سُنَّة الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتحول – سلسلة مقالات (1)

بقلم/ أ.د. أحمد حسن فرحات(*)

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد، ومن يُضلل فلن تجد له وليا مرشداً، وصلى الله وسلم على خير خلقه، سيدنا محمد بن عبد الله الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا طريقه وترسموا خطاه، وعلى من سار على نهجهم:

﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].

وبعد:

فلقد كثر في هذا العصر الحديث عن السنن الإلهية، وسُنن الكون والحياة وقوانين الطبيعة، وطبائع الخلق، وأنها كلها في مرتبة واحدة من حيث حتميتها وثباتها، وكثيراً ما يستشهدون على ذلك بقوله تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43].

ولما كان مثل هذا التعميم لا يستند إلى فهم دقيق يميِّز بين السنن التي تحكم الحياة البشرية، والسنن التي تحكم الطبيعة والمادة، ولم يعتمد على دراسة علمية لمفهوم” سُنَّة الله” في القرآن، كان من الطبيعي أن تختلط الأمور، وأن تتغبش الرؤية، وأن يقع الناس في سوء الفهم.

وللخروج من ذلك فلابدَّ من دراسة موضوعية لصيغة “سُنَّة الله”- التي لا تتبدل ولا تتحول- والتي وردت في عدد من الآيات القرآنية، ومحاولة الوصول إلى دلالتها المحددة، والتي تمنع من أن يدخل تحتها ما ليس منها، وهو ما نحاوله في هذه الدراسة.

وقد عمدنا في هذه الدراسة إلى بيان أصل “السُنَّة”- في اللغة – ومعناها في الشرع، ثم انتقلنا إلى بيان المراد من صيغة “سُنَّة الله” من خلال أقوال العلماء الذين عنوا بالتعريفات، وقد لاحظنا أن صيغة ” سُنَّة الله ” في القرآن ترد بمعنى شرعي، يقابله معنى كوني شامل، فتدخل تحته الحياة البشرية. غير أننا لاحظنا أيضاً أنَّ هذا المعنى الكوني المقابل للشرعي ورد في القرآن خاصَّا بالحياة البشرية وحدها، بل يمكن القول إنَّه خاصّ بسنن التاريخ والاجتماع البشري، وقد شرحنا السنن التي وردت تحت صيغة ” سُنَّة الله” باعتبارها سنناً منصوصا عليها باللفظ.

أما السنن التي تحكم الحياة البشرية والتي وردت في القرآن بالمعنى، فأكثر من أن تحصى.

 وتعتبر السنن المنصوص عليها باللفظ: نماذج لها، وما ينطبق على الأولى ينطبق على الثانية. ومن ثم فحينما عمدنا إلى الحديث عن ثبات السنن وشمولها، ومواقف العلماء تجاهها، أخرجنا الكلام مخرج العموم، بحيث يكون شاملاً للسنن المنصوص عليها لفظاً، وغير المنصوص عليها.

 وربما استشهدنا بنماذج من السنن غير المنصوص عليها لفظاً في مجال الشرح والتوضيح.

 وأرجو أن يجد القارئ لهذا البحث بغيته. فلقد أغنيته بما تحصَّل عندي من أقوال العلماء ومناقشاتهم، ووجهات نظرهم، وتحدثت فيه عن السُنَّة التي لا تتخلف بإجماع العلماء، وعن سُنن الكون وطبائع الخلق، وعن سنن الإنسان، وسنن الإيمان، وعن تدافع السنن، وتنازع الأقدار.

 وختمته بملخص جمع أطراف الموضوع ونظم خيوطه، وعسى أن يكون هذا البحث قد سد ثغرة في مجال الدراسات القرآنية، وأسهم في إيضاح ما استهدفته هذه الدراسة، ونسأل الله تعالى أن يكون عملنا هذا قد وافق الصواب والسداد، وجانب الخطل والزلل، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 أصل السُنَّة

يرى أحمد بن فارس – في معجم مقاييس اللغة – أن السِّين والنون أصل واحد مطرد، وهو: جريان الشيء واطراده في سهولة. والأصل: قولهم: سننت الماء على وجهي، أسُنُّه سنَّاً: إذا أرسلته إرسالاً، ثم اشتق منه: رجل مسنون الوجه، كأن اللحم قد سُنَّ على وجهه. والحمأ المسنون من ذلك، كأنه قد صّبْ صبباً.

ثم يقول أحمد بن فارس: ومما اشتق منه ” السُنَّة” وهي: السيرة.

 وسُنَّة رسول الله عليه السلام: سيرته. قال الهذلي:

فلا تجزعن من سُنَّة أتت سرتها= فأول راضٍ سنَّة من يسيرها

وإنما سميت بذلك لأنها تجري جرياً

ومن ذلك قولهم: امض على سَنَنك وسُنَنِك. أي وجهك

وجاءت الريح سنا ئن: إذا جاءت على طريقة واحدة، (1)

ويرى الراغب الأصفهاني – في مفرداته – أن ” السُّنَن” جمع “سُنَّة “،

و” سُنَّة الوجه”: طريقته، و” سُنَّة النبي”: طريقته التي كان يتحر ا ها (2)

ويرى العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي أنَّ “السُنَّة”: هي طرق قوم، فإذا نسبت إلى شخص واحد، كان المراد أنه ” الإمام “(3)

 السُنَّة في الشرع:

يقولابن منظور: وإذا أطلقت- أي السُنَّة – في الشرع – فإنما يراد بها: ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو نهى عنه، أو ندب إليه- قولاً وفعلاً- مما لم ينطق به الكلام العزيز.

ولهذا يقال أدلة الشرع: الكتاب والسُنَّة، أي: القرآن والحديث.

وفلان متسنن، أي: عامل بالسُنَّة (4)

وليس من قصدنا – هنا – الحديث عن السُنَّة- بالمعنى الشرعي- وإنما قصدنا بيان المراد بالصيغة القرآنية “سُنَّة الله” والتي وردت في عدد من الآيات القرآنية.

“سُنَّة الله”:

يرى الراغب الأصفهاني أن ” سُنَّة الله” تعالى: قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته، نحو “سُنَّة الله التي قد خلت من قبل” “ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً، ولن تجد لسُنَّة الله تحويلاً”.. فتنبيه على أن فروع الشرائع- وإن اختلفت صورها- فالغرض المقصود منها: لا يختلف، ولا يتبدل. وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى، وجواره (5).

ويرى العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي:  أن السُنَّة- إذا نسبت إلى الرب- كان المعنى: أنها طريق عامة يجري بها أمره في عباده، كما قال: ” سُنَّة الله التي قد خلت في عباده” (6).

ويذكر الفراهي في مكان آخر: أن “سُنَّة الله”: هي الطريق المرعية في أفعال الله تعالى، وهي طريق العدل والرحمة (7).

ولا شك أن ما عناه الفراهي بقوله: طريق عامة يجري بها أمره في عباده شامل للطاعة والحكمة- التي أشار إليها الراغب الأصفهاني- بدليل ما قاله في مكان آخر من أنها: الطريق المرعية في أفعال الله تعالى، وهي طريق العدل والرحمة. فالعدل والرحمة: مرعيان في التشريع- كما هما مرعيان في كل أفعال الله تعالى- التي يجري بها أمره في عباده.

وبذلك يتضح الارتباط بين أصل المعنى اللغوي للسُنَّة- والذي سبق أن نقلناه عن ابن فارس-: “جريان الشيء واطراده في سهولة”، وبين ما انتهى إليه معنى “سُنَّة الله” والتي هي: الطريق المرعية في أفعال الله تعالى، وهي طريق العدل والرحمة، حيث يشير المعنى اللغوي: إلى جريان الشيء جرياناً مطرداً، وهو نفس المعنى لـ ” الطريق المرعية”، والتي تقيد الاطراد على وتيرة واحدة.

هذه فكرة مجملة عن أصل كلمة “السُنَّة” ومعناها في الشرع، ومعنى صيغة “سُنَّة الله”، كما وردت في الكتب التي تعنى بتعريف المفردات القرآنية، وتحديدها.

وفي الصفحات التالية دراسة لهذه الصيغة ” سُنَّة الله” من خلال الآيات التي وردت فيها، وذلك لا جتلاء معناها، وبيان المراد بها، وما يمكن أن يكون مشمولاً بها، أو خارجاً عنها. كذلك لابدَّ لنا من وقفة للتأمل في مدى ثبات السنن الإلهية. وهل هي حتمية لا تتخلف، أو أنها قابلة للتبديل والتحويل.

ومن الله تعالى نستمد العون والسداد.


(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن في عدد من الجامعات، وهذا المقال هو جزء من دراسة طويلة نوالي نشرها في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.

(1) معجم مقاييس اللغة: 3/ 60-61.

(2) المفردات في غريب القرآن: 245.

(3) مفردات القرآن للفراهي: 45.

(4) لسان العرب: 13/ 225. دار صادر. بيروت.

(5) المفردات: 429، ولابدَّ من الإشارة إلى أن استشهاد الراغب بالآيات التي استشهد بها لم توافق كلها مواضعها، وكان هناك آيات أخر أولى منها سنذكرها في ثنايا هذا البحث.

(6) المفردات للفراهي: 45.

(7) القائد إلى عيون العقائد: 165.

اترك تعليق