتضياتها؟

الزاوية الثالثة: واجبات أوقات على مستوى قطاعات الحياة/ المكونات الرئيسة للبنية الحضارية

لئن اهتمت الزاويتان السابق ذكرهما بمحركات تاريخ يمكن أن تدفع حركة الأمة كلها للأمام، وبمقتضيات لحظة علينا أن نراعي أولوياتها في حركتنا كلها، فإن هذه الزاوية الثالثة تُنَزِّلُ تلك الأفكار والمقتضيات على ساحات القطاعات الأساسية لحياة الأمم والشعوب. فالتركيز هنا هو على سؤال: كيف يمكن أن تنهض الأمة في رحاب مشروع إحياء إسلامي في كل من مساحات الحياة الأساسية: معرفة وثقافة وتشكيلات مجتمعية أساسية وأنظمة سياسية واقتصادية وإدارية كلية وأنظمة وسيطة من تعليم وصحة وقضاء وأمن وغيره وعلاقة للناس بالمكان الذي يعيشون فيه إعماراً وصيانة وتطويراً.

ألا نستطيع إذن:وألا يجدر بنا: أن يعمل كل منا بتركيز في الجانب الوظيفي الذي يتقنه، وفي قطاعات الحياة الأساسية التي يستطيع العطاء فيها، على تقديم فكر ونماذج وممارسات إسلامية مفارقة في فلسفتها وبنيتها لتلك النماذج العلمانية والممارسات الملتبسة التي تسود مساحات الحياة اليوم؟

الزاوية الرابعة: استشراف مسارات أحداث كبرى وتطورات حياة حثيثة وتدافع هائل/ تحف بالتحولات المستهدفة وتتشكل معها

لن تنطلق تلك المسيرة الحضارية الجديدة في فراغ أو تنزل على أرض ساكنة.

على العكس تماماً، الأمة تعيش حالات وأنواعاً ودرجات من التدافع الشديد، والإنسانية كلها معها.

ومن ثم فعلى القائمين على مشروع للانبعاث الحضاري للأمة في هذه الظروف أن يهيؤوا أنفسهم للتعامل مع أوجه التدافع تلك. عليهم أولاً أن يدركوها ويعوا أبعادها ومحركاتها ودينامياتها وتداخلاتها وآثارها، ثم عليهم أن يحددوا مواقفهم منها ومدى وطبيعة تداخل المشروع الجديد معها.

وينبهنا كثير من المخلصين إلى أوجه تدافع أصبحت واضحة للعيان، ونسمع كثيراً عن أهمية إعمال الفكر الإستراتيجي الثاقب لإدراك أبعادها، وتشعر دوماً بآمال هؤلاء وأولئك أن يسفر ذلك الوعي الإستراتيجي عن نجاحات واختراقات يمكن لنا أن نحدثها في رحاب هذا التدافع المعقد الكبير.

إلا أن المحدد الأكبر لمثل هذا الاختراق المأمول هو ذلك الغائب الحاضر عن معظم تلك الجهود والآمال: هو الانتباه للأبعاد والمقتضيات الحضارية في مثل تلك المواجهات.

ألا نستطيع إذن: وألا يجدر بنا: أن نشحذ الهمم ونرتقي بالوعي ونبني على الطاقات الهائلة في أمتنا لخوض تلك التدافعات بحقها؟

ختاماً .. نأمل أن يكون طرح أفكار على هذه المستويات ونقاشها في الساحات الفكرية والعملية واحداً من مدخلات كثيرة مطلوبة في مقاربة هذه التحديات الحضارية الكبرى التي تواجهها أمتنا والاستفادة من فرصها السانحة.


(*) أكاديمي مصري، ومهتم بالفكر والنهضة والانبعاث الحضاري للأمة، وأستاذ السلوك التنظيمي وإدارة الأعمال بجامعة الإسكندرية سابقا، والدراسة كتبها سيادته وألقاها في المؤتمر السادس لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة المنعقد باسطنبول في الفترة 11-13 ديسمبر 2022م. 

اترك تعليق