مركزية دور الإنسان في بناءالعمران من خلال القرآن (٥)

بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه(*)

مجالات العمران في القُرْآن ومبادئها:

من أهم مباحث الفقه العمراني القرآني ما يتعلق “بنظم الإدارة والرعاية لشؤون الناس بتيسير سبل الحياة لهم، ورفع الحرج والمشقة عنهم”[1]. وقد جاء التشريع القرآني كاملاً وشاملاً لمختلف مجالات الحياة الإنسانية بنظم تامةٍ ضابطةٍ، ضامنةٍ للعوامل اللازمة للأداء الإنساني الاستخلافي؛ بما وضعه من المبادئ والأسس العامة والقيم العليا، التي تمثل بنود عقد وعهد استخلاف الإنسان؛ على هديها يكون رسم القوانين والخطط، والاجتهاد والتجديد للوسائل مواكَبةً لتجدد الحياة، وضعها الشارع حمايةً لمصالح الإنْسان، وترشيداً لمهمته، بل وحفظاً وصوناً لدوره المركزي في العمل والبناء العمرانيين.

ونقتصر على مجالين من أكبر المجالات العمرانية المؤثرين التأثير العميق في فاعلية الإنْسان، هما مجالا السلطان والمال.

١- الحكم والسياسة (السلطان):

لا شك في أهمية هذا الميدان ودوره الأساس في العمران؛ فبه تتقوم الدنيا وتنتظم شؤونها؛ إذ “تتألف برهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتَنْكَفُّ بسطوته الأيدي المتغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية، لأن في طباع الناس من حُبّ المغالبة والمنافسة على ما آثروه، والقَهر لمن عاندوه، ما لا ينكفُّون عنه، إلا بمانع قويّ، ورادع مَليِّ”[2].

وقد خصه القرآن بتشريعه الجامع والكلي من خلال مبادئ عامة، وقيم عليا، تشكل ما يطلق عليها “أصول السياسة الشرعية”.

ومن آياتها الكبرى الجامعة قوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ النساء:٥٨-٥٩، فهاتان الآيتان تتضمنان الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم، ونظام الطاعة [3]، أعلاها:

أ- أداء الأمانات؛ إذ تخاطبان ممن تخاطب “الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات”[4]. وسياسة الناس من أثقلها لأنها تحمُّلٌ لمسؤوليات تدبير شؤون الناس ورعاية مصالحهم وضمان أمنهم، ولهذا “فقد أَمر الله أن تؤدى إلى أهلها بأن يجعل فيها الأكفاء لها، وكل ولاية لها أكفاء مخصوصون، فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها، والمدبرين لها، والعاملين لها، ويجب تولية الأمثل فالأمثل:﴿إِنَّ خَیۡرَ مَنِ ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِیُّ ٱلۡأَمِینُ﴾ القصص:٢٦، فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة، وضده بضده”[5].

وما سميت الأمانة أمانة إلا لأمن الناس من الخوف، الذي إذا انعدمت مسبباته تطمئن النفوس، فتنطلق للعمل، وتحصل الإنجازات العمرانية المختلفة، و”لما كان الأمين إنساناً مأمون الجانب، لا يخشى عدوانه على حقوق غيره، كانت ساحته ساحة أمان، ليس فيها أي مثير للخوف على المال، أو على العرض، أو على الحياة”[6].

بـ- إقامة العدل: الذي جعله الله ميزاناً يحدث به التوازن في الحياة، “ترجع إليه البشرية، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع. ميزاناً لا يحابي أحداً لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع”[7]. كما أنه “يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتعمر البلاد، وتنمو الأموال، ويكثر معه النسل، ويأمن به السلطان، فقد قال الهرمزان لعمر حين رآه وقد نام متبذلا:(عدلت فأمنت فنمت)”[8].

إن العدل ضرورة عمرانية لسكن النفوس، وتحفيز الهمم للعمل، وانطلاق الطاقات الإنسانية للفعل والإنجاز، بدونه يسود الظلم المخرب للعمران، لأنه مجلبة للخوف، والخوف إعاقة وحال “يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفاتهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم، وانتظام جملتهم، لأن الأمن من نتائج العدل، والجور من نتائج ما ليس بِعدل”[9]. ولهذا عد الماوردي الأمن العام من قواعد صلاح الدنيا؛ حيث “تطمئن إليه النفوس، وتنتشر به الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة”[10].

جـ- طاعة أولي الأمر: بها يحصل التوازن واستقرار النظام، وأمن البلاد، وانتظام مصالح العباد في معايشهم، فكانت مما أَمر الله به “لأن الإمام إذا لم يكن مطاعاً يؤدي ذلك إلى إخلال نظام الدين والدنيا من الفساد ما لا يحصى”[11]، ولكنها مشروطة أن تكون في طاعة الله لا معصيته، وللناس فيها مصلحة [12]. وفِي هذا دلالة على احترام كرامة الإنسان، وحفظ لدوره في البناء العمراني الواعي؛ فطاعة الولاة بالمنظور القرآني لا تجعل من الإنْسان “بهيمة في القطيع؛ تزجر من هنا أو من هنا، فتسمع وتطيع، فالمنهج واضح، وحدود الطاعة واضحة”[13]. فالمطلوب أن تكون طاعة أولي الأمر واعيةً مبصرةً لا عمياء، حفظاً للوعي الإنساني، وضماناً لممارسة حق التفكير والنقد والمشاركة في اتخاذ القرار، والصناعة المشتركة للحياة السياسية.

ومن أصول السياسة الشرعية الواردة في مواضع قرآنية أخرى:

د- الشورى: التي تعتبر “من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا مما لا خلاف فيه”[14]، مدحها الله سبحانه صفةً للمؤمنين:﴿وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَیۡنَهُمۡ﴾ الشورى:٣٨، وفرضها فلسفةً وآليةَ تدبير الأمور في الجماعة، سواء داخل مؤسسات الدولة، أو في العلاقات بينها وبين جمهور الأمة:﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ﴾ آل عمران:١٥٩، والعزم تنفيذ القرار ثمرةِ الشورى واشتراك الناس في إنضاج الرأي وصناعة القرار، فيضعه ولاة الأمر قيد التنفيذ [15].

في تطبيقها يُحفظ دور الإنْسان في أداء دوره العمراني، من خلال الإدلاء بالرأي أو إنضاجه، والمشاركة في صنع القرارات أو تصحيحها، منعاً للاستبداد بالرأي والتسلط، وكل أسباب التعطيل للإرادة الإنسانية، والإطفاء لفاعليته. إنها “أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكلية، وإلى دفع المفاسد … وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى، فالمسلمون قد أرشدهم الله إلى أن يهتدوا إلى مصالحهم وكيفية الوصول إليها بإعمال أفكارهم مجتمعة”[16].

هـ- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لقوله تعالى:﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ آل عمران:104. والآية من أصول السياسة الشرعية “التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكلم بالحق مع من كان، وفِي أي حال من الأحوال، وكذلك ما فيه من النهي عن الظلم”[17]، فوجب “أن يكون في الدولة الإسلامية جماعة من أهل الحل والعقد يمثلون الأمة، وينوبون عنها ويراقبون سياستها ونظم حكمها… وظيفتهم الإشراف على الحكام ليكونوا مرجعا لهم في تشريعهم، وليكونوا دعاةً إلى الخير، وناهين عن المنكر وناصحين للرعية”[18]. إنه عامل الصيانة من الفساد والاختلال، وحارس السيادة للحق والعدل، وضامن استمرار الرقابة في الأمة يعبر به الإنسان عن اهتمامه بشؤون مجتمعه وعمرانه، ويُبقي دور الوعي والتوعية فاعلاً غير معطل، فيتحمل مسؤولياته في حفظ نظام مجتمعه، وبناء عمرانه موافقاً لشرع الله وهديه.

ومن صور تطبيق هذا المبدأ، ما يسمى بالمعارضة السياسية الأمينة التي تنوب عن الأمة في التعبير عن أفكارها وهمومها، والقيام بفريضة المراقبة والمحاسبة لولاة الأمور، كوظيفة سياسية عامة دائمة في المجتمع، للرقابة والمحاسبة، ويمثل وجودها من عوامل قوة الحكم واستقراره؛ إذ نقدها للأحوال نقد يبني ولا يهدم، ويصوب مسيرة الحياة، ويقوّم الاعوجاج، وينبه إلى العثرات والتجاوزات [19].

****

خلاصة القول إذاً، أن المجال المتعلق بالحكم والسلطان لا يستقيم أمره إلا باهتدائه بهذه المبادئ العليا والقيم الربانية، فهي خير سبيل إلى السياسة العادلة الراشدة، كركيزة أساس في بناء العمران، وتحقيق الحياة الآمنة المستقرة، وتوفير الشروط اللازمة لفاعلية الإنسان وحافزيته للعمل والبناء العمراني.


(*) أصل هذه السلسلة ورقة علمية في مؤتمر”العمران والقرآن ” لمؤسسة منارات الفكر الدولية بإسطنبول المنعقد يومي ٩-١٠ فبراير٢٠٢٢م، بعنوان:”مركزية دور الإنسان في بناء العمران من خلال القرآن”، ونشرت في كتاب مؤتمر”العمران والقرآن”، والرقم الدولي المعياري: 978-1-9163760-3-8، والباحثة د. فاطمة الزهراء دوقيه دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

[1]– نفسه، ص ١٢٧.

[2]– أبو الحسن الماوردي، أدب الدين والدنيا، ط دار المنهاج- بيروت، ط١، (١٤٣٤ه/٢٠١٣م)، ص ٢١٨.

[3]– التحرير والتنوير، مرجع سابق، ٥/٩١.

[4]– محمد أبو عبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القُرْآن، ج٦، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، ط١، (١٤٢٧ه/١٠٠٦م)، ص٤٢٥.

[5]– عبد الرحمن بن ناصر السعدي، القواعد الحسان في تفسير القُرْآن، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع- الرياض، ط١، (١٤٢٠ه/١٩٩٩م)، ص١٠٧..

[6]– عبد الرحمن حسن حبنكة، الأخلاق الإسلامية وأسسها، ج١، دار القلم-  بيروت، ط٥، (١٤٢٠ه/١٩٩٩م)، ص ٦٤٦.

[7]– في ظلال القُرْآن، مرجع سابق، ٦/٣٤٩٤.

[8]– أدب الدين والدنيا، مرجع سابق، ص ٢٢٥.

[9]– نفسه، ص ٢٣١.

[10]– نفسه، ص ٢٣١.

[11]– جمال الدين الغزنوي، أصول الدين، تحقيق: عمر وفيق الداعوق، دار البشائر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، ط١، (١٤١٩ه/١٩٩٨م)، ص ٢٨١.

[12]– يراجع تفسير الطبري، مرجع سابق، ٧/١٨٢.

[13]– في ظلال القُرْآن، مرجع سابق، ٢/٦٩١.

[14]– عبد الحق بن غالب ابن عطية الاندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج١، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية – بيروت، ط١، (١٤٢٢ه/٢٠٠١م)، ص ٥٣٤.

[15]– محمد عمارة، هل الإسلام هو الحل؛ لماذا و كيف؟، دار الشروق- القاهرة، ط٢، (١٤١٨ه/١٩٨٩م)، ص ٧٨-٧٩. بتصرف

[16]– القواعد الحسان، مرجع سابق، ص ١٠٥.

[17]– نفسه، ص ١٠٨.

[18]– عفيف عبد الفتاح طبارة، روح الدين الإسلامي؛ عرض وتحليل لأصول الإسلام وآدابه وأحكامه تحت ضوء العلم والفلسفة، دار العلم  للملايين- بيروت، ط ٢٧، ١٩٨٨م، ص ٣٠٤-٣٠٥.

[19]– هل الإسلام هو الحل؟، مرجع سابق، ص ٩٩.

اترك تعليق