الطريق إلى الحرية – جنوب إفريقيا نموذجا

بقلم: عماد سعد إبراهيم(*)

منذ مطلع القرن العشرين ظهر الكثير من الحركات التحررية في القارة الإفريقية ومن بينها حركة التحرر في جنوب إفريقيا التي ظلت تناهض ضد السياسة الاستعمارية بأشكالها المختلفة لإنكارها جميع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسكان الأصليين لجنوب إفريقيا، مما ساهم في بروز شخصيات مختلفة خلدت أسماؤها في التاريخ وكان لها الأثر الفعال في النضال التحرري بإفريقيا.

كانت تجربة جنوب إفريقيا مثالا صارخا لسياسة الفصل العنصري البغيض الذي عرف باسم- (Apartheid)، حيث حكمت أقلية بيضاء، أغلبية غير بيضاء منذ أن وطأت قدم الرجل الأبيض أرض جنوب إفريقيا، فكانت جنة للأقلية، وجحيم علي الأغلبية، واستمر الأفريقيون في نضالهم السلمي الدستوري ضد سياسات الفصل العنصري، يستعطفون تارة، ويحتجون تارة أخرى، ويأملون تارة، ولما بحت أصواتهم، ارتفعت أصوات غاضبة في الفترة ما بين عام 1950م حتى عام 1960م، عندما أخذوا يتحدون علانية ضد نظام التفرقة العنصرية عبر المقاومة السلمية الإيجابية بمختلف وسائلها كالتجمهر أمام أقسام الشرطة، والخروج إلى الشارع دون أخذ التصاريح الخاصة بهم. وقد برز دور المناضل نيلسون مانديلا في تلك الفترة، لكن استمر البيض في عزلهم الإفريقيين وزادوا من استعمال القسوة والعنف وراح المتحدثون باسم حكومة جنوب إفريقيا العنصرية يلقون بالتصريحات التي يعلنون فيها أن البيض في جنوب إفريقيا لا يوافقون علي اشتراك الرجل الأسود في حكم البلاد وأن القوانين التي أصدروها إنما هي لتنظيم العلاقة بين البيض والسود علي أساس السيد والخادم بمعنى أن السلطة في يد الرجل الأبيض، أو كما قال رئيس وزراء جنوب إفريقيا استرايدن  Strydon“يجب أن يبقي الرجل الأبيض سيدا علي الدوام!”. لكن الأيام كانت تحمل في طياتها لاحقا، ملامح لمرحلة جديدة في العلاقة بين الرجل الأبيض والأسود، لنشهد أطول وأعنف كفاح في تاريخ إفريقيا.

نقطة تحول

في أبريل 1960م- أعلنت الحكومة العنصرية، عدم قانونية حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب المؤتمر لعموم إفريقيا ومنعهما من مزاولة أي نشاط سياسي، واتهمت قيادات الحزبين بتهمة الخيانة العظمي وبذلك تكون قد أغلقت الباب أمام أي فرصة تغيير سياسي بالطرق التقليدية المتعارف عليها دوليا، حينها، أدرك مانديلا أنه لا بد من ظهور عنصر جديد فاعل لتغيير هذه المعادلة الصفرية. وإنه قد آن الأوان لانتهاج استراتيجية مختلفة في التعامل مع المستعمر، وكان يرى أن النضال السلمي وسيلة يمكن التخلي عنها عندما تفقد جدواها، ولقد أثبتت التجربة العملية أن استراتيجية المقاومة السلمية بوسائلها وتكتيكاتها المتنوعة على مدار ثلاثة عشر عاما (1948 – 1961 م)، لم تؤتي ثمارها في جنوب إفريقيا، وأيقن مانديلا أن المستعمر لم ولن يفهم سوى لغة القوة. وتحول عمل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي رويدا رويدا، إلي العمل المقاوم السري بديلا عن العمل المقاوم المعلن. لينتقل من ضيق المعارضة، إلي سعة الثورة، ثورة جذرية على كل ما هو عنصري والقضاء عليه، ثورة يحتضنها ويدافع عنها شعب جنوب إفريقيا المقهور تحت أقدام النظام العنصري، فكانت هذه نقطة تحول استراتيجية في تاريخ النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. واستطاع مانديلا أن يثبت للمعارضين صحة تبنيه لرؤية المقاومة المسلحة، وأنه متفهم جدا لطبيعة الصراع وأنه على وعي تام بكل الحركات التحررية والتجارب السابقة في كثير من دول العالم، الناجح منها والتي لم يكتب لها النجاح، وكلف مانديلا بتشكيل تنظيم عسكري سري، أطلقوا عليه اسم، (رمح الأمة MK) منفصل عن “حزب المؤتمر الوطني الإفريقي”، على أن تظل السياسة الرسمية المعلنة للحزب هي النضال السلمي.

عوامل ساعدت في تأسيس العمل المقاوم

كان هناك عدة عوامل ساعدت مانديلا ورفقائه في تأسيس العمل المسلح، كدعم الكثير من السكان المحليون للمقاومة نتيجة للظلم الواقع عليهم من نظام الفصل العنصري. (حاضنة شعبية). وكذلك دعم بعض الدول الشيوعية (كالاتحاد السوفيتي- الصين – ألمانيا الشرقية) لحركة المقاومة ماديا وعسكريا، وأيضا من خلال المساندة السياسية والدبلوماسية. ولا يجب أن ننسي هنا، أن نشير إلى لغة الخطاب التي استخدمها قادة الحركة وعلي رأسهم مانديلا والتي كانت تعكس مستوي النضج الثقافي والسياسي والوعي الاجتماعي الذي وصل إليه مانديلا ورفاقه وقدرتهم على فهم وإلهام وحشد وقيادة الجمهور.

اعتقل مانديلا ومعه أربعة من كبار قادة حزب المؤتمر بعد أربعة أعوام منذ بدأ العمل المسلح، وقاد الحراك من خارج البلاد “أوليفر تامبو” صديق مانديلا ورفيق الكفاح واستمر الحراك بقوة عبر ما يقرب من ثلاثة عقود، وازدادت أعمال العنف التي قامت بها حركة “رمح الأمة” واتسع نطاقها، واستخدمت المقاومة استراتيجية التدرج والتنوع في وسائلها، ما بين التفجيرات، وزرع الألغام وصولا إلي الخطف والاغتيالات التي كبدت الحكومة العنصرية خسائر كبيرة، حتى الاحتفالات الحكومية الرسمية لم تكن بعيدة عن أعين المقاومة، مما أرهق الحكومة.

من السجن إلي سدة الحكم

عرض الرئيس (فريدريك دي كليريك) الإفراج عن مانديلا وكل المسجونين السياسيين وعودة المسار السياسي الديمقراطي. وقبل مانديلا العرض، وفي 11 فبراير- 1991م، خرج مانديلا ورفقائه من السجن، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ جنوب إفريقيا يعيش فيها الأبيض وغير الأبيض في سلام دون تفرقة. وفي العام 1994م يفوز مانديلا بأول انتخابات رئاسية حرة، ليصبح الرئيس الأول الأسود لجنوب إفريقيا، مكللاً رحلة كفاح شعب امتدت لأكثر من ثلاثة عقود من الكفاح الثوري للقضاء على نظام الفصل العنصري وانتزاع حريته.

لقد اتسقت أفكار نيلسون مانديلا مع قضايا عصره، واستطاع خلال فترة نضاله من تحقيق ما كان يصبوا إليه السكان الأصليين في جنوب أفريقيا منذ وقت طويل، فتخلص من نظام الفصل العنصري بتوليه الحكم، بل حقق ما هو أبعد من ذلك، فقد ساعد في تحقيق ما عجز عنه قادة أخرين في بلادهم، حيث ساعد على تحقيق شكل من أشكال الاندماج الوطني، وإزالة المشاحنات والضغينة والعنف المتراكم لدي السود تجاه البيض. لكن من الإنصاف ألا نختزل سبب نجاح هذه التجربة في شخص نيلسون مانديلا؛ فهذا يعد ظلما كبيرا لكل الفاعلين والمناضلين في التجربة سواء كانوا من الأغلبية السوداء أو من الأقلية البيضاء.

تجارب الماضي بوابة للمستقبل

إن تجربة جنوب إفريقيا تعد من أنجح تجارب التحرر والاستقلال، فلقد واجهت كثيرا من الصعوبات لتحقيق غايتها، وستظل تلك التجربة، وكفاح شعبها، محل الاحترام والدراسة والتحليل واستلهام الدروس والعبر منها، لكن من المعلوم أن لكل بيئة ظروفها الملاءمة لعملية التغيير، لذلك يصعب استنساخ تجربة جنوب إفريقيا في العديد من البلدان الأخرى سواء في مواجهة العنصرية أو الاستعمار، أو الأنظمة الديكتاتورية، فخير مثال على ذلك هو استمرار الكيان الغاصب في فلسطين المحتلة منذ 1948م وحتى يومنا هذا يمارس كل أنواع العنصرية على الشعب الفلسطيني، على الرغم من  وجود فصيل يتبنى المقاومة المسلحة ضد المستعمر. وكذلك حراك الكثير من شعوب العالم المقهورة, ضد أنظمتها الديكتاتورية الحاكمة،… لكن, لعلّ العنصر الحاكم في نهاية المطاف هو الدعم الدولي، فيرى البعض أنه لولا الحظر الاقتصادي وجو العزلة السياسية الذي طبقه العديد من دول العالم ضد حكومة البيض في جنوب إفريقيا كورقة ضغط لإنهاء الفصل العنصري، لاستمر الفصل العنصري القمعي هو النمط السائد في جنوب أفريقيا حتى الآن، في حين ترى أراء أخرى بأن الشعوب هي من تحدد مصيرها بالنهاية رغم الضغوطات الدولية ولكلِ دلائله.


(*) باحث مصري في الشأن السياسي والاجتماعي.

اترك تعليق