آيات وسنن (٣) ﴿وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟﴾

د.فاطمة الزهراء دوقيه(*)

قول الله تعالى:﴿وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟﴾ جزء من الآية:﴿قُلۡ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّمَا عَلَیۡهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَیۡكُم مَّا حُمِّلۡتُمۡۖ وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟ۚ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ﴾ النور:٥٤، التي من الجلي أنها تطرح موضوعاً عظيماً متعلقاً بعلاقة الإنسان بربه، بل بمصيره، ألا وهو طاعة الله تعالى وقرينها طاعة رسوله ﷺ، وذلك في سورة “النور” المدنية، التي مقصودها كما يقول البقاعي”مدلول اسمها المودع قلبها، المراد منه أنه تعالى شامل العلم، اللازم منه تمام القدرة، اللازم منه إثبات الأمور على غاية الحكمة”[1]، واسمها النور قد ذكر في السورة “بلفظه متصلا بذات الله:﴿ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾، ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح؛ ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة، وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية، تنير القلب، وتنير الحياة، ويربطها بذلك النور الكوني الشامل، إنها نور في الأرواح، وإشراق في القلوب، وشفافية في الضمائر، مستمدة كلها من ذلك النور الكبير”[2]. وطاعة العبد لله ورسوله واهتداؤه، من هذا النور، ومن آثاره في القلوب والأرواح؛ ومن جملة الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء السورة، التي تنير الحياة الإنسانية، والمنبثقة من النور الإلهي.

وقوله تعالى:﴿وَإِن تُطِیعُوهُ تَهْتَدُوا﴾، يضع معادلة سننية مركبة من شرط وجزاء، ومقدمات ونتائج؛ بحيث إذا حدثت الأفعال التي هي بمثابة الشرط والمقدمات، تحصل الأفعال التي هي الجزاء والنتائج. الشرط هنا والمقدمات طاعة الله تعالى ورسوله:﴿وَإِن تُطِیعُوهُ﴾؛ والطاعة “موافقة الأمر، وتكون بفعل الأوامر واجتناب النواهي”[3]، أما الجزاء والنتائج فالاهتداء: ﴿تَهْتَدُوا﴾، وذلك “إلى الحق الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير والمنجي من كل شر”[4]. وهي وعد رباني صادق ومحقق، وسنة إلهية اجتماعية ثابتة وناجزة لا تتبدل؛ سنة الله وفعله في اهتداء العبد وتمكينه من الهداية، وما يعنيه من تحقق التوفيق والسداد في الأمور كلها، ثم ما يلزم من ذلك من الشعور بالرضى والسعادة في الدنيا، فضلا عن السعادة في الآخرة: ﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾ النساء:١٣، وقد أطلق سبحانه وتعالى الوعد بالجزاء الحسن نتيجة طاعته دون تقييد بأي الدارين، في مثل قوله:﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِیمًا﴾ الأحزاب:٧١، ليكون المعنى الهداية والتوفيق في المعاش والمعاد؛ والفوز بالنعيمين الدنيوي والأخروي [5]. وكل هذا مشروط بأن يأتى العبد بالمقدمات والأسباب، وهي أفعاله في “طاعة الله ورسوله” في كل ما أمر به في جميع أحواله وميادين حياته.

وبوجه عام، فهذه الجملة: ﴿وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟﴾، صيغة سننية لامة جامعة ترتبط فيها النتيجة والغاية (الاهتداء)، بالمقدمة والسبب (الطاعة)، وجاءت شرطية باستخدام أداة الشرط “إن”؛ إذ علق الله تعالى بها اهتداء الناس على طاعته، فلا يقع إلا بها[6]. وهي صيغة تشي بالحسم والجزم، وبكل ما تحمله السنن الإلهية من خصائص، ولعله يكفي أنها وعد الله، ووعد الله صادق محقق لا يتخلف، وقد قال سبحانه:﴿وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا یُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ الروم:٦.

وليس خافيا أن هذه السنة تتضمن إرشاداً ودلالةً للإنسان إلى كل خير بترغيب ولطف:﴿وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟﴾؛ فتُوجهه إلى اتباع طريق طاعة الله تعالى، والامتثال لأمره ونهيه، والخضوع والإسلام الكليين له، ليحقق النجاح والتوفيق والسداد في أموره كلها معاشاً ومعاداً. وذلك من إرادة الله سبحانه وتعالى من وضعه لسنن الحياة عامةً، بأن تكون إرشاداً إلى الصواب والحق، وقد قال:﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُبَیِّنَ لَكُمۡ وَیَهۡدِیَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَیَتُوبَ عَلَیۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾ النساء:٢٦، فالله يريد أنْ يعرف الإنسان السُّنَن التي تجري على الاجتماع الإنساني، كي تستقيم حياته، ويحقق كماله الإنساني وسعادته، فلا يضل عن غاية خلقه وهي عبادة الله تعالى:﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ﴾ الذاريات:٥٦، فيبعد عنه الشقاء والخيبة، ويجلب النجاح والتوفيق.

** ** **

طرفا السنة الإلهية في:﴿وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟﴾

أولا: الطاعة:

أول طرف في هذه المعادلة السننية ذلك الأمر المطلوب من الإنسان فعله بإرادته واختياره، لتحقيق الوعد الرباني له بالاهتداء، وهو المسمى الكلي “طاعة الله”؛ من الأصل “طاع” الدال على “الإصحاب والانقياد. يقال: طاعه يطوعه، إذا انقاد معه ومضى لأمره. وأطاعه بمعنى طاع له. ويقال لمن وافق غيره: قد طاوعه”[7]، وهي “أكثر ما تقال في الائتمار لما أمر، والارتسام فيما رسم”[8]، فهي الامتثال لأمر الله ونهيه، والانقياد لشرعه وتنفيذ حكمه.

كما يمكن وصفها أنها الفرع الأول والأكبر عن الأصل “الإيمان” قضية الإنسان المصيرية، المتعلقة به سعادته أبدا أو شقوته أبدًا في الدنيا والآخرة، فلا يمكن اعتبار قضية طاعة الله أمراً هامشياً يمكن الاستهانة به، والغفلة عنه، فهو في حقيقته التعبير العملي للإيمان، يقول سبحانه:﴿وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ الأنفال:١،”فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية، يتجلى فيها، ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته”[9]. وقد وصف الله تعالى المؤمنين في نفس سورة نفسها بقوله:﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذَا دُعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ أَن یَقُولُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ النور:٥١. إنه “السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف، السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم، وما عداه الهوى، النابعان من التسليم المطلق لله، واهب الحياة، المتصرف فيها كيف يشاء، ومن الاطمئنان إلى أن

ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم، فالله الذي خلق أعلم بمن خلق”[10].

واللافت للنظر أن هؤلاء موعودون بالفلاح، الذي لا شك أنه يعني من وجه هدايةً وتوفيقاً لهم من الله، “الذي يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بعلمه وعدله؛ فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم وينظم علاقاتهم ويحكم بينهم بشر مثلهم قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا.. والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد، لا عوج فيه ولا التواء … واضح مستقيم”[11]. وذاك هو المنطلق الذي ينطلق منه المؤمن في طاعته وانقياده لأمر الله وحكمه، وهو أنه خالقه المنعم عليه، والأعلم به، وبما يصلحه وما لا يصلحه، فهو خير من ينظم أمره، ويدبر شأنه، ويرسم له النهج الذي يسير عليه في حياته.

وهكذا، نخلص إلى أن الحديث عن طاعة الله ورسوله هو نفسه الحديث عن القرين الدائم للإيمان في القرآن، وهو العمل الصالح:﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ﴾؛ فالإنسان مهما كان متشبِّعًا بالإيمان قلبيًّا، ممتلئا به وجدانيّاً، يلزمه أن يطيع من يؤمن به، ويمتثل لأمره، ويجتنب نهيه، أي أن يعمل العمل الصالح ويتقنه، فـ”هو عِلّة الخَلْق، ومادة الابتلاء والاختبار في الدنيا، ومقياس النجاة في الآخرة”[12] مصداقا لقوله تعالى:﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ الملك:٢.

ومفهوم العمل الصالح كما هو مفهوم الطاعة وتمثيلها في القرآن عامّ وشامل؛ ذلك أن قوله تعالى:﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ومثله:﴿وَإِنْ تُطِیعُوهُ﴾، أو:﴿وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، جامع لأشتات الأعمال الصالحة، التي شرعت لصلاح حال الإنسان فرداً وجماعةً، وقوام أمره في معاشه ومعاده؛ فبالعمل الصالح يحقق غاية وجوده حتى ينتهي إلى كماله[13]. ولذا تتنوّع الأعمال الصالحة وأفعال طاعة الله تعالى، وتتسع دوائرها، ولا تنحصر في دوائر الشعائر التعبّدية والأعمال الدينية، فقد جاء الهدي الرباني تشريعًا إلهيًّا كاملاً وشاملا؛ “يتناول جميع فعاليات الإنسان الدنيوية والأخروية، وجميع وجوه سلوكه من السلوك الروحي إلى السلوك الاقتصادي. إنّ الإنسان القرآني هو كلّ عضوي روحي حيّ، وسلوكه متكامل يهدف وجهة علوية هي السعادة الدنيوية والأخروية”[14]. وإذا نحن أردنا رصد أنواع العمل الصالح من خلال استقراء الآيات القرآنية الكثيرة فيمكن تصنيفها في ثلاثة أنواع كبرى:”عمل ديني صالح، وعمل اجتماعي صالح، وعمل كوني صالح”[15].

وجملة القول أنه بالعمل الصالح طاعةً لله تعالى ائتماراً وانتهاءً، يرقى الإنسان في سُلَّم كماله [16]، ويحقق ما وعده به ربه من أن يهديه في أموره كلها، ويوفقه، ويسدد خطاه في مسيرة حياته.

** ** **

ثانيا: الاهتداء:

“الاهتداء” هو الطرف الثاني في معادلتنا السننية جزاءً للإنسان وعداً من الله تعالى، ترتيباً على طاعته إياه. ولقوله تعالى: ﴿وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟﴾، نظائر كثيرة في كتابه العزيز، كقوله:﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ یَهۡدِیهِمۡ رَبُّهُم بِإِیمَـٰنِهِمۡ﴾ يونس:٩، و:﴿یَهۡدِی بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَ ٰ⁠نَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَیُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦوَیَهۡدِیهِمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾ المائدة:١٦، ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُوا۟ بِهِۦ فَسَیُدۡخِلُهُمۡ فِی رَحۡمَةࣲ مِّنۡهُ وَفَضۡلࣲ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَیۡهِ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا﴾ النساء: ١٧٥. في جميع هذه المواضع يعد سبحانه وتعالى عباده بالهداية بلفظها جزاءَ طاعته، المحددة في جملة من الأعمال، التي يمكن تسميتها بـ”أفعال الطاعة”: من الإيمان، والعمل الصالح، واتباع رضوان الله، والاعتصام به، وهي بدورها عامة وكلية. فمَنِ يطع الله ورسوله بفعل الأوامر واجتناب النواهي، يهتدي، ولا يتيه ولا يضل ولا يشقى، لأنَّه يعرف غايته، ويسير في الطريق المستقيم الموصِل إلى سعادته في الدارين؛ والله تعالى يقول:﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَىٰ﴾ طه:١٢٣، ويقول:﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَخۡشَ ٱللَّهَ وَیَتَّقۡهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ﴾ النور:٥٢. كما يتقرر هذا المعنى بالتضمين في الآيات التي تتناول العصيان والإعراض عن أمر الله، وما يترتب عليه من الجزاء السيء في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى:﴿وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلࣰا مُّبِینࣰا﴾ الأحزاب:٣٦، وقوله:﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ﴾ طه:١٢٤.

وحين يخبر سبحانه بسنته بفعل الاهتداء:﴿تَهۡتَدُوا۟﴾، فإنه لا يذكر متعلِّقه، ما يقتضي التعميم، ليكون المعنى تَهتدوا إلى كل خير ونفع [17]، كأنه يقول: تهتدوا في كل شؤونكم وأموركم في الحياة، إلى كل خير تحققوا به كريم المقام، وطيب الحياة، وكما ذكر ابن عاشور، فإن “الهدى إنما يتعلق بالأمور النافعة، لأن حقيقته إصابة الطريق الموصل للمكان المقصود، ومجازه رشاد العقل، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلقه هنا”[18]. وفي مواضع أخرى يذكر متعلق الوعد بالاهتداء والهداية، وإن جاء عاما وكليا، فنلفى قوله تعالى مثلاً:﴿فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُوا۟ بِهِۦفَسَیُدۡخِلُهُمۡ فِی رَحۡمَةࣲ مِّنۡهُ وَفَضۡلࣲ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَیۡهِ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا﴾ النساء:١٧٥، أي “يوفقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به”[19]، بينما نجد متعلق الهداية في قوله عز وجل:﴿فَمَن یُرِدِ ٱللَّهُ أَن یَهۡدِیَهُۥ یَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَـٰمِ﴾ الأنعام:١٢٥، انشراح الصدر للإسلام، بمعنى “اتسع وانفسح، فاستنار بنور الإيمان، وحيي بضوء اليقين، فاطمأنت بذلك نفسه، وأحب الخير، وطوعت له نفسه فعله، متلذذا به غير مستثقل، فإن هذا علامة على أن الله قد هداه، ومَنَّ عليه بالتوفيق، وسلوك أقوم الطريق”[20].

والاهتداء المقرر سنةً ربانيةً ناجزةً معناه تحقق الهداية كفعل لله تعالى، ومعناه التوفيق الذي يختص به من اهتدى، الوارد في قوله تعالى:﴿وَٱلَّذِینَ ٱهۡتَدَوۡا۟ زَادَهُمۡ هُدࣰى﴾ محمد:١٧، وقوله:﴿وَمَن یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ یَهۡدِ قَلۡبَهُۥ﴾ التغابن:١١، وقوله:﴿یَهۡدِیهِمۡ رَبُّهُم بِإِیمَـٰنِهِمۡ﴾ يونس:٩، وقوله:﴿وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَا﴾ العنكبوت:٦٩،﴿وَیَزِیدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ٱهۡتَدَوۡا۟ هُدࣰى﴾ مريم:٧٦، ﴿وَٱللَّهُ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمٍ﴾[21]. أي أن الحديث عن سنة الاهتداء هو عن فعل الله في هداية التوفيق والإلهام، وخلق المشيئة المستلزمة للفعل، التي يضعها ابن القيم في المرتبة الثالثة من مراتب الهداية، “وهذه المرتبة تستلزم أمرين أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى، والثاني: فعل العبد وهو الاهتداء، وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي، والعبد المهتدي، قال تعالى:﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ الأعراف:١٧٨، ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد ولهذا قال تعالى:﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ﴾، وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له ﷺ ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبداً، لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته كما قال تعالى:﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ﴾”[22].

وبوجه عام، فإن “الاهْتِدَاءُ يختصّ بما يتحرّاه الإنسان على طريق الاختيار، إمّا في الأمور الدّنيويّة، أو الأخرويّة، قال تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها﴾ الأنعام:٩٧، وقال:﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ النساء:٩٨، ويقال ذلك لطلب الهداية نحو:﴿وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ البقرة:٥٣، وقال:﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ البقرة:١٥٠”[23].

ولا شك أن اهتداء العبد وتحصيله للهداية لهو أعظم ما يحتاجه في كل حين، وأعز ما يطلبه في كل خطوة يخطوها في حياته، صغيرة كانت أو كبيرة، سواء تعلق الأمر بدينه أو بدنياه، فلا قيمة لشيء بدونها، ولا حسرة على شيء مع وجودها، إنها منى النفس وسلواها؛ بنيلها يتبين الإنسان وجهته في الحياة، ويرشُد سيره، وتُسدد خطاه، ويُوفَّق في مسعاه، ذلك أن “الهداية هي العلم بالحق، مع قصده وإيثاره على غيره، فالمهتدي هو العامل بالحق المريد له، وهي أعظم نعمة لله على العبد، ولهذا أمرنا سبحانه أن نسأله هداية الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس، فإن العبد محتاج إلى معرفة الحق الذي يرضي الله في كل حركة ظاهرة وباطنة، فإذا عرفها فهو محتاج إلى من يلهمه قصد الحق، فيجعل إرادته في قلبه، ثم إلى من يقدره على فعله. ومعلوم أن ما يجهله العبد أضعاف أضعاف ما يعلمه، وإن كل ما يعلم أنه حق لا تطاوعه نفسه على إرادته، ولو أراده لعجز عن كثير منه، فهو مضطر كل وقت إلى هداية تتعلق بالماضي وبالحال والمستقبل … وإذا كان هذا شأن الهداية، عُلم أن العبد أشد اضطراراً إليها”[24].

ودعاء العبد في صلاته:﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰ⁠طَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾ الفاتحة:٦، تعبير منه عن ذلك الاضطرار إلى الهداية، والافتقار إليها؛ إذ “يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها، وهي بيده إن شاء أعطاها عبده، وإن شاء منعه إياها، والهداية معرفة الحق والعمل به، فمن لم يجعله الله تعالى عالما بالحق عاملاً به، لم يكن له سبيل إلى الاهتداء، فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء، التي لا يتخلف عنها، وهي جعل العبد مريدا للهدى محبا له، مؤثرا له، عاملاً به. فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهي التي قال سبحانه فيها:﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ القصص: ٥٦، مع قوله تعالى:﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الشورى:٥٢، فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد، وهي التي هدي بها ثمود، فاستحبوا العمى عليها، وهي التي قال تعالى فيها:﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُون﴾التوبة:١١٥، فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم، ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها، فذاك عدله فيهم وهذا حكمته، فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم، ومنعهم ما ليسوا له بأهل ولا يليق بهم”[25].

** ** **

خلاصة

القول وجملته من كل ما تقدم، فإن سنة الله في تحقق “الاهتداء” الإنساني في الحياة أو هداية الله للإنسان في حياته، منوطةٌ ابتداءً وعلى الدوام بنهج يقتضيه في السلوك، والتزام طريقة في الحياة، تجمعها كلية “طاعة الله ورسوله” واتباع سبيله وشرعه الذي وضعه لعباده، وهي من سنن الهداية التي شرعها الله تعالى لإصلاح حال الإنسان ليصلح حال واقعه، بما هي جزء من “تلك الأصول اللازمة لهداية الناس في كل زمان ومكان، من قضايا أصول الدين والعبادات والمعاملات والأخلاق والقيم، وثوابت الفطرة، وأصول الاجتماع والعمران البشري”[26]. ولذا، فإن العبد بحاجة إلى الالتزام بإعمال هذه السنة وأفعالها على الدوام، والتصرف وفقها إذا أراد التوفيق والسداد وإصابة الحق، وبلوغ المراد والمقصود من الخير. لذا يفترض أنه “في كل حالة يرى أنه بحاجة إلى الجزاء يُعمل هذا القانون ويوفر شروطه، ففي كل حالة يكون الجزاء متعارضًا مع مصالحه ومشاعره، يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون”[27].

وطالما تمكنت طاعة الله من النفس الإنسانية، وترسخت سلوكاً ونهجاً في الحياة، كان الاهتداء محقَّقاً، والتوفيق حليفاً على اختلاف الأحوال والأحداث بإذنه تعالى:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ﴾ فاطر:٥.


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

الهوامش:

[1]– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط1، 1984م، (١٣/٢٠٠).

[2]– في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط9، 1989م، (١٨/٢٤٨٥).

[3]– تفسير القرآن الكريم (سورة النساء)، محمد ابن عثيمين، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، السعودية، ط١، ٢٠٠٩م، (١/١٠٩).

[4]– إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود محمد العمادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (٦/١٨٩).

[5]– يراجع فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن خان القنوجي، تحقيق: عبد الله بن إبراهيم الانصاري، المكتبة العصرية – بيروت، ط ١٩٩٢م، (٩/٢٥٢) و(١١/١٥٣)، ومحاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر، ط١، ١٩٥٧م، ص ٤٩٢٣.

[6]– نظم الدرر، المرجع السابق، (١٣/٣٠٢).

[7]– مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، (٣/٤٣١).

[8]– مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت، ط4، 2009م، ص ٥٣٠.

[9]– في ظلال القرآن، المرجع السابق، ٣٠/٣٩٦٥.

[10]– نفسه، (١٨/٢٥٢٧).

[11]– نفسه، (١٨/٢٥٢٧).

[12]– مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح، ماجد عرسان الكيلاني، كتاب الأمة، ع29، ط1، 1411هـ، المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، الدوحة، ص41.

[13]– انظر تفسير نظام القرآن وتأويل الفرقان، عبد الحميد الفراهي، الدائرة الحميدية، الهند، ط1، 2008م، ص399.

[14]– الإسلام والإنسان، حسن صعب، طبعة دار العلم للملايين، بيروت، ص٩٥.

[15]– مقومات الشخصية المسلمة، المرجع السابق، ص42.

[16]– يراجع التبيان في أقسام القرآن، ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الله بن سالم البطاطي، مجمع الفقه الإسلامي، جدة، ط1، 1429هـ، ص136.

[17]– تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ط٢، 2002م، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، (١٣/٣٠٢).

[18]– التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، ط: 1984م، (٨/٥٧).

[19]– تيسير الكريم الرحمن، المرجع السابق، (٦/٢٣٧).

[20]– نفسه، (٨/٣٠٤).

[21]– انظر المفردات، المرجع السابق، ص ٨٣٨-٨٣٩.

[22]– شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل، ابن القيم الجوزية، تحقيق: الحساني حسن عبد الله، طبعة دار التراث، القاهرة، ص ١٦٩-١٧٠.

[23]– المفردات، المرجع السابق، ص٨٣٩.

[24]– مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عطاءات العلم، الرياض- دار ابن حزم، بيروت، ص ٢٣٠-٢٣١.

[25]– شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل، ابن القيم الجوزية، تحقيق: الحساني حسن عبد الله، طبعة دار التراث، القاهرة، ص١١٥.

[26]– علم السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، رشيد كهوس، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، دبي، ط١، ٢٠١٧م، ص ٤٩.

[27]– السنن التاريخية في القرآن الكريم، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط(١٤٠٩هـ/١٩٨٩م)، ص ٨٤.

اترك تعليق

  1. يقول عبدالله البوزيدي:

    جزاك الله خيرا على هذا الموضوع المهم في حياة الإنسان بصفة عامة والمسلم بصفة خاصة

  2. يقول vorbelutrioperbir:

    I’m not sure exactly why but this site is loading very slow for me. Is anyone else having this problem or is it a problem on my end? I’ll check back later and see if the problem still exists.