من وحي الهجرة النبوية … أثر الهداية والتوفيق في نجاح التخطيط

بقلم د. عصام الشعار (*)

لقد أظلنا عام هجري جديد أعاده الله على شعوبنا وأوطاننا بالخيرات والبركات والهداية والتوفيق، وبهذه المناسبة الطيبة ما أحوجنا أن نجلس على مائدة السيرة العطرة لنقطف من ثمار هذه الذكرى المباركة وننهل من نفحاتها وبركاتها، ولطالما خطت الأقلام وانبرى الخطباء في حديثهم عن الهجرة أحداثها ودروسها ومعانيها، وما هذه السطور إلا محاولة للحاق بركب الخير سائلين المولى عز وجل أن يفيض علينا من نفحات ظلال سيرة الحبيب العطرة، ولن أخوض في تفاصيل الحدث فكتب السيرة ملأى، ولكن سأضع بين يدي القارئ الكريم المعنى الذي عايشته عند مدارسة أحداث الهجرة المباركة فأقول وبالله التوفيق:

د. عصام الشعار

                               د. عصام الشعار

على الرغم من أن رسول – صلى الله عليه وسلم – كان قد بذل جهدا كبيرا وفائقا في إحكام خطته وإعداد عدته للهجرة إلى المدينة إلا أنه لم يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم التوفيق والنجاح في الوصول إلى هدفه بسبب ذكائه الخارق وقدراته الفائقة في التخطيط وحسن التدبير، فخصوم الدعوة لم يكونوا بلداء ولم تكن حركتهم من أجل القضاء على الدعوة وصاحبها حركة رعناء ولم يتخبطوا خبط عشواء، بل مكروا مكر الليل والنهار، وقد توفر لديهم من الدهاء ومن الإمكانات المادية والطاقات البشرية ما يؤهلهم للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون جهد أو عناء، وقد ظهر ذلك جليا منذ الساعات الأولى للهجرة، فقبل أن يخرج النبي من داره كان المشركون أسبق إليه فحاصروه وأحكموا حصارهم، وبالحسابات المادية فإنه قد قُضِي الأمرُ، وتخطيطه للهجرة صلى الله عليه وسلم لم يغن عنه شيئا، وهنا الدرس الأول الذي يجب أن نعيه جيدا ونقف أمامه طويلا، وهو أنه قبل أن تخطط وتتسلح بأدواتك وقبل أن تشرع في الأخذ بالأسباب للوصول إلى غايتك، فكل ذلك لا بد أن تسبقه مرحلة غاية في الأهمية والخطورة وهي أن تعرف الطريق الذي يجعلك أهلا لمعية الله عز وجل قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: ١٢٨]، وقال سبحانه: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69]” فكن محسنا تقيا يكن الله لك عونا وممدا وتكن عند الله مرضيا، ومتى كنت في ظلال المعية فإن الله سيسخر  الكون كله في خدمتك، بل وأكثر من ذلك وهو أنه إذا أراد الله بك خيرا وقوانين السنن الكونية تحول دون ذلك، فإنه من أجلك ستتعطل كل القوانين، وتخرق كل السنن حتى ينفذ مراد الله جل في علاه، فها هم الخصوم ببابه صلى الله عليه وسلم مدججون بأسلحتهم، يحكمون حصارهم، وينتظرون اللحظة الحاسمة للقضاء على النبي، فكيف سينجو رسول الله ويفلت من قبضتهم المحكمة؟!!

وحتى يتأكد لنا هذا المعنى السابق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن أعداءه واقفون ببابه، ومع ذلك فإنه لم يتسلق جدارا، ولم يقفز من نافذة، وإنما خرج إليهم من الباب بكل هدوء وسكينة، وقد صور لنا القرآن حالة الثبات واليقين التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم -والتي لم تفارقه في أي مرحلة حتي لقي ربه-، وأنه لم يخرج مذعورا، ولا مسرعا، وإنما خرج في تؤدة وطمأنينة، وليس هذا فحسب بل وقف على رأس كل واحد من القوات الخاصة التي جاءت لقتله، وألقى على رؤوسهم ووجوهم -جميعا- التراب، ولم يكونوا نياما ولا عمايانا، بل العينان جاحظتان وهم في أعلى درجات الاستعداد لتنفيذ المهمة، وكل منهم يرى التراب الذي يهال على رأس صاحبه ولكنه لا يبصر من يهيل التراب عليه، فعناية الله إذن كانت حاضرة ولم تفارق المشهد منذ اللحظات الأولى طرفة عين، فالذين وقفوا بباب النبي الكريم لم يكن بينهم وبينه سوى أن يركل أحدهم الباب بقدمه، وسينتهي الأمر، ومع هذا ظلوا واقفين على هيئة أشبه بالتشريفة العسكرية التي تكون في استقبال الزعماء، ولم يقتحم الجنود دار النبي حتى خرج رسول الله صلى الله عليه من بين أيديهم وهو يحثو التراب على رؤوسهم ويقول”وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون”،

يقول الحافظ ابن كثيره عند تفسير هذه الآية: “خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وفي يده حفنة من تراب ، وقد أخذ الله على أعينهم دونه ، فجعل يذرها على رءوسهم ، ويقرأ : ( يس والقرآن الحكيم ) حتى انتهى إلى قوله تعالى: ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

ففي هذا المشهد لم يَنْجُ رسولُ الله بسبب إحكام خطته، ولكنه نجا لأن العناية الإلهية قد تدخلت بصورة مباشرة فتعطلت من أجل رسول الله كل القوانين وأخفقت أمامها كل الأسباب. فالعين إذا كانت سليمة فإنها تبصر، أما عدم قدرة على الإبصار من غير علة، فهذا خرق للسنن والقوانين.

معية الله لرسوله في الغار:

وبعد أن نجا رسول الله من قبضة المتربصين ببابه، كان جزءا من إحكام خطته أنه سيسير في اتجاه مخالف لوجهته إلى المدينة، بحيث يستحيل أن يخطر ببال أحد أن رسول الله قد توجه إلى الجنوب باتجاه اليمن في حين أن طريقه باتجاه المدينة نحو الشمال ، ولمزيد من التعمية على المشركين مكث رسول الله في غار ثور ثلاث ليال حتى تهدأ موجة المطاردة وينقطع رجاء الأعداء في الوصول إلى رسول الله والنيل منه، فماذا حدث داخل الغار؟!

يروي لنا أبو بكر ما حدث فيقول: “نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» متفق عليه. والحديث ذكره الإمام النووي في كتابه الرائع “رياض الصالحين” وقد أورده في باب التوكل واليقين.

فها هي الأحداث تدور بنا لتؤكد المعنى الذى ندندن حوله في هذه الذكرى المباركة وهو أن التخطيط لم يكن هو طوق النجاة، ولكنها معية الله وتوفيقه، واليقين في الله وحسن التوكل عليه. فهل إحكام خطته صلى الله عليه وسلم بالتعمية على المشركين حالت دون تفكير قريش فيما خطط له رسول الله، والجواب بالنفي، فقد خطط المشركون أيضا ووضعوا احتمالية أن يكون النبي قد سلك طريقا مغايرا ليعمي عليهم، فجَدُّوا في السير نحو الجنوب، حيث سار رسول الله، وليس هذا فحسب، بل وصلوا إلى فوهة الغار ووقفوا على رأس رسول الله وصاحبه، حتى ظن الصديق بوقوع الهلاك، فليس بين القوم وخلوصهم إلى رسول الله -بالحسابات المادية- إلا أن ينظر أحدهم تحت قدميه وسيرى رسول الله، وهنا الطبيعية البشرية تغالب أبا بكر فيتملكه الخوف، وفي المقابل تتجلى لنا المسافة بين إيمان رسول الله ويقينه وإيمان أبي بكر! فإذا برسول الله يفيض على صاحبه باليقين الذي يملأ جوانحه، فيثبته ويطمئنه ويقول له “ما ظنك باثنين الله ثالثهما” الله ثالثهما حفظا ورعاية، ودفاعا ووقاية، وتوفيقا وهداية، فوالله لو نظروا جميعا داخل الغار لما استطاعت أبصارهم أن ترى رسول الله، لأنه المعية أحدثت خرقا للقوانين “فأغشبناهم فهم لا يبصرون” فهيهات هيهات أن يبصروا!!

معية الله عند مطاردة سراقة:

لم ينته الأمر عند هذا الحد بل في رحلة المطاردة يتكرر الأمر حتى يتعمق هذا المعنى في النفوس لأن فهمه وتحقيقه هو الغاية التي من أجلها أنزل الله الكتب وأرسل الرسل. فبعد أن خرج رسول الله من بين أيدي المتربصين به سالما، استطاع الخصوم أن يستنفروا كل ساكن في أرض مكة من أجل المشاركة في مارثون مطاردة النبي وصاحبه د، وذلك برصدهم جائزة كبرى كفيلة بإغراء أهل الثراء فما ظنكم بالفقراء؟! وقد كانت المكافأة مائة ناقة وهي جائزة مليونية في وقتها كفيلة بأن تغير مجرى حياة الفرد، هذا فضلا عن الشهرة والسمعة التي سيحظى بها من يفوز في السباق.

ويشترك في سباق المطاردة سراقة بن مالك، ولم يكن سراقة فقيرا ولا وضيعا بل كان من أشراف العرب، وكان يتمتع بالأخلاق الحميدة، فقد كان يطعم الجائع ويؤمن الخائف ويجير المستجير، ولكن كما ذكرنا فإن الجائزة التي رصدتها مكة كانت مغرية، ولم يكن سراقة شخصا عاديا بل كان مشهورا بالفراسة واقتصاص الأثر،  وهذه المقومات الشخصية لسراقة أهلته للفوز بالسباق، فقد استطاع سراقة أن يلحق بركب بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه اللحظات كل المعطيات تشير إلى فوز سراقة في سباق المطاردة، وهنا أيضا تتدخل العناية الإلهية بصورة مباشرة أيضا كما تدخلت في المشهد الذي عرضناه من قبل، فقد حدثت معجزة أوقفت سراقة بن مالك عن تتبع الرسول الكريم وصاحبه. فكلما كان سراقة يقترب من الرسول الكريم كانت فرسه تتعثر ويقع سراقة من على ظهرها فيرجع إلى الخلف، وكلما عاد ليقترب يتكرر الأمر مرة أخرى. وعندها أيقن سراقة بن مالك أن القوة الإلهية هي التي تحمي رسول الله وأن عناية الله تحفظ نبيه من كل سوء، وفي هذه اللحظات أيقن سراقة أن رسول الله أمره صدق ويصف لنا سراقة قصة مطاردته في حديث طويل وقد اكتفينا منها بنقل هذا المشهد فيقول سراقة : “فَرَكِبْتُ فَرَسِي … حتَّى إذا سَمِعْتُ قِراءَةَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو لا يَلْتَفِتُ، وأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفاتَ؛ ساخَتْ يَدا فَرَسِي في الأرْضِ حتَّى بَلَغَتا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْها، ثُمَّ زَجَرْتُها فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْها، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قائِمَةً، إذا لِأثَرِ يَدَيْها عُثانٌ ساطِعٌ في السَّماءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فاسْتَقْسَمْتُ بالأزْلامِ، فَخَرَجَ الذي أكْرَهُ، فَنادَيْتُهُمْ بالأمانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حتَّى جِئْتُهُمْ، ووَقَعَ في نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عنْهمْ، أنْ سَيَظْهَرُ أمْرُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ له: إنَّ قَوْمَكَ قدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وأَخْبَرْتُهُمْ أخْبارَ ما يُرِيدُ النَّاسُ بهِمْ، وعَرَضْتُ عليهمُ الزَّادَ والمَتاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي ولَمْ يَسْأَلانِي، إلَّا أنْ قالَ: أخْفِ عَنَّا. فَسَأَلْتُهُ أنْ يَكْتُبَ لي كِتابَ أمْنٍ، فأمَرَ عامِرَ بنَ فُهَيْرَةَ، فَكَتَبَ في رُقْعَةٍ مِن أدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.” رواه البخاري

وقد احتفظ سراقة بهذا الكتاب حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا وبايع سراقة رسول الله  على الإسلام. وبالفعل يرجع سراقة من رحلة المطاردة ويوفي بوعده فلم يخبر قريشا بمكان النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي المشهد السابق يجب أن نقف عند وصف سراقة للحال التي كان عليها النبي صلى الله عليه والحال التي كان عليها أبو بكر فرسول الله ثباته ويقينه لم يفارقه لحظة فها هو على راحلته يسمع قرع أقدام فرس سراقة ويقترب منه سراقة لدرجة أنه يسمع رسول الله وهو يتلو آيات القرآن ومع ذلك لم يلتفت رسول الله ولم يشغله أبدا ما يحاك خلف ظهره أما أبو بكر فمع شدة يقينه في وعد الله ونصره إلا أنه بين الحين والحين تغالبه طبيعته البشرية فيحمله خوفه على رسول الله على كثرة الالتفات حول رسول الله والمشهد يصور حالة القلق ولحظات الخوف التي كان يعيشها الصديق “فسمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات” وصف يلخص لنا المسافة بين مقام النبوة ومقام الصديقية!!

إذن إحكام النبي صلى الله عليه لخطته وأخذه بكل الأسباب لم تمنعه أيضا من وصول سراقة إليه ولكنها عناية الله وتأييده هي التي عصمت رسول من أن يناله السوء.

إن حسن التوكل على الله تعالى، يعني صدق اعتماد القلب على الله في دفع المضار وجلب المنافع، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي إلا الله، ولا يمنع إلا الله، ولا يضر ولا ينفع سواه.

لقد كان صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة المباركة متوكلاً على ربه، واثقاً بنصره، يعلم أن الله كافيه وحسبه ، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها. بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان، ومع هذا لم يكتب له التوفيق بسبب إحكام خطته، ولكنه نجا ببركة توفيق الله عز وجل له، فالمطلوب هو الأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك مجرى الأمور بيد مسبب الأسباب فإليه توجه وعليه توكل وبه استعن  وفوض الأمر إليه.


(*) من علماء الأزهر الشريف.

اترك تعليق

  1. يقول معنى موفق:

    ولم يتخبطوا خبط عشواء، بل مكروا مكر الليل والنهار، وقد توفر لديهم من الدهاء ومن الإمكانات المادية والطاقات البشرية ما يؤهلهم للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون جهد أو عناء، وقد ظهر ذلك جليا منذ الساعات الأولى للهجرة، [هذا معنى سديد وكثيرا ما يصور العلمانيون كفار مكة على أنهم كثرة غير منظمة تغلب عليها أقلية من المسلمين بفضل تنظيمهم]

  2. يقول د رمضان خميس:

    نظرات تربوية وتوجيهية راقية نفع الله بكم فضيلة الدكتور الحبيب

  3. يقول ALaaEldin Hussein:

    ما شاء لا قوة إلا بالله معاني رائعة وجميلة – جزاكم الله خيرا، وجعله في موازين حسناتكم.