مرافعة ثمانية بين يدي دعاة حفظ القرآن!

بقلم أ.د.فؤاد البنا(*)


سألني أحدهم سؤالا يتكرر عليّ كثيرا لأني داعية للتدبر، فقال: كيف تقول بأن التدبر أهم من الحفظ مع أن سير العلماء تقول بأنهم حفظوا القرآن وهم أطفال، فكيف يتدبر الأطفال القرآن؟
فقلت له:
أولاً: هناك أعلام وعلماء كبار لم يثبت أنهم حفظوا القرآن كاملا، لكنهم تفهموا القرآن بكل ما ملكهم الله من جوانح وجوارح، وفي مقدمتهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، وهم: أبوبكر الصديق، عمر الفاروق، علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

ثانيا: يحكي الواقع التأريخي والمعاصر بأن هناك مئات الملايين ممن حفظوا القرآن من دون فهم، لكنهم لم يصيروا شيئا مذكورا، بل بقوا نكرات داخل مجتمعاتهم ولم يتركوا أثرا إيجابيا يذكرون به.
مع العلم أن الزمن كلما تقدم ازداد الاهتمام بالحفظ وقل الفهم والعمل، بعكس قرون الخيرية الثلاثة الأولى، فلم يعرفوا مصطلح تحفيظ القرآن وإنما تعليم القرآن، وكانوا يسمون أهل القرآن القراء لا الحفاظ؛ ذلك أن عنايتهم كانت منصبة على التدبر، فصاروا أعظم أمة أنجبتها البشرية في عصورها كلها!

ثالثا: إن الذين تشير إليهم من العلماء الذين حفظوا القرآن صغارا وأصبحوا عمالقة، إنما هم قليلون بين أعداد لا حصر لها ممن حفظوا القرآن، وجزء من هؤلاء القليلين هم من الذين حفظوا القرآن وهم صغار، لكن هناك قرائن على أن الله هيأ لهم ظروفا لفتت أنظارهم إلى أهمية التدبر، فمارسوا قدرا من التدبر الذي يناسب عقولهم، وهذا ما نريده اليوم بالضبط، وهو أن يستوعب كل من يحفظ القرآن معنى ما حفظه من الآيات بالقدر الذي يناسب عقله، ذلك أن من يحفظ ما لا يفهم يصير كالحمار يحمل أسفارا!
ويتحمل أساتذة التحفيظ والوالدان مسؤولية كبرى بهذا الصدد؛ إذ ينبغي أن يطرحوا هذه القضية على التلاميذ بحيث يستقر في قلوبهم وعقولهم أن القرآن نزل لكي يطبق، ولن يطبق بصورة سوية ما لم يتم فهمه بطريقة صحيحة، كما فعل والد المفكر الهندي الكبير ومؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية الباكستانية أبو الأعلى المودودي، فقد روى بأن أباه كان يقول له: يا بني اقرأ القرآن كأنه أنزل عليك اليوم!

رابعا: يؤكد علماء التربية والذكاء بأن التلقين من دون تفهيم لأي نص أو معلومة، يشكل عبئا على العقل، حيث تتسع الذاكرة على حساب مدارك التحليل والتركيب والاستنباط والاستقراء والخيال والنقد، ومن ثم لا يمكن أن يصير مبدعا وهو بهذا الحال!
ويحكي الواقع المعاش بأن هناك من حفظوا القرآن وهم صغار دون أدنى عناية بالفهم، لكن شخصياتهم ظلت صغيرة بعد كبر أعمارهم، ولم يصبحوا فاعلين في مجتمعاتهم مثل من كان همهم فهم ما يحفظون!

خامسا: أورد بعض العلماء أنهم عانوا وهم كبار بسبب الحفظ في صغرهم من دون أدنى فهم، مثل الإمام محمد عبده والشيخ محمد الغزالي، بمعنى أن توسع الذاكرة يتم كما أسلفنا على حساب المدارك العقلية الأخرى وهي المسؤولة عن التدبر الأمثل!

سادسا: لا شك بأن لكل قاعدة استثناء، ولكن الاستثناء كما هو معلوم يؤكد القاعدة ولا يلغيها!

سابعا: أن التدبر الذي ندعو إليه ونحث عليه، لا نقصد به إطالة النظر في آي القرآن بالصورة المثالية التي كان يمارسها بعض أعلام السلف، وإنما هو عملية نسبية ينبغي أن تتناسب مع أعمار الطلاب وقدراتهم العقلية، ومن ثم فان على الأسر وملقني القرآن في الكتاتيب أن يعمدوا إلى تفهيم الدارسين ما تستطيع عقولهم استيعابه، بحيث يكبرون وقد استقر في وعيهم بأن القرآن رسائل من الله إلى الناس وينبغي أن يفهموها حتى يطبقوها في حياتهم ويدعوا الناس إليها بحكمة.
وإذا وقر في أذهان حفاظ القرآن أن الفهم هو الأصل؛ فإنهم سيظلون في تفهم بحسب ما تسمح به مداركهم العقلية في كل طور من أعمارهم، وهؤلاء هم من يمتلكون الأهلية لأن يصبحوا قادة ومصلحين في مجتمعاتهم!

ثامنا: نضع بين أيدي دعاة التحفيظ الآلي هذه الأسئلة: هل ما فعله أو يفعله مسلمون في قضية الحفظ من دون فهم حجة على الإسلام؟ وهل القرآن الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها لم يحتوِ على منهج للتعامل مع القرآن نفسه؟ ولو قرأنا القرآن هل سنجد فيه آيات تحض على الحفظ أم على التدبر؟ أو ليس الفيصل بيننا هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في التعامل مع القرآن؟ أو لم يذكر عبد الله بن مسعود بأنهم -أي الصحابة – كانوا يقرؤون القرآن عشر آيات عشر آيات، وأنهم لم يكونوا يجاوزوهن حتى يعلموا ما فيهن ويطبقونهن في حياتهم؟ ألم يظل عمر بن الخطاب ١٢ عاما يحفظ سورة البقرة وظل ابنه عبد الله ٨ سنوات يحفظ نفس السورة وكذا غيرهما من الصحابة؟ أو كانوا عاجزين عن الحفظ أو أنهم أدركوا أن الفهم هو الأساس؟

هل كان منهج الرسول صلى الله عليه وسلم أشد إثمارا في التعامل مع القرآن أم منهج من جاء بعدهم ممن ركزوا على الحفظ؟ ألم يثمر منهجهم رجالا وصفوا بأنهم قرآن يمشي على الأرض، ففتحوا العقول والقلوب والآفاق، وصاروا خير أمة أخرجت للناس؟
وأخيرا ما هي مخرجات الحفظ من دون فهم؟ ما الذي أضافه عشرات الملايين من الحفاظ في عصرنا إلى وضع الأمة البائس؟ ولو افترضنا بأن هذه الملايين من الناس قد تلقت القرآن وفق المنهج النبوي هل كان وضعنا سيظل بهذا السوء الذي نعيشه؟.


(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز – اليمن.

اترك تعليق