أسماء وصفات الجمال تتجلى على أهل غزة

بقلم/ د. وصفي عاشور أبو زيد(*)

 

د. وصفي عاشور أبو زيدرئيس المركز

د. وصفي عاشور أبو زيد، رئيس المركز

من المعلوم أن التفقه بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى أمر مطلوب شرعا، وكذلك التعبد بها؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ وَذَرُوا۟ ٱلَّذِینَ یُلۡحِدُونَ فِیۤ أَسۡمَـٰۤىِٕهِۦۚ سَیُجۡزَوۡنَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف ١٨٠]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ للهِ تسعًا وتسعين اسمًا مئةً غيرَ واحدٍ من أحصاها دخل الجنَّةَ”([1]).

والمراد بإحصائها التفقه فيها لفظا ومعنى، والدعاء بها “فادعوه بها”، والتخلق بأسماء الجمال منها، والأهم من هذا كله هو تتبع آثارها في الأنفس والآفاق، ورصد تجلياتها على الحياة والأحياء، فإن هذا مما يعمق اليقين، ويزيد الذين آمنوا إيمانا.

وإلا فإن الاقتصار على حفظها وترديدها فقط لا يغني شيئا، وهو ما عبر عنه أبو حامد الغزالي بقوله: “اعلم أن من لم يكن له حظ من معاني أسماء الله تعالى إلا بأن يسمع لفظه، ويفهم في اللغة تفسيره ووصفه، ويعتقد بالقلب وجود معناه في الله تعالى، فهو مبخوس الحظ نازل الدرجة، ليس يحسن أن يتبجح بما ناله”([2]).

وقد قسم العلماء أسماء الله قسمين كما هو معروف: أسماء جمال، وأسماء جلال، فأسماء الجمال، مثل: الرحيم، الودود، اللطيف، الرحيم، وعلى الإنسان أن يتخلق بها بقدر طاقته البشرية، وأسماء الجلال، مثل: القاهر، المنتقم، المتكبر، وهذه يتعلق بها المؤمن دون التخلق، فهي لله وحده لا ينازعه فيها أحد من مخلوقاته.

الأسماء الحسنى باب مهم للتعرف إلى الله تعالى

من الأبواب المهمة إن لم يكن أهمها في التعرف إلى الله تعالى هو الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ إذ كيف نعبد من لا نعرف؟ وطريق المعرفة الأول هي أسماء هذا المعبود وصفاته.

ولهذا قال العلامة الحقق ابن القيم – رحمه الله تعالى-: “وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنَّةً: أن تطمئنَّ في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله، فتتلقَّاه بالقبول والتسليم والإذعان وانشراح الصدر له وفرح القلب به، فإنه معرِّفٌ من معرِّفات الربِّ سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب؛ حتى يخالط الإيمان بأسماء الربِّ تعالى وصفاته وتوحيده وعلوِّه على عرشه وتكلُّمه بالوحي – بشاشةَ قلبه، فينزل ذلك عليه نزولَ الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئنُّ إليه ويسكن إليه ويفرح بِهِ ويلين له قلبه ومفاصله، حتى كأنَّه شَاهَد الأمر كما أخبرت به الرسل، بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه، فلو خالفه في ذلك مَن بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم”([3]).

ومن الجدير بالذكر أن الأسماء الحسنى غير محصورة في تسعة وتسعين اسمًا فى قول عامة أهل العلم، ولم يخالف فى هذا سوى الأشعري وابن حزم، وذهب بعض الصوفية إلى أن لله ألف اسم، وفصلها بعضهم فزعم أن منها: ثلاثمائة في التوراة، وثلاثمائة في الزبور، وثلاثمائة في الإنجيل، وتسعة وتسعين في القرآن، وواحدا في صحف إبراهيم([4]). ونقل ابن العربي هذا القول معقبًا عليه بقوله: وهذا قليل فيها ولو كان البحر مدادًا لأسماء ربي لنفد البحر قبل أن تنفد أسماء ربي ولو جئنا بسبعة أبحر مثله مدادًا([5]).

ويكون المقصود بحديث الـتسعة والتسعين اسمًا الإخبار بثواب من أحصاها لا الإخبار بحصرها في هذا العدد، يقول النووي – رحمه الله -: “لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حَصْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الأَسْمَاءَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لاَ الْإِخْبَارُ بِحَصْرِ الأَسْمَاءِ”([6]).

مظاهر وتجليات أسماء الجمال على أهل غزة

من رحمة الله تعالى أن إذا قدر قدرا حفَّه باللطف الإلهي، ومن هنا قال ابن عطاء الله السكندري في حمه الشهيرة: “من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره”، ومن المعلوم والمشاهد أن العدو المحتل كان ولا يزال جل استهدافه الأطفال والنساء وتدمير البنية التحتية للمجتمع بعمائرها ومساكنها ومساجدها وكنائسها، وترتب على ذلك تهجير أهل غزة من بيوتهم؛ فضلا عن الشهداء من الأطفال والنساء والرجال.

انظروا إلى آثار اسم الله “اللطيف”، كيف لطف بخلقه، وكيف زودهم من الإيمان واليقين والرضا والاحتاسب ما جعلهم قادرين على احتضان القدر الإلهي والقضاء الرباني بما جسَّد في غزة ملحمة حقيقية للإيمان وجعلها مركزا للدعوة إلى الله تعالى عالميًّا؛ فكم رأينا ناسا يدخلون الإسلام إعجابا بهذا الثبات والصبر والرضا، فلابد أن وراء ذلك إلهًا معبودا يستحق الإيمان به والعبادة له.

انظروا إلى آثار اسم الله “الجبار”، والجبار معناه الذي يجبر قلوب عباده ويربت على أكتافهم، فكم جبر الله تعالى من مصاب، وكم هدهد على أكتاف الثكالى واليتامى والمعوزين، بتضامن الأمة الإسلامية معهم على قلة ذلك بسبب الحصار وقلة النصير.

تأملوا آثار اسم الله “الحكيم” حين قل النصير، وأُحكم الحصار، ومنعت كثير من الأمداد، طالع العالم ما يجري على أرض غزة، فتمثلت حكمة الله تعالى في دخول الناس في الإسلام، وفي انتشار الوعي في المجتمعات الأمريكية والأوربية؛ حيث تجسد هذا في خروج هذه الشعوب بالآلاف في مظاهرات تنادي بوقف الحرب؛ حيث أصبحت هذه الشعوب في واد وحكوماتها في واد آخر.

تدبروا آثار اسم الله “الكريم”، وهو الكثير الخير الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، وهو الكريم المطلق الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل المحمود بفعاله، كم أعطى أهل غزة من فضائل، وكم جعل لهم من مناقب؛ حيث صاروا مضرب الأمثال في الإيمان والثبات والتحدي، رغم الآلام والفقد والجراح.

ارصدوا آثار اسم الله “الودود”، وهو المحب لعباده، والمحبوب في قلوب أوليائه؛ ومن مظاهر حبه أنه يصطفي من عباده شهداء؛ ليحيوا حياة أبدية، وأنه يبتلي من بقي منهم بالمصائب ليطهرهم من المعايب، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: “قال ربُّكم: لا أُخرِجُ عبدًا لي من الدُّنيا، وأنا أريد أن أرحمَه، حتى أوفيَه كلَّ خطيئةٍ عمِلها بسَقَمٍ في جسدِه، أو ضُرٍّ في معيشتِه، أو إقتارٍ في رزقِه، أو خوفٍ في دنياه، حتى أبلغَ به مثاقيلَ الذَّرِّ فإن بقيَ عليه شيءٌ شددت عليه الموتَ”([7]). وهكذا لو تتبعنا بقية أسماء الجمال وتجلياتها على أهل غزة.

هذه صفحة واحدة من صفحات أسماء الجمال، ومحاولة لرصد آثارها أو بعض آثارها على مشهد واحد فقط من المشاهد الماثلة أمامنا، فكيف لو طردنا هذه المحاولة مع هذا الاسم فقط “القاهر” على مظاهر الحياة جميعا، وأحداثها كافة، ومجرياتها كلها؟ لا شك أن الإيمان سيتضاعف، واليقين سيتجذر، وكل نجاح أو فلاح في هذه الحياة أو الحاية الأخرة فهو مرهون بصدق الإيمان.

ولا نجد ختاما لهذا المقال أفضل من قول ابن القيم رحمه الله تعالى: “أسماء الله تعالى هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها ولايؤدي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمرادف محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم، فإذا عرفت هذا فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى، وأبعده عن شائبة عيب أو نقص، فله من صفة الإدراكات: العليم الخبير دون العاقل الفقيه، والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر، ومن صفات الإحسان: البر الرحيم الودود دون الرفيق والشفوق ونحوهما، وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف، وكذلك الكريم دون السخي، والخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المشكل والغفور العفو دون الصفوح الساتر، وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم غيره مقامه، فتأمل ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تعدل عما سمى به نفسه إلى غيره، كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم – إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون”([8]).


(*) أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.

([1]) أخرجه البخاري (٢٧٣٦)، ومسلم (٢٦٧٧)، بسندهما عن أبي هريرة.

([2]) المقصد الأسنى: 26.

([3]) الروح لابن القيِّم، ص٢٢١.

([4]) انظر: فتح الباري 11/ 522، وعزاه لأبي الخطاب ابن دحية الكلبي.

([5]) انظر: فتح الباري 11 / 220، وإرشاد الساري، 4/ 455.

([6]) الأذكار صـ 55. شرح مسلم 17/ 5.

([7]) أورده الذهبي في “ميزان الاعتدال”: 3/ 248، وهو حديث ضعيف؛ إذ فيه عمرو بن بكر السكسكي، وهو واهٍ.

([8]) بدائع الفوائد: 1/ 168.

اترك تعليق