مناهج التغيير والبناء الحضاري من خلال السيرة النبوية (5)

✍️ أ.د. أحمد محمد زايد (*)


معالم المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري (2)

أولاً: العناية بالإنسان:
صور من العناية النبوية بالإنسان (1)
الإنسان أحد ركائز ثلاث تقوم عليها الحضارة، لذا كانت العناية النبوية بالإنسان تعليما وتربية وتزكية، قال الله تعالى: “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين”
فالإنسان في الفعل الحضاري مركز الصلاح والفساد، ومنطلق الإصلاح والإفساد، وكل عمل حضاري لا ينظر تلك النظرة للإنسان فإنه يهدر ويهدم ركنا ركينا من أركان العمل الحضاري.

لقد كان من أسس المنهجية النبوية في تأسيس حضارة إسلامية عالمية شاملة “العناية بالإنسان”، حتى خرج جيل متميز في شتى جوانب الحياة وصفه سيد قطب بأنه ” جيل قرآني فريد” وتمثلت تلك العناية منه ﷺ بالإنسان في أعمال وتصرفات عديدة أبرزها:

تكريم أصحابه، حبهم والمعايشة الدائمة لهم، القدوة، دوام التربية والتعليم، حسن توظيف طاقاتهم، التقدير وإنزال كل منهم منزلته، الرعاية والمتابعة، حمايتهم والمحافظة عليهم إلى غير ذلك من التصرفات التي خرجت هذا الجيل.

وهذه بعض صور من العناية النبوية بالإنسان:
عايش رسول الله ﷺ المسلمين بكليته، فتجاوبوا معهم بكليتهم، عايشهم في تفاصيل حياتهم:

ففي المسجد حيث كان الحضن التربوي الأول في العهد النبوي، قرينه في ذلك ميدان الجهاد والقتال، والرسول ﷺ كان إمام الناس وكان يقول: “صلوا كما رأيتموني أصلي ”
يسمع المسلمون صوت إمامهم، ويصلون بصلاته، فإذا التفت إليهم وعظهم مرة، وعلمهم أخرى، وأفتاهم ثالثة، يرى المسيء في صلاته فيصحح له، والجاهل فيعلمه ويستغرق ذلك كله من وقته ما يكفي لإعطاء زاد روحي عالي، وعطاء علمي كافي.

وكذلك يلتف الأصحاب حول معلمهم ﷺ حلقا حلقا، ففي ” كتاب الصلاة” ترجم البخاري لذلك قائلاً: “باب الحلق والجلوس في المسجد”، وأورد أحاديث جاء في شرحها قول المهلب: شبه البخاري جلوس الرجال في المسجد حول رسول الله ﷺ وهو يخطب بالتحلق حول العالم.

➖وكانت التربية بالحدث في المسجد كما كانت خارجه، أورد البخاري أن رسول الله ﷺ بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذا أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله ﷺ وذهب واحد، وقال فوقفا على رسول الله ﷺ، فأما أحدهما فرأي فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر جلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا: فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: إلا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه.

كانت تلك التربية والمعايشة وجو الاقتداء بعيدا عن كل تكلف أو تصنع، أورد البخاري عن عباد بن هيثم عن عمر أنه رأى رسول الله ﷺ مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى.

ولم تكن كذلك عشوائية ولا مرتجلة بلا هدف إنما كانت تربوية مقصودة متنوعة، فمرة يفسر القرآن للصحابة، قال الإمام السيوطي في الإتقان: “إنه ﷺ بين لأصحابه جميع تفسير القرآن وغالبه” ويقصد السيوطي أنه ﷺ قد فسر كثيرا من القرآن لأصحابه، وترك كثيرا لم يفسره لهم لأسباب تعرف في كتب علوم القرآن.

ومرة يقص عليهم قصص التاريخ وهو كثير ومفيد وما قصة أصحاب الأخدود، أو الثلاثة أصحاب الغار وغيرهما مما ذخرت به كتب السنة الصحيحة عنا ببعيد، ومرة يعظ حتى يبكي الناس فتخشع منهم القلوب وتذرف الدموع.
ومرة يسأل الصحابة عن أحوالهم، ويتعرف على عباداتهم في صورة حوار لطيف يسألهم: من منكم أصبح اليوم صائما، من منكم تصدق بصدقة اليوم، من منكم عاد مريضا اليوم، ويتلطف معهم رسول الله ﷺ ويسألهم حتى عن رؤاهم المنامية فيقول: من منكم رأي الليلة رؤيا، يسمع منهم ﷺ، وربما قص عليهم ما رآه، بأبي هو وأمي.

إن هذا القرب، وهذا التفاعل والتعايش كان له أبعد الأثر في النفوس، فهو يصحح مفاهيم، ويحفز على الأعمال، وينشط إلى الخير، ويزيد في العلم، ويقرب بفضل الله بين القلوب، في المسجد رأى الصحابة كيف يتعامل الرسول ﷺ مع الوفود القادمة، ومع الأعراب السائلين، ومع كل صنف يدخل عليه.

➖وفي مجال العمل وميدان الجهاد عاش ﷺ مع أصحابه في معترك الحياة يشاركهم أعمالهم في سلمهم وحربهم، فمن يوم أن دخل المدينة نراه يمارس الحياة مع أصحابه، يقول ابن هشام عن مسجد المدينة فعمل فيه رسول الله ﷺ يرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، فقال قائل من المسلمين:

لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل

ومشهد آخر من المشاركة والتعايش تري رسول الله ﷺ لما سمع بالأحزاب وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله ﷺ ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه فدأب فيه ودأبوا.
ولم تكن تلك المشاركة هامشية أو شكلية لا روح فيها، إنما كانت مشاركة حقيقية ربما تحمل رسول الله ﷺ أثقل ما فيها، وما قصة الصخرة التي استعصت على الأصحاب عند الحفر في المقدمة عنا ببعيد فما كان إلا رسول الله ﷺ
قال سلمان: ضربت ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله ﷺ قريب مني فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى قال: ثم ضرب الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى إلى آخر الرواية “. وعند البيهقي لما حضر النبي ﷺ وأصحابه الخندق أصاب أصحاب النبي ﷺ والمسلمين جهد شديد فمكثوا ثلاثا لا يجدون طعاما، حتى ربط النبي ﷺ على بطنه حجرا من الجوع.

➖ وفي مجال العناية الاجتماعية بالإنسان ترى رسول الله ﷺ يزور أصحابه، ويشاركهم في الطعام، ويعرف أحوال الناس حتى الأطفال.
إن المعايشة تولد الحب، ويشعر أهلها بعد الفراق بشيء من الوحشة، فتشتاق النفوس إلى اللقاء، روى الإمام البغوي أن ثوبان مولى رسول الله ﷺ كان شديد الحب لرسول الله ﷺ قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه، فقال النبي ﷺ: ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ﷺ ما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك، لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة فأنا في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا فنزلت هذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما)
وعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: “لا يخطئ رسول الله ﷺ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار: إما بكرة وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه الرسول ﷺ في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسول الله ﷺ بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها.

وكان ﷺ إذا تفقد أحدا من الأصحاب فافتقده عاده أو أرسل إليه أحدا، قال ابن إسحاق حدثني محمد بن مسلم الزهري عن عروة بن الزبير عن أسامة بن زيد بن حارثة حب رسول الله ﷺ قال: ركب رسول الله ﷺ إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه إكاف، وأردفني رسول ﷺ خلفه.. إلخ”.
وكان الرسول ﷺ يؤاكل أصحابه، ويدعى إلى الطعام فيلبي، لم يكن يأنف أنفة الملوك ولا يستعلي استعلاء المتكبرين، لأنه صاحب رسالة: (ويزكيهم).

وكثيرة هي تلك المواقف التي شارك فيها الرسول الله ﷺ أصحابه في طعام، ومن أشهرها ما وقع يوم الخندق في قصة جابر المشهورة والواردة في صحيح البخاري.

ومن قبل المدينة كانت كذلك المعايشة والعناية في مكة “مرحلة التربية والأعداد الأولى في الدعوة” تدرك ذلك من هذه الرواية، حيث قالت خديجة رضي الله عنها للنبي ﷺ لما أخبرها خبر الوحي وقال: لقد خشيت على نفسي: “كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق.
وما صلة الرحم، وحمل الضعيف، وإكساب المعدوم، وإكرام الضيف وإيوائه، إلا أعمال اجتماعية لا تتحقق إلا بالمخالطة والمعايشة، وما كان رسول الله ﷺ ليفعل ذلك قبل بعثته ويتركه بعد النبوة التي يعد هذا كله من أبرز توجيهاتها.
وفي ذات السياق كان هناك محافظة على النسيج الداخلي للأمة بالتحرك في حل المشكلات وإصلاح ذات البين لبناء منظومة اجتماعية قوية، فعند الشيخين عن سهل بن سعد: “أن رسول الله ﷺ ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم”.


(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية في جامعتي الأزهر الشريف وقطر.

اترك تعليق