آيات وسنن (٢) – ﴿قَدۡ أَفلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾

بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه(*)

قوله تعالى:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ المؤمنون:١، هو مفتَتح سورة “ٱلۡمُؤۡمِنُونَ” المكية، محورها قضية الإيمان مع مختلف دلائله ومسائله؛ ومقصودها كما يدل اسمها اختصاص المؤمنين بالفلاح على ما تحلوا به من أصول الفضائل الروحية والعملية التي بها تزكية النفس واستقامة السلوك [1]. جاء افتتاحاً بديعاً؛ “لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله”[2]، وتشير الآية إلى ما يحققه حينما أناطه الله تعالى “بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح، فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه”[3]. ومما فرعه عليه ما وصفهم به تعالى من الخصال بعد البشارة:﴿ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی صَلَاتِهِمۡ خَـٰشِعُونَ ۝٢ وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ۝٣ وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ ۝٤ وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَـٰفِظُونَ ۝٥ إِلَّا عَلَىٰۤ أَزۡوَ ٰ⁠جِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَیۡرُ مَلُومِینَ ۝٦ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَاۤءَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ۝٧ وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰ⁠عُونَ ۝٨ وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَ ٰ⁠تِهِمۡ یُحَافِظُونَ ۝٩ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡوَ ٰ⁠رِثُونَ ۝١٠﴾ المؤمنون.

نحن إذن أمام سنة إلهية اجتماعية ثابتة لا تتبدل، تلك هي سنة الله في الفلاح وبلوغ المراد؛ إن أتى الإنسان بمقدماتها وأسبابها، وانتفت موانعها، وتتمثل هنا في “الإيمان”. ونحن إن أردنا تطبيق تعريف السنن الاجتماعية في هذا المقام، نقول إن الإنسان إذا خضع للإيمان في تصوراته وأفكاره وأعماله وسلوكه العام الفردي والجماعي في الحياة، وصار حاله حال المؤمنين، ترتب على ذلك فلاحه وسعادته في الدنيا والآخرة.

مما يعني أننا أمام صياغة سننية شرطية ارتبطت فيها النتيجة (الفلاح) بالسبب (الإيمان). وتكمن أهمية هذه الصيغة في أثرها التربوي على الإنسان، وذلك من جهة ما تقدمه مثل هذه السنن والقوانين الإلهية من “خدمة كبيرة للإنسان في حياته الاعتيادية، وتلعب دورًا عظيماً في توجيهه، لأن الإنسان ضمن تعرّفه على هذه القوانين، يصبح بإمكانه أن يتصرف بالنسبة إلى الجزاء، ففي كل حالة يرى أنه بحاجة إلى الجزاء يُعمل هذا القانون ويوفر شروطه، ففي كل حالة يكون الجزاء متعارضًا مع مصالحه ومشاعره، يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون. إذاً القانون الموضوع بصيغة القضية الشرطية، موجِّه عملي للإنسان في حياته”[4].

بهذا يبرز لنا جلياً ذلك المقصد القرآني من كشف السنن الإلهية؛ بأن يستثمرها الإنسان في حياته الفردية والجماعية والعمرانية، ويفيد منها في توجيه سلوكه واستقامته، وتسخيرها في هداية الإنسانية إلى صلاحها، وإثارة الخير في نفوسها[5].

كما استخدمت الآية أسلوباً لغوياً هو الأنسب في التعبير عن السنن من حيث خصائصها، من الثبات والاطراد، وهو التأكيد وما يدل على التحقق والوقوع، فها هي الآية يُسْتعمل فيها أسلوب التحقيق بـ“قد” المقترن بالفعل الماضي/السنة الإلهية “أفلح” مع دلالتها على المستقبل، فتضعنا أمام مسألتين لغويتين قرآنيتين:

  • الأولى:”قد” مع الفعل الماضي التي تفيد التحقيق كما عند النحاة:

إن “قد” الداخلة على الماضي في قوله تعالى:﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾، لإثبات الخبر المتوقع وتوكيده؛ فأكد خبر الفلاح “بحرف (قَدْ) الَّذِي إذا دخل عَلى الفعل الماضي أفاد التحقيق؛ أيِ: التوكيد. فحرف(قَدْ) في الجملة الفعلية يفيد مفاد (إنَّ واللّامِ) في الجملة الاسمية، أي يفيد توكيداً قويّاً. ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء فلاحِهم … فلما أخبروا بأن ما ترجوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق. فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله. ولعل منه: قد قامت الصلاة، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة، وقد قال النبي ﷺ:{أرِحْنَا بها يا بلال}[6]، وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان”[7].

وهكذا جاء التعبير بـ“قد” في غاية التناسب والدقة، بما يدل على إثبات التحقق والوقوع، وصدق الخبر، وتأكيد الوعد، وكل هذا من خصائص سنن الله في عباده ومعاملته لهم ترتيباً على عملهم؛ وهو سبحانه وتعالى الأصدق قيلاً:﴿وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِیثࣰا﴾ النساء:٨٧،﴿وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ النساء:١٢٢.

  • الثانية: التعبير بالماضي عن المستقبل في “أفلح”:

سنة الله في الفلاح ستقع في المستقبل نتيجة مقدمات وشروط في الحال؛ فيفترض أن يتم التعبير عنها بزمن المستقبل لا الماضي:(سيفلح)، لكنها ترد بالماضي، والمراد المستقبل، وهذا أمر مخالف للمعهود في اللغة صرفيًا. وقد أدرجه ابن قتيبة فيما أسماه “باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه”[8]، ومن ذلك “أن يأتي الفعل على بنية الماضي وهو دائم أو مستقبل”[9]. ويعرف هذا بالالتفات الذي يكثر وجوده في القرآن، الذي يعد “خلاصة علم البيان، وإليها تستند البلاغة، وعنها يُعنعن، وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله، فهو يقبل بوجهه تارةً كذا، وتارةً كذا، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة، لأنه يُنتقل فيه عن صيغة إلى صيغة، كانتقال من خطاب حاضر إلى غائب … أو من فعل ماض إلى مستقبل”[10].

وفائدته “أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد، كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده، لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها. والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي، أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل، واستحضار صورته، ليكون السامع كأنه يشاهدها، والغرض بهذا هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد بعدُ”[11].

****

  • تحليل طرفي السنة الإلهية في: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾
  • أولا: الفلاح:

إن إخباره سبحانه وتعالى عن سنته في الفلاح في:﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾، نظيره:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾، و:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ﴾ الأعلى:١٤، لـــ”يؤكد به الوعد أو الظفر، وإدراك البغية، وهو إما دنيوي كالظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا من الغنى والعز والبقاء مع الصحة ونحوها، أو أخروي وهو بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل”[12]، وقد جاء الإخبار بالفلاح في:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ دون ذكر متعلِّقٍ بفعل الفلاح، ما يقتضي تعميم ما به الفلاح المطلوب، فكأنه قيل: قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه … ومعنى الفلاح الظفر بالمطلوب من عمل العامل [13]. معنى ذلك أن الفلاح لا يقتصر مفهومه وصوره على الآخرة، بل يشمل الدنيا أيضاً، بنيل المطلوب من المنافع والمصالح، وما به يطيب العيش كما يرضى الخالق سبحانه، وهو ما يؤكده مجمل القرآن الكريم؛ إذ يتحدث عن “الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة؛ فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة.الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته؛ والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح، وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين”[14].

فالفلاح الدنيوي كقوله تعالى:﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰۤ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَفَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَرَكَـٰتࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ الأعراف:٩٦، وقوله:﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِي شَیۡـࣰٔاۚ﴾ النور:٥٥، وقوله:﴿وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾، وقوله:﴿وَلَوْ أنَّهم أقامُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ لَأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ المائدة:٦٦.

فهذه وعود ربانية صادقة، وسنن إلهية ناجزة؛ أن الإنسان أفراداً ومجتمعاً وأمةً إذا استقام على طريق الله المستقيم مكنه من الخيرات والبركات والسعادات. وقد “قام صدر هذه الأمة، من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله”[15].

أما الأخروي فنجد مثل قوله سبحانه:﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰا﴾ النساء:١٢٢، وقوله:﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾ النساء:١٣، وقوله:﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِیمًا﴾ الأحزاب:٧١، وقوله:﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرٌ عَظِیمࣱ﴾ المائدة:٩.

ومن الآيات التي جمعت بين الفلاحين قوله عز وجل:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱرۡكَعُوا۟ وَٱسۡجُدُوا۟ وَٱعۡبُدُوا۟ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُوا۟ ٱلۡخَیۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ الحج:٧٧؛ حيث أمر سبحانه بجملة من الأمور الإيمانية والخير عموماً، ثم علق الفلاح عليها بقوله:﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، أي الفوز بالمطلوب المرغوب، والنجاة من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده، فمن فعل ذلك ووفق إليه، حقق النجاح والفلاح [16].كما قال تعالى:﴿مَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَلَنُحۡیِیَنَّهُۥ حَیَوٰةࣰ طَیِّبَةࣰۖ وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ النحل:٩٧، فوعد سبحانه من جمع بين الإيمان والعمل الصالح في الدنيا بالحياة الطيبة، وذلك بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا من حيث لا يحتسب، ثم وعده بالجزاء الحسن والأجر العظيم في الآخرة [17].

  • ثانياً: الإيمان:

والفلاح كما وعد به سبحانه ببعديه متوقف تحقيقه على اتباع طريق “الإيمان”، قضية الإنسان الأولى والكبرى في الوجود، بل وقضيته المصيرية بالنظر إليه، إنه لسعادة الأبد أو شقوته، وإنه لجنة أبداً أو لنار أبداً، وليس أمراً هامشياً يمكن الاستخفاف به والغفلة عنه [18]. وهو في حقيقته “اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود. ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر، وبالنواميس التي تحكم هذا الكون، وبالقوى والطاقات المذخورة فيه”[19].

هذا الكائن الإنساني الفاني بغير إيمان حياته بلا معنى، بل هو كريشة في مهب الريح؛ لا يعرف استقراراً ولا سكينةً، ولا يعلم حقيقة نفسه، ولا حكمة وجوده، ولا غاية حياته ومصيره، ولا مغزى رحيله بعد حين؟! بل يعيش قلقاً وحيرةً وتيهاً، فيكون حاله كما يصف تعالى في قوله:﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا رَّجُلࣰا فِیهِ شُرَكَاۤءُ مُتَشَـٰكِسُونَ وَرَجُلࣰا سَلَمࣰا لِّرَجُلٍ هَلۡ یَسۡتَوِیَانِ مَثَلًا﴾ الزمر:٢٩، حيث مثَّل لإنسان بلا إيمان “قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع: كل واحد منهم يدعي أنه عبده، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى ومشاده، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره سادر، قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته؟ وعلى أيهم يعتمد في حاجاته”[20]. وهو مقابل لحال المؤمن الذي “سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد وقلبه مجتمع، أى هذين العبدين أحسن حالا وأجمل شأنا؟”[21]. لا شك انهما لا يستويان؛”فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحداً منهم فضلاً على أن يرضي الجميع”[22].

أما المجتمع بلا إيمان فيحكمه قانون الغاب؛ الغلبة فيه للأقوى، لا للأتقى، مجتمع هو الأشقى، وإن توفرت فيه كل وسائل الرفاهية وجميع أسباب النعيم، لا تتجاوز غايات أهله شهواتهم المادية، لأنهم:﴿یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ﴾ الروم:٧. صحيح أنه بمقدور علمهم أن يهيئ لهم وسائل الحياة، ويرقي جانبها المادي؛ ويحسن الكثير من جوانبها؛ فيقلص الزمن، ويختصر المسافات الطويلة، ولهذا نُردد أن عصرنا “عصر السرعة” أو”التغلب على المسافات”، ولا نسمع أنه عصر “الفضيلة” أو “السعادة والسكينة”، لكنه لا يهدي إلى غايات حياتهم ومثلها الأعلى، ولا يصلهم بأعماقها وما ورائياتها! [23].

فيظل الإيمان إذاً ملاذ الإنسان الآمن من كل خوف، إنه “أصل الحياة الكبير، الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره … وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة… وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال، ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون، وتنسلك في طريق واحد، وفي حركة واحدة، لها دافع معلوم، ولها هدف مرسوم”[24].

وهذا الإيمان بما هو ذلك السبب الأعظم لفلاح الإنسان، ليس منحصراً معناه في جانبه القلبي الوجداني، بل يشمل الجانب العملي، وبهما يحقق الإنسان كمال قوتيه العلمية والعملية [25]؛ فمهما كان متشبِّعًا بالإيمان قلبيًّا، يلزمه أن يعمل العمل الصالح ويتقنه؛ فهو “علة الخلق، ومادة الابتلاء والاختبار، في الدنيا، ومقياس النجاة في الآخرة”[26]، لقوله تعالى:﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ الملك:٢.كما أنه “بالعمل يحقّق الإنسانُ أصلحَ ما في إنسانيته، وبالعمل يحقّق أصلحَ ما في الكون، الحياة الدنيا مَحكمته الأُولى على ما قدّم من خير أو شر، وحياة الآخرة مَحكمته الثانيــة، ومعيار الحكم في المحكمتين العمل والعمل وحده؛ فبالعمل يتحرّر الإنسان. ولو جاز أن يُوصَف هذا الدين الحنيف بغير دين الاسلام لوُصِف بأنه دين العمل،﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ التوبة:١٠٥”[27].

لقد جعل الله تعالى الإيمان منهجاً تربوياً شاملاً وقاصداً، حدده في مبادئ اعتقادية وتصوراتٍ كونية، وأنواع من العبادات التهذيبية، ومكارم الأخلاق [28]، يتغيى صلاح الإنسان وترقيته ليخرج شخصيةً إنسانيةً ذات عقلية قويمة، ونفسية مستقيمة؛ وذات فاعلية ودافعية منتجةٍ في الحياة، لأجل الفلاح في النهوض بأعباء رسالته الاستخلافية [29].

وعليه، فإن الإيمانَ سببَ الفلاح المقصودَ ما كان بصورته الكاملة؛ يشمل الجانبين القلبي والعملي، وقد

وصف الله تعالى المؤمنين في مطلع “المؤمنون” بجملة من الخصال العملية، فقال:﴿ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی صَلَاتِهِمۡ خَـٰشِعُونَ ۝٢ وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ۝٣ وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ ۝٤ وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَـٰفِظُونَ ۝٥ إِلَّا عَلَىٰۤ أَزۡوَ ٰ⁠جِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَیۡرُ مَلُومِینَ ۝٦ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَاۤءَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ۝٧ وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰ⁠عُونَ ۝٨ وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَ ٰ⁠تِهِمۡ یُحَافِظُونَ ۝٩١٠﴾؛ أي جرى ذكرهم بخصال هي صور وأمثلة للعمل الصالح، و”كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم”[30]. وفي موضع آخر يقول تعالى:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ الحجرات:١٥؛ فالإيمان الصادق فضلًا عن كونه تصديقًا قلبيًّا ثابتًا لا ريب فيه، لا بد أن ينبثق منه العمل الصالح، متمثلا هنا في “الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله”، ذلك أن “القلب متى تذوّق حلاوة هذا الإيمان واطمأنّ إليه وثبت عليه، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب، في واقع الحياة، في دنيا الناس، يريد أن يوحّد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة”[31].

*****

الحاصل إذاً من كل ما تقدم أن سنة الله في الفلاح الإنساني منوطةٌ ابتداءً ودواماً بصفات وأخلاق وعقائد وسلوكات تقتضيها، تجمعها كلية “الإيمان”، أو لنقل سنن الهداية التي شرعها الله تعالى لإصلاح الانسان وتزكيته تأهيلاً له لإصلاح واقعه، فهي”تلك الأصول اللازمة لهداية الناس في كل زمان ومكان، من قضايا أصول الدين والعبادات والمعاملات والأخلاق والقيم، وثوابت الفطرة، وأصول الاجتماع والعمران البشري”[32].


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

الهوامش:

ومادام تمكن هذا الإيمان من النفس الإنسانية، كان الفلاح ثابتاً، والنجاح حليفاً:﴿وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ النساء:١٢٢.

[1]– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط1، 1984م ١٨/١٠٥، والتحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، ط ١٩٨٤م، ١٨/٦.

[2]– التحرير والتنوير، ١٨/٨.

[3]– نفسه، ١٨/٨.

[4]– يراجع، السنن التاريخية في القرآن الكريم، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط(١٤٠٩هـ/١٩٨٩م)، ص ٨٤.

[5]– علم السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، رشيد كهوس، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، دبي، ط١، ٢٠١٧م، ص ٩٤.

[6]– أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، رقم ٤٩٨٦، وقال: إسناده صحيح.

[7]– التحرير والتنوير، المرجع السابق، ١٨/٧-٨.

[8]– تأويل مشكل القرآن،عبد الله ابن قتيبة، دار التراث، القاهرة، ط٢، (١٣٩٣ه/١٩٧٣م)، ص ٢٧٥.

[9]– نفسه، ص ٢٩٥.

[10]– المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدين ابن الأثير، تحقيق: د.أحمد الحوفي ود.بدوي طبانة، طبعة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، بدون تاريخ، ٢/١٣٥.

[11]– نفسه، ٢/١٤٩..

[12]– حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، محمد الأمين الهرري، دار طوق النجاة، بيروت، ط١، (١٤٢١ه/ ٢٠٠١م)، ٣٢/٤٤.

[13]– التحرير والتنوير، ١٨/٨.

[14]– في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط٩، ١٩٨٠م، ١٨/٢٤٥٣.

[15]– تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ط٢، 2002م، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، ١٨/٦٧٠-٦٧١.

[16]– انظر نفس المصدر، ١٧/٦٣٩.

[17]– انظر نفس المصدر، ١٤/٥٢١.

[18]– يراجع القرضاوي، يوسف، الإيمان والحياة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط٤، ١٩٧٩م، ص٥.

[19]– في ظلال القرآن، ٣٠/٣٩٦٥.

[20]– الكشاف، جار الله أبو القاسم الزمخشري، تحقيق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، ط١، ١٩٩٨م، ٢٤/٩٣٩.

[21]– نفسه، ٢٤/٩٤٠.

[22]– في ظلال القرآن، ٥/٣٠٤٩.

[23]– الايمان والحياة، ص ٩-١٠.

[24]– في ظلال القرآن، ٣٠/٣٩٦٥.

[25]– التبيان في أقسام القرآن، ابن القيم الجوزية، تحقيق: عبد الله بن سالم البطاطي، مجمع الفقه الإسلامي، جدة، ط١، ١٤٢٩ه، ص١٣٦.

[26]– مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح، ماجد عرسان الكيلاني، كتاب الأمة،ع ٢٩، ط1، 1411هـ، المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، الدوحة، ص41.

[27]– الإسلام والإنسان، حسن صعب، طبعة دار العلم للملايين، بيروت، ص89.

[28]– يراجع منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر- دمشق، ط٢، (١٣٠٧ه/١٩٨٧م)، ص ٢٧.

[29]– يراجع التوحيد التزكية العمران، طه جابر العلواني، دار الهادي، بيروت، ط١، (١٤٣٤ه/٢٠٠٣م)، ص ١١١-١١٣.

[30]– التحرير والتنوير، ١٨/٩.

[31]– في ظلال القرآن، ٣٠/٣٣٤٦.

[32]– علم السنن الإلهية من الوعي النظري الى التأسيس العملي، ص ٤٩.

اترك تعليق