سُنَّة الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتحول (4)

بقلم أ.د. أحمد حسن فرحات(*) 

رشيد رضا.. والتوسع في مفهوم السُنَّة:

ومن الذين توسعوا في إطلاق مفهوم “سُنَّة الله”، لتكون شاملة للسنن الطبيعية وغيرها رشيد رضا في تفسيره “المنار” وهو بذلك يتابع من قبله من المتوسعين، ويمكن أن نستشهد لذلك بنموذجين مما جاء في تفسيره:

– اثناء حديثه عن العلوم التي يحتاجها المفسر قال:

“ثالثها: علم أحوال البشر: فقد أنزل الله الكتاب وجعله آخر الكتب، وبيَّن فيه ما لم يبيَّنه في غيره. بيَّن فيه كثيراً من أحوال الخلق وطبائعهم، والسنن الإلهية في البشر. وقصَّ علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسننه فيها، فلابدَّ للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر- في أطوارهم وأدوارهم، ومَنا شءِ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالَم الكبير- عُلْوِيِّه، وسُفْلِيِّهِ- ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة، من أهمها التاريخ بأنواعه…

فقد أجمل القران الكلام على الأمم وعن السنن الإلهية، ومن آياته في السمو ات والأرض، وفي الآفاق والأنفس. وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علماً، وأمرنا بالتفكر والنظر والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاءً وكمالاً. ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حو اه من علم وحكة ([1])

– والنموذج الثاني يبيّن لنا فيه لزوم العقوبة للأمة المتنكِّبَّة عن سبيل الحق فيقول:

“.. إذا ضلت الأمة سبيل الحق، ولعب الباطل بأهوائها، ففسدت أخلاقها واعتلَّت أعمالها، وقعت في الشقاء لا محالة، وسلَّط الله عليها من يستبد بها، ويستأثر بشؤونها، ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب، وإن كانت ستلاقي نصيبها منه أيضاً. فإذا تمادى بها الغي وصل بها إلى الهلاك. ومحا أثرها من الوجود، ولهذا أعلمنا الله سبحانه لنعتبر ونميّز بين ما به تسعد الأقوام، وما به تشقى.

أما في الأفراد فلم تجر سُنَّة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا، فقد يستدرج الضال من حيث لا يعلم، ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه، وإنما يلقى جزاءه:

 ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ -الانفطار: 19- ([2])

سيد قطب.. وموقفه من تعميم السنة وحتميتها:

يستعمل سيد قطب “سُنَّة الله” بمعناها الشامل، الذي سبقت الإشارة إليه. ولكنه يتحفظ على آلية السنن، وحتميتها، بما يتناسب مع طلاقة المشيئة الإلهية، وفي ذلك يقول: “…فليست هناك جبرية آلية في الخلق والإنشاء، ولا في الحركة والحدث. والنواميس التي يراها الناس مطردة في الكون – بوجه عام – ليست قوانين آلية أنشأها الله وسلَّطها لتعمل بذاتها آلياً وحتمياً. ولكنها تطرد – على الجملة – لأن قدر الله في شانها يطرد – في غير جبرية آلية فيها، وفي غير حتمية على الله – سبحانه – في اطرادها، إنما هي مشيئته وحكمته بهذا.

فيجري قدره بما يشاء. وهكذا تقع المعجزات الخارقة لما يسمى بالقوانين الطبيعية. فالنار قد أودعها الله خاصية حرق الأجسام، كما أودع الأجسام خاصية الاحتراق بالنار، ولكن مشيئته جرت بقَدَر غير هذا في حادث إبراهيم عليه السلام. ﴿قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ٦٩ وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِينَ﴾ الأنبياء [69، 70] ([3])

وفي تصور المسلم لا يقوم (السبب) ولا العادة، ولا المألوف من النواميس، حاجزاً بين العبد وإرادة الله به، وبالوجود كله من حوله، في كل حالة، وفي كل لحظة. فالمشيئة الإلهية في تصوره – كما هي في الحقيقة – طليقة من وراء تلك النواميس.. ومع هذا فالمسلم يتعامل مع النواميس الثابتة، ويأخذ بالأسباب التي تتلاءم مع هذه القواميس، لأنَّه مأمور أن يأخذ بها. وأخذه بها عبادة وطاعة، ويتعامل مع سُنَّة الله، وهو يعلم أن لا تبديل لسُنَّة الله، لا بسبب حتميتها على الله، ولا يسبب جبرية آلية فيها هي ذاتها.

ولكن الله أراد ألا يبدلها، وجرى قدره باطِّرادها – إلا أن يشاء غير ذلك – مع تعلق كل حادث ينشأ بقدر خاص ينشئه، وفي هذا يختلف التصور الإسلامي تماماً، ويتميز عن كل تصور آخر. كما أن إيحاء هذا التصور يختلف ويتميز. فهو لا ينتهي إلى إهمال الأسباب، أو إقامة النشاط بلا قواعد، ولا إلى جهل النواميس، وإهمال التعامل معها، كما أنه لا ينتهي إلى إغلاق الأبواب، دون مشيئة الله الطليقة. وقدره الجديد، أمام واقع الأسباب والنواميس، ولا يختنق بالجبريات الآلية، والحتميات الطبيعية والتاريخية: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1] ([4]).

وعلى الرغم من قوله بعدم الحتمية في السنن- مع كونها مطردة عموماً- فإنه يرى أن سُنَّة الله في نصر أوليائه، وخذلان أعدائه: هي السُنَّة التي لا تتخلف- كما سيأتي بيانه –.

محمد قطب.. وموقفه من حتمية السنن:

يفرق الأستاذ محمد قطب في التسمية بين السنن الإلهية، والسنن الكونية، فيجعل الأولى خاصَّة بالحياة البشرية، ويجعل الثانية خاصَّة بقوانين الكون، ويرى أن السنن الإلهية التي تجري من خلالها الحياة البشرية، دقيقة كل الدقة، منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تجامل ولا تحابي، ولا تتأثر بالأماني الطيبة، إنما تتأثر بالأعمال، وهي في دقتها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء. ([5])

ويضيف الأستاذ محمد قطب ملاحظة أخرى على عمل السنن الإلهية وهي:

” إن السنن الإلهية لا تعمل فرادى، إنما تعمل مجتمعة، وتكون النتيجة الواقعية هي حصيلة السنن العاملة كلها في آن واحد، أو بالأحرى حصيلة تعامل الإنسان مع مجموع السنن التي يتعرض لها، في أثناء حركته في الأرض) ([6]).

ويلاحظ على كلام الأستاذ محمد قطب – هنا – أنه يجعل انتظام السنن الإلهية التي تجري على الحياة البشرية، كانتظام السنن الكونية المادية سواءً بسواء، وهذا يعني انه يرى عدم تخلف السنن الكونية. ومن ثم يشبه بها السنن الإلهية، من حيث الثبات وعدم التخلف.

ولكنه يستدرك في مكان آخر من كتابه فيقول:

وقد يخرق الله السنن الكونية لحكمة يريدها، ولكنه تعالى ثبَّت السنن البشرية بحكمته) ([7]). – وهو يريد بالسنن البشرية – هنا -: السنن الإلهية التي تحكم الحياة البشرية –

كذلك يفرق الأستاذ محمد قطب بين نوعين من السنن التي تحكم الحياة البشرية، فهناك: سنن عامة – وهي الأكثر عدداً، والأوسع مساحة في التاريخ البشري – تشمل “الإنسان” كله- مؤمنه، وكافره- وإن كانت تحدد للمؤمنين طريقهم، وعاقبة أمرهم- إذا استقاموا على الإيمان- كما تحدد للكافرين طريقهم وعاقبة أمرهم، وتبين الفارق الواسع بين حياة هؤلاء، وحياة هؤلاء في الدنيا، والآخرة، جميعاً.

وسنن خاصَّة – وهي الأقل – تقع للمؤمنين وحدهم، أو للكافرين وحدهم، ولكنها رغم خصوصيتها سنن جارية، أي أنها تتكرر للمؤمنين ولا تقع للكفار، أو تتكرر للكفار ولا تقع للمؤمنين” ([8]).

وهكذا نرى أن الأستاذ محمد قطب يفرق في التسمية بين نوعين من السنن: “الإلهية”: وهي التي تحكم الحياة البشرية.

 والكونية: وهي القوانين الطبيعية التي تحكم المادة.

وأن الانتظام والانضباط موجود في كلا النوعين، بمرتبة واحدة.

لكنه يرى أن القوانين الكونية قد يخرقها الله لحكمة يريدها، وكأنه يريد بذلك تفسير الخوارق والمعجزات.

أما السنن الإلهية التي تحكم الحياة البشرية، فقد ثبتها الله تعالى. ومن ثم فلا تخضع لهذا الاستثناء. كما يرى أن هناك سنناً جارية مطردة خاصَّة بالمؤمنين، وسنناً جارية خاصَّة بالكافرين، ولكنها أقل في مساحتها من السنن العامة، التي تجري على الجنس البشري بمؤمنيه وكافريه.

 السُنَّة التي لا تتخلف:

من كل ما تقدم يتبين لنا: أن السُنَّة التي لا تتغير، ولا تتبدل ولا تتحول، هي سنن التاريخ والاجتماع، ومنها “سُنَّة الله” في نصر أوليائه، وخذلان أعدائه. وهذه الحقيقة موضع اتفاق وإجماع عند من تكلموا في هذا الموضوع. ولنذكر هنا ما يدل على ذلك من أقوالهم بالنسبة لسُنَّة الله في النصر والتمكين:

يقول ابن تيمية بعد أن يستعرض الآيات التي جاءت بلفظ “سُنَّة الله”، والتي ذكرناها سابقاً: ” فهذه سُنَّة الله وعادته في نصر عباده المؤمنين – إذا قاموا بالواجب – على الكافرين، وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل بعذاب من عنده، أو بأيدي المؤمنين، هي سُنَّة الله التي لا توجد منتفضة قط) ([9]).

 ويقول الفراهي تعقيباً على آيات “سُنَّة الله”:

” وأما “سُنَّة الله”: فهي الطريق المرعية في أفعال الله تعالى – هي طريق العدل والرحمة – وههنا هي: نصر أنبيائه، وقمع الظالمين إذا بلغوا آجالهم، ([10]) وكونه تعالى واجب الوجود يلزم دوام سنته، ودوام الخير، ودوام الرحمة…) ([11]).

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى:

(وسُنَّة الله التي لا تتخلف: هي التمكين في الأرض لأوليائه، المستقيمين على منهجه، وهي التدمير على أعدائه المخالفين عن سنته، وقد يطول الأمر – بالقياس إلى عمر الفرد البشري القصير – ولكن السُنَّة لا تتخلف، وحين ننظر إلى الماضي نرى هذه السُنَّة واضحة، بينما قد تخفي معالمها علينا حين ننظر إليها في المدى القريب. وتتضافر الشواهد القرآنية والشواهد التاريخية على تقرير هذه الحقيقة التي تعتبر قاعدة أساسية من قواعد التفسير الإسلامي للتاريخ) ([12]).

ويبدو أن هذا الراي هو ما استقر عليه سيد قطب في هذه السُنَّة.

وربما كان يرى في السابق أن هناك حادثة واحدة قد تخلفت عن هذه السُنَّة، وهي ما جاء في قصة أصحاب الأخدود، ([13]) حيث لم تذكر السورة تدميره على الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، غير أن قوله تعالى في السورة:

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: 12] يمكن أن يفهم منه أنه أنزل بأسه بهم، وإن لم يذكر ذلك صراحة، حيث لم يبين أن البطش قد وقع بهم بصريح العبارة.

وأما الآخرون فهم يقولون بحتمية السُنَّة كلها تاريخية أو طبيعية، وذلك بحملهم عدم التحويل والتبديل الوارد في سنن التاريخ على جميع السنن، فهم إذن يقولون بلزوم سنن التاريخ بطريق الأولى.


(*)أستاذ التفسير وعلوم القرآن في عدد من الجامعات، وهذا المقال استكمال لدراسة طويلة نوالي نشرها في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.

الهوامش:

(1) تفسير المنار: 1/20-21 الهيئة المصرية العام للكتاب.

(2) تفسير المنار: 1/79-60الهيئة المصرية العام للكتاب.

(3) مقومات التصور الإسلامي: 62-63.‏

(4) مقومات التصور الإسلامي: 63.‏

(5) حول التفسير الإسلامي للتاريخ: 120.‏

(6) نفس المصدر: 92.

(7) نفس المصدر هامش 2 ص120.‏

(8) نفس المصدر:86-87.‏

(9) الرد على المنطقيين: 390-391 باختصار.‏

(10) القائد إلى عيون العقائد: 165.‏

(11)  القائد إلى عيون العقائد: 168.

(12) مقومات التصور الإسلامي: 368، ويلاحظ أن آخر ما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى هو كتاب ‏‏”مقومات التصور الإسلامي ” ولم يطبع إلا بعد وفاته بسنين.

(13) انظر ما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه السنة في سورة البروج من الظلال.‏

اترك تعليق

  1. يقول إبراهيم برهوم:

    أعتقد أن الأستاذ فرحات عمل في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية عام ١٣٩٩-١٤٠٢هجرية ، ثم انتقل مع الدكتور محمود الطحان إلى كلية الشريعة في الكويت ، والله أعلم ،
    وفق الله القائمين على هذه الصفحة لما يحب ويرضى 🌹🌻🌸

  2. يقول موسى بن صالح:

    السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
    صدر كتاب في فرنسا بعنوان
    الله العلم البراهين ألفه باحثان فرنسيات أتمنى أن تتم ترجمته إلى العربية