قيادة صلاح الدين الأيوبي وأهمية الاستلهام منها لهذا العصر

بقلم د. هادي علي(*)

   

  قليلون أولئك القادة العظام في التاريخ القديم والحديث، الذين يكونون موضع الاعجاب والاحترام لدى الأصدقاء والأعداء في آن واحد، وعلى مستوى عالٍ جدا من الوعي والسعي مثل شخصية القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي يعترف أعداؤه قبل أنصاره ومحبيه بقيادته النموذجية، ودوره في توجيه مسارات الأحداث التي مرت بها الأمة الإسلامية في عهده في مواجهة غزو خارجي استهدف وجودها ومستقبلها..

  ومن جانب أخر فإن شخصية هذا القائد العظيم ليست مجرد حدث وقع في الماضي وكفى، بل لنا أن نقول إنه يمثل ظاهرة حية  وضرورية لسبل نهوض الأمة وبلوغها قمة الانتصار بعد حالة الانحطاط والانكسار التى دامت  لعقود من السنين، بحيث جعلتها فريسة سهلة في أيدي اعدائها..

سياقات ظهور صلاح الدين

  لقد ظهر القائد صلاح الدين الأيوبي في منطقة الشام ومصر التي تمثل قلب المنطقة العربية على مرّ الزمان، في مرحلة تاريخية حساسة ومعقدة ومشابهة كثيرا للظروف والأوضاع التي تمرّ بها المنطقة في هذا العصر.

  لذالك فإن محاولة فهم هذه القيادة وكيفية ظهورها على مسرح الأحداث في تلك المرحلة مسألة ضرورية ومفيدة لفهم طبيعة هذا العصر وكيفية مواجهة التحديات والتعامل  مع قضاياها..

  إن شخصية هذا القائد ما كان حدثا منفردا حدث فجأة واستطاع أن يلعب هذا الدور التاريخي المشهود له بالعظمة بكلّ ما في معنى الكلمة من معان وأبعاد، بل كان ظهورا طبيعياً نابعا من تسلسل الأحداث والتغييرات التي حصلت خلال الحقبة الزمنية التي تعاقبت على المنطقة نتيجة للهجمات الأوروبية التي باتت معروفة بالحروب الصليبية والتى قادتها الكنيسة الكاثوليكية ضد العالم الإسلامي وتمكنت خلالها من السيطرة على مناطق شاسعة ومهمّة على سواحل البحر المتوسط، ومن ضمنها احتلال مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك بعد أن قاموا بارتكاب أبشع جرائم القتل  الجماعي داخل المدينة المقدسة.

هذه الأوضاع الشاذة والغريبة على المنطقة والجرائم الأليمة بحق سكانها أحدثت صدمة كبيرة لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي في حينها بحيث أيقظتهم من سباتهم وغفلتهم، وعلى إثر هذه الأحداث بدأت محاولات النهوض التي كانت تهدف إلى تقوية روح المقاومة  ومواجهة الأعداء المحتلين والتي تحولت فيما بعد الى قضية أساسية لعموم المسلمين في ذلك العصر.

مراحل ثلاث للنهوض والانتصار

وحالة النهوض هذه والوصول إلى القدرة على مواجهة الأعداء وإنجاز الانتصارات المنشودة مرّت – في نظرنا – بمراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: بدأت بحالة اليقظة، ومن ثمّ ظهور علماء ومربّين كبار من أمثال الإمام أبي حامد الغزالي والشيخ عبدالقادر الكيلاني وغيرهم، الذين لعبوا دوراً اساسياً في إصلاح المجتمعات المسلمة، وتربية جيل جديد من المسلمين، وإعداد قادة سياسيين وعسكريين قادرين على إحداث تغييرات جذرية في الواقع السياسي السيء والمتخلف، بهدف توجيه الطاقات والإمكانات لمواجهة الأعداء ومقاومتهم؛ ابتداءً من (عماد الدين الزنكي) الشهيد وابنه الملك (نور الدين الزنكي) اللذين مهّدا السبيل لبروز القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي استطاع بحكمته وحنكته القيادية أن يعمل على إنهاء الدولة الفاطمية التي كانت تسيطر على مناطق واسعة في مصر وشمال إفريقيا لأكثر من قرنين من الزمان، ممّا ساعده على استخدام الطاقات المجمدة والثروات المخزونة لتلك الدولة في خدمة أهالي تلك البلاد وإنشاء القلاع والإعداد لمواجهة الصليبيين .

 وفي مرحلة ثانية وبعد موت الملك (نور الدين محمود الزنكي) رحمه الله، عمل صلاح الدين على ملء الفراغ القيادي الذي تركه (نورالدين)  في بلاد الشام، واستطاع أن يسيطر على الدويلات والإمارات المتناحرة والمتصارعة فيما بينها، والتي كثيراً ما تستنجد قيادات بعض تلك الإمارات بالأعداء من أجل بقائها وبسط نفوذها على حساب المصالح العليا للمسلمين.

  وبعد ذلك عمل صلاح الدين على نشر ثقافة حب المسجد الأقصى، وعمل جاهدا على توحيد بلاد الشام ومصر، بالإضافة الى مناطق الحجاز وكوردستان واليمن وغيرها، وتكوين جيش قوي تمهيداً للمواجهة الكبرى ضد الصليبيين.

والمرحلة الثالثة والأخيرة هي مرحلة التحرير أي تحرير المناطق المحتلة من قبل الصليبيين والتي بدات بالمعركة  الفاصلة في جبل (حطين) تلك المعركة المشهورة التي انتهت بانتصار حاسم لصالح المسلمين ودحر القوات المعادية، والتي أصبحت الطريق بعدها مفتوحة لتحريرمناطق واسعة كانت ترزح تحت نير الاحتلال الصليبي منذ عشرات السنين، وصولاً إلى تحرير مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، وذلك في 2 أكتوبر1187 ميلادية المصادف ليوم 27 رجب 583 هجرية .

صلاح الدين شخصية جديرة بالاقتداء

 وكما أشرنا في البداية فإن شخصية القائد صلاح الدين الأيوبي ما كان حدثاً عابراً في الماضي القديم وانتهى، بل هو يمثل ظاهرة حية جديرة بالاقتداء والاستلهام ومحاولة تكرارها بصورة أو بأخرى من قبل الشعوب المسلمة، خاصة في هذا العصر، وفي المنطقة العربية بالذات التي تمر بظروف  مشابهة لتلك الظروف التي كانت تعاني منها شعوب المنطقة في تلك المرحلة التاريخية التي ظهر فيها القائد صلاح الدين الايوبي.

إن وجود دولة الأحتلال الإسرائيلي، ووقوع مدينة القدس والمسجد الأقصى مرّة أخرى تحت الاحتلال، وتعرّضها  للاعتداءات المتكررة من قبل العصابات الصهيونية بين حين وآخر في ظل حالة الصمت المشبوهة والمقصودة من قبل ما يسمى بالمجتمع الدولي وكثير من حكومات المنطقة ..

 

أبعاد الاقتداء بصلاح الدين

هذا الواقع المرير يذكرنا بضرورة الاستلهام من التاريخ ومن العصر الذي ظهر فيه صلاح الدين والاستفادة منه في ثلاثة ابعاد مختلفة:

البعد الأول هو بعد إسلامي عام حيث إن الظروف الشاذة والاستثنائية التي تمر بها الشعوب الإسلامية في هذه المنطقة، بحاجة ماسة إلى حالة من اليقظة والنهوض التي تمهد لإحداث إصلاحات وتغييرات جذرية خاصة في الواقع السياسي السيء والمتخلف بهدف تهيئة الظروف والأسباب الضرورية للتقدم وتحقيق العدالة الاجتماعية، بالإضافة الى الإعداد لمواجهة المخططات المعادية التي تستهدف إبقاء حالة التخلف والفوضى والتبعية السياسية والاقتصادية التي تعاني منها شعوب المنطقة على حالها.

 البعد الثاني يتعلق بالشعب الكردي الذي يتنمي إليه القائد صلاح الدين والأسرة الأيوبية وقيادته لشعوب المنطقة في تلك المرحلة التاريخية الحساسة التي مرّ بها العالم الإسلامي، وحشده لشعوب  المنطقة لتحقيق إنجازات سياسية وانتصارات عسكرية مهمّة ضد الاحتلال الصليبي، ومعلوم أن الأكراد شاركوا بشكل فعّال مع صلاح الدين في المجالات العسكرية والإدارية من أربيل  جنوباً إلى الهكاري  شمالاً.. ممّا يدلّ على أن هذا الشعب – كما غيره من الشعوب والأعراق – بإمكانه أن يلعب أدواراً مهمة في مراحل تاريخية أخرى، وأن يكون جزءاً  فعالاً ومؤثراً كغيره من الشعوب الإسلامية في المنطقة.

 والبعد الثالث والأخير يتعلق بقضية فلسطين خاصة مدينة القدس والمسجد الأقصى، والتي – كما هي عليه الحال – تعاني من الاحتلال، وذلك بمساندة القوى  الغربية وريثة القوى الصليبية التاريخية، مستغلين ضعف وصمت بعض الأنظمة العربية والإسلامية، وهي حالة مشابهة تماماً كما كانت عليها هذه المنطقة في زمن صلاح الدين الأيوبي ، غير أن هذه الأوضاع السيئة هي بلا شك أوضاع استثنائية وغير طبيعية، فرضت على المنطقة بشكل أو بآخر، ولا بد أن تشهد تغييرات ضرورية وجذرية بالاتجاه الصحيح إن عاجلًا أو أجلًا، لصالح الشعوب وقضاياها، وعلى رأسها قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك، وتحريرها من الاحتلال الصهيوني.

  لهذه الأسباب نرى أنه من الضروري للشعوب المسلمة ونخبتها المثقفة والمخلصة أن تستفيد من نموذج قيادة صلاح الدين الأيوبي وكيفية مواجهة الأحداث في عصره بهدف استلهام الدروس لكيفية النهوض ومواجهة التحديات والخروج من هذه الأوضاع المقيتة  التي تعاني منها الأمة الاسلامية وشعوبها في هذا العصر.


(*) كاتب، وقيادي في الاتحاد الإسلامي الكردستاني.

اترك تعليق

  1. يقول Damion:

    Hi every one, here every one is sharing these familiarity, therefore it’s nice to read this weblog, and I used to pay a quick visit this weblog every day.

  2. يقول zaki:

    مازالت الامة الاسلامية تحلم وتنتظر صلاح الدين