فِقْه السُّنَن الإلهية والثقافة السُّنَنيّة (3-3) الأخيرة – دراسة

بقلم أ.د. عزمي طه السيد أحمد(*)

[سنة الاختلاف]

والآن، سننتقل إلى المثال الثالث من أمثلة السُّنَن الإلهية (السُّنَن الإلهية الحضارية)، وهو سُنَّة الاستخلاف. وقبل توضيح معنى “الاستخلاف” في ضوء سياقات القرآن الكريم، فإنَّنا سنتطرَّق -بإيجاز- إلى المعنى اللغوي للفظ “خليفة” ولفظ “مُستخلَف”: جاء كلا اللفظين بمعنى: “مَنْ يخلف غيره، ويقوم مقامه” [لسان العرب، مادَّة خَلَفَ]؛ أيْ يأتي بعده، ويؤدّي المهمة التي كان يؤدّيها مَنْ كان قبله.

وأمّا في القرآن الكريم، فإنَّ فهم دلالة كلٍّ من لفظ “الخليفة” ولفظ “الاستخلاف” يبدأ بإرادة الله سبحانه وتعالى (بقراره، وله المثل الأعلى) أنْ يجعل الإنسان خليفة في الأرض بعد أنْ أخبر الملائكة بذلك، وهو في قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة ٣٠]، ونستنبط من هذه الآية الكريمة حقيقتين مُهِمَّتين؛ أُولاهما: أنَّ هذا الخليفة الجديد (الإنسان) كان قبله في الأرض مخلوق من نوع آخر، وأراد الله سبحانه أنْ يخلفه الإنسان، وأنْ يقوم بالمهمة التي كان يؤدّيها المخلوق السابق. وثانيتهما: أنَّ قول الملائكة لله سبحانه: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” يُستنبَط منه أنَّ المخلوق السابق الذي سكن الأرض أفسد فيها، وسفك الدماء، وأنَّ الملائكة عرفوا ذلك بالمشاهدة والمعايشة، فقاسوا ما سيأتي على ما سبق (قياس الغائب على الشاهد)، فتوهَّموا هل هذا الاستباط عليه دليل؟ أنَّ هذا الخليفة في الأرض سيفعل فِعْلَ مَنْ كان قبله (مِنْ إفساد في الأرض، وسفك للدماء). ولأنَّ الملائكةﭐ ﴿لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ﴾ [التحريم ٦]، ولأنَّ الإفساد في الأرض وسفك الدماء يبغضه الله سبحانه؛ فقد قال الملائكة رأيهم في شأن من شؤون الله الخاصة به؛ إذ فهموا أنَّ الله سبحانه يستشيرهم، ويطلب تعليقهم (أو رأيهم) على قراره جَعْلَ “خليفة في الأرض” بعد المخلوق الذي كان فيها، فجاء رأيهم بحسب عِلْمهم المحدود؛ فكان تعليق الحقِّ سبحانه على رأيهم: ﴿ِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾، وعاد الملائكة إلى الإقرار بأنَّ علْمهم محدود، وأنَّهم لا يعلمون إلّا ما علَّمه الله إيّاهم، وذلك بقولهم: ﴿سُبۡحَـٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَاۤ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَاۤ﴾ [البقرة ٣٢] بعد ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَاۤءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة ٣١] وطلب سبحانه قائلاً: ﴿أَنۢبِـُٔونِی بِأَسۡمَاۤءِ هَـٰۤؤُلَاۤءِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ [البقرة ٣١].

ومن هذه الآيات الكريمات التي تُمثِّل المرحلة الوجودية الأولى بالنسبة إلى الإنسان، يُمكِن أنْ نستنبط منها تأسيساً وجودياً لسُنَّة الاستخلاف في الأرض، ويُمكِن صياغتها في صورة قضية شرطية لزومية، هي: مَنْ يُفسِد في الأرض، ويسفك الدماء، يُهلِكه الله، ويستخلف غيره مكانه.

والإفساد في الأرض له أشكال مختلفة، وسفك الدماء أحدها، لكنَّه أكثرها خطراً وأشدُّها إفساداً لحياة الإنسان على الأرض؛ لذا رأَيْنا أنَّ الحقَّ سبحانه قد أفرده بالذكر مع الفساد (والله أعلم).

وسنعرض في ما يأتي عدداً من الآيات التي تُؤكِّد هذه السُّنَّة؛ فمن أشكال الإفساد في الأرض: إفساد النظام الطبيعي الخاص بالأرض؛ بَرِّها وبحرها، وهو في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ﴾ [الروم ٤١]، وإهلاك الحرث والنسل إفساد في الأرض، وهو في قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَیُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِی قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُفۡسِدَ فِیهَا وَیُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ﴾ [البقرة ٢٠٥]، والظلم والطغيان الذي هو إفساد في الأرض وفي البلاد التي يشيع فيها، وهو في قوله تعالى: ﭐ ﴿وَفِرۡعَوۡنَ ذِی ٱلۡأَوۡتَادِ ٱلَّذِینَ طَغَوۡا۟ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ فَأَكۡثَرُوا۟ فِیهَا ٱلۡفَسَادَ فَصَبَّ عَلَیۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ﴾ [الفجر ١٢]، وكذلك قتْل الحاكم الناس بغير حقٍّ واستعبادهم إفساد في الأرض، وهو في قوله تعالى عن فرعون: ﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِیَعࣰا یَسۡتَضۡعِفُ طَاۤىِٕفَةࣰ مِّنۡهُمۡ یُذَبِّحُ أَبۡنَاۤءَهُمۡ وَیَسۡتَحۡیِۦ نِسَاۤءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾ [القصص: 4].

وبوجه عام، فإنَّ “الإفساد في الأرض” مضاد للإيمان بالله والعمل الصالح، والله يُحِبُّ الإيمان، ويُحِبُّ الأعمال الصالحة؛ لأنَّ فيها الخير والصلاح للحياة الإنسانية. فالإيمان والعمل الصالح لا يجتمعان مع الإفساد، وهذا المعنى نجده في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِیَعࣰا یَسۡتَضۡعِفُ طَاۤىِٕفَةࣰ مِّنۡهُمۡ یُذَبِّحُ أَبۡنَاۤءَهُمۡ وَیَسۡتَحۡیِۦ نِسَاۤءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾ [القصص ٤].

وهكذا بيَّن لنا القرآن الكريم أنَّ هذه الأفعال، التي هي مضادات للإيمان والعمل الصالح، إذا صدرت من قوم لهم دولة وحضارة[1] (منجزات) (السيد أحمد، ص73) وسلطان استوجبت استخلافهم بقوم غيرهم يكون لهم سلطان ودولة وحضارة، ثمَّ ينظر الله تعالى في أعمالهم وَفق سُنَّة الابتلاء العامة. والأمثلة على ذلك من القرآن الكريم واضحة بيِّنة؛ فالله سبحانه استخلف دولة عاد وحضارتهم بعد إهلاكه قوم نوح الذين كانت لهم دولتهم وحضارتهم. قال سبحانه في ذلك على لسان نبيِّهم هود عليه السلام: ﴿أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَاۤءَكُمۡ ذِكۡرࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلࣲ مِّنكُمۡ لِیُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَاۤءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحࣲ وَزَادَكُمۡ فِی ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةࣰۖ فَٱذۡكُرُوۤا۟ ءَالَاۤءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [الأعراف ٦٩]. ولمّا لم يستجب قوم عاد لدعوة نبيِّهم هود عليه السلام بعبادة الله وحده، أهلكهم الله تعالى، واستخلف بعدهم دولة ثمود، وكان لهم فيها منجزات حضارية أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان نبيِّهم صالح عليه السلام: ﴿وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَاۤءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادࣲ وَبَوَّأَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورࣰا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُیُوتࣰاۖ فَٱذۡكُرُوۤا۟ ءَالَاۤءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ﴾ [الأعراف ٧٤]. وقد أكَّد القرآن الكريم سُنَّة الاستخلاف هذه للناس عامةً؛ الذين في عصره؛ إذ جاء القرآن للناس كافة، وكل مَنْ سيقرأ القرآن الكريم بعد ذلك، مُبيِّناً مُقدَّمها وتاليها، وهو في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُوا۟ وَجَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَمَا كَانُوا۟ لِیُؤۡمِنُوا۟ۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِینَ ثُمَّ جَعَلۡنَـٰكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾ [يونس ١٤].

ومن ثَمَّ، فقد أكَّدت الآيات الـمُتقدِّمة -بما لا يَدَعُ مجالاً للشكِّ- أنَّ سُنَّة الاستخلاف الإلهية ثابتة في الأقوام والدول والحضارات؛ فالذين لا يتَّبعون ما جاءت به رُسُلهم سيجزون -نتيجةً لذلك- بالهلاك وزوال دولهم وقوَّتهم وحضارتهم؛ أيْ ما صنعوه من إنجازات مادِّية وغير مادِّية). وفي ضوء مفهوم “المخالفة”، يُمكِن القول: إنَّ الدول والأقوام الذين يتَّبعون ما جاءت به رسُلهم سيدوم استخلافهم في الأرض ما داموا لم يُغيِّروا نهجهم، فإنْ تغيَّروا إلى مخالفة الرُّسُل -التي هي مخالفة أوامر الله وفعْل نواهيه- حلَّ بهم ما حلَّ بمَنْ سبقهم مِنَ بناة الحضارات؛ أيْ أهلكهم الله، واستخلف غيرهم.

والقرآن الكريم قدَّم لنا أمثلة إجمالية تُعرِّف بالأفعال التي هي مُقدِّمات سُنَّة الاستخلاف، وبنتائجها، مثل: إفساد البيئة البَرِّية والبحرية، والظلم، وتجاوز الحدود في التعاملات بين الناس عامةً (الطغيان)، وتقسيم المجتمع إلى شيع وطوائف مُتعدِّدة. أمّا تفصيل هذه الأفعال وبيانها فيحتاج إلى جهود مُتخصِّصة تُحدِّد الشكل والكيفية لكل فعل منها؛ فإفساد البيئة البَرِّية والبحرية -مثلاً- موضوع كبير وواسع، ويحتاج تفصيله إلى معرفة تخصُّصات عِدَّة، لا يُلِمُّ بها الشخص الواحد، ولا بُدَّ فيها من تضافر جهود جميع الـمُتخصِّصين في هذه الجوانب المختلفة.

ويقابل الإفساد في الأرض الإصلاح والعمران؛ أي الاستفادة من جميع موارد الأرض. فتعبيد الطرق لتسهيل حركة الناس عمران، وزراعة الأرض بمختلف الزروع عمران، واستخراج ما في باطنها من معادن أو نفط عمران، واقتلاع الحجارة من جبالها وصخورها وتهذيبها ليُبنى منها البيوت والمساكن والحصون والمدارس والطرق والمستشفيات وغيرها من المرافق عمران، وصناعة الأدوات التي تُسهِّل حركة الإنسان في الحياة عمران، ونشر العِلْم والتعليم عمران، وكل عمل يجعل حياة الإنسان أيسر وأسهل وأجمل عمران. وهذا كله مضاد لمفهوم “الإفساد في الأرض” الذي يستوجب -بحسب سُنَّة الله في الاستخلاف- استبدال قوم بغيرهم وحضارة بأُخرى؛ لينظر الله تعالى كيف تكون أعمال هذه الأقوام الجديدة الـمُستخلَفة في كل ما سخرَّه لهم في هذا الكون، وهو داخل في سُنَّة الابتلاء، وحتى لا يكون للناس على الله حُجَّة إنْ لم يقوموا بما كلَّفهم الله به من أعمال فيها خيرهم وكمالهم، فتكون نتائج أعمالهم لازمة منها؛ إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شَرّاً فشَرٌّ.

والثقافة السُّنَنية الـمُتعلِّقة بسُنَّة الاستخلاف لا تقتصر على ما أُشير إليه هنا من معرفة الأفعال التي يحصل بها الإفساد في الأرض ومضاداتها فحسب، وإنّما تمامها يكون بمعرفة أمثلة واقعية على أُمم أفسدت في الأرض فأهلكها الله، وأمثلة واقعية على أُمم أصلحت في الأرض وعمرتها فاستقام لها الاستمرار والحضور الحضاري بالتزامها بالإصلاح والصلاح.

واكتساب هذه الثقافة يحتاج إلى جهود علمية مُتخصِّصة لتعرُّف هذه الأمثلة السابقة وغيرها، وقد نبَّهنا القرآن الكريم إلى طريق اكتساب جانب من ثقافة سُنَّة الاستخلاف، هو السَّيْر في الأرض والنظر الحِسِّي الذي نجمع بوساطته المعلومات والحقائق، ثمَّ النظر العقلي لاستنباط النتائج والعِبَر والسُّنَن. قال سبحانه: ﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ﴾ [آل عمران ١٣٧]، وقال تعالى:ﭐ ﴿۞ أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ كَانُوا۟ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوا۟ هُمۡ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقࣲ﴾ [غافر ٢١]. وقوله تعالى: ﴿أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ يشير إلى قوَّة دولتهم وحضارتهم. ومثل هذا المعنى نجده في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوۤا۟ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَأَثَارُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَاۤ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیَظۡلِمَهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾ [الروم ٩] . فهذه الآية الكريمة تُبيِّن مآلَ (نتيجة) الدول والحضارات التي تُخالِف تعاليم الله سبحانه وتعالى. وفي آية أُخرى بيَّن الله تعالى عاقبة “الذين كرهوا ما أنـزل الله”، “فأحبط أعمالهم”، وحثَّنا على السَّيْر في الأرض، والنظر فيها؛ لنعتبر ممّا جرى لهؤلاء. قال سبحانه: ﴿۞ أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡۖ وَلِلۡكَـٰفِرِینَ أَمۡثَـٰلُهَا﴾ [محمد ١٠]. فقوله تعالى: “وَلِلۡكَـٰفِرِینَ أَمۡثَـٰلُهَا” تأكيد منه على ثبات سُنَّة الإفساد، وعاقبة مَنْ يكرهون ما أنـزل الله تعالى؛ إذ ستكون عاقبة أمرهم هي نفسها عاقبة مَنْ قبلهم مِمَّنْ فعلوا أفعالهم؛ أعني الإهلاك، واستخلاف غيرهم لهم.

والسَّيْر في الأرض والنظر الحِسِّي والعقلي فيها هو جزء مُهِمٌّ من عِلْم التاريخ والآثار الذي فيه العِبَر لمَنْ أراد أنْ يعتبر.

وفي ضوء ما تقدَّم، فإنَّنا نُجمِل فهمنا للثقافة السُّنَنية الخاصّة بِـ”سُنَّة الاستخلاف في الأرض” بالقول: هي معرفة وبيان أفعال الإفساد التي تؤدّي إلى إهلاك الدول والحضارات، ومضادات أفعال الإفساد؛ أيْ أفعال الإصلاح التي بها تدوم مسيرة الدولة وحضارتها، ومعرفة أمثلة واقعية على دول وحضارات أَفسدت فأُهلِكت، واستخلف الله غيرها مكانها، وأمثلة على دول وحضارات أَصلحت ، فاستمرَّت حضاراتها ما دامت مُصلِحة.

خاتمة

اجتهدنا في هذه الورقة العلمية أنْ نُبيِّن -قَدْر الطاقة- حقيقة السُّنَن الإلهية أو فِقْه السُّنَن الإلهية، واجتهدنا كذلك في بيان المقصود بمصطلح “الثقافة السُّنَنية”، وقدَّمنا لذلك أمثلة ممّا ورد في كتاب الله المسطور (القرآن الكريم).

وأوَّل ما وصلْنا إليه هو الفصل بين سُنَن الكون الطبيعية وسُنَن الحياة الإنسانية، وأخذْنا بالرأي الذي يُسمّي الأولى الآيات الكونية، ويُسمّي الثانية السُّنَن الإلهية؛ ذلك أنَّ الأولى تحتاج في بيان حقيقتها إلى العلوم الطبيعية، والثانية تحتاج في بيان حقيقتها إلى العلوم الإنسانية.

ومن أهمِّ ما يُمكِن ذكره هنا من نتائج انتهت إليها هذه الورقة هو إبراز أهمية السُّنَن الإلهية الكبرى في بناء كل مجالات الحياة الإنسانية على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات، وعلى مستوى الدول والحضارات؛ إذْ هي الـمُرشِد الأوَّل والأساس لكل ما يَلزم البناء الحضاري للأُمَّة من إنجازات مادِّية وغير مادِّية.

وقد تأكَّد لنا أنَّ معرفة حقيقة السُّنَن الإلهية (فِقْه السُّنَن الإلهية) على الوجه الأكمل والأمثل، والمعرفة الوافية بالثقافة السُّنَنية، تبدأ بالبحث في كتاب الله (القرآن الكريم)، ثمَّ إنَّ ذلك يتطلَّب مساندة العلوم الإنسانية جميعها؛ ما يعني الحاجة إلى وجود جهود مُتضافِرة ومُتراكِمة ومُتكامِلة.

وقد أكَّد البحث ترابط السُّنَن الإلهية وتكاملها لفهم آليّات عملها في حياة الناس، وأكَّد أيضاً أنَّ الفهم الأوفى لحقيقة السُّنَن الإلهية يحتاج إلى الوعي بالحقائق الإنسانية الوجودية الأولى وأخْذ مفاهيمها بالاعتبار؛ أعني مفاهيم “الخَلْق”، و”العبادة”، و”الهداية”، و”الابتلاء”، وربط مفهوم “السُّنَن” بمفهوم “الأخلاق” في الإسلام بالمعنى الواسع والشامل.

وكذلك بيَّن البحث أنَّ موضوع الثقافة السُّنَنية هو موضوع واسع جداً، وأنَّ بيانها تفصيلاً يتطلَّب تضافر جهود علمية مُتخصِّصة في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، وأنَّ هذه الثقافة السُّنَنية هي جُمْلة ثقافات خاصّة عديدة، وأنَّ مرجعيتها هي ما سمّيناه -في كتبنا وهنا- الثقافة العامّة، وأنَّها تصلح أنْ تكون عِلْماً مستقلاً مُتفرِّعاً من عِلْم الثقافة الإسلامية (مثل عِلْم مقاصد الشريعة الـمُتفرِّع من عِلْم أصول الفِقْه).

وفي ضوء ما تقدَّم، يوصي الباحث بأمرٍ يراه مطلوباً بشِدَّةٍ؛ لحاجة الأُمَّة إليه، وهو إعلان إنشاء عِلْم مستقل باسم عِلْم السُّنَن الإلهية، وهو أمر دعا إليه عدد من الباحثين قَبْلنا، ويكون ذلك بأنْ تتبنّى مؤسسة فكرية أو جامعة ما هذا المشروع، فتدعو إلى مؤتمر واسع يشارك فيه مُتخصِّصون في العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية، وتُحدَّد محاور البحث وَفقاً للشروط التي يتطلَّبها إنشاء عِلْم مستقل جديد، وأنْ يَكتب في المحور الواحد أكثر من باحث، وأنْ تُشكَّل لجنة مُتنوِّعة التخصُّصات لاستخلاص النتائج، وصياغة مشروع إعلان هذا العِلْم، وتضمينه كل ما يَلزم من مُسوّغات، ليُطبَع بعد ذلك، يُوزَّع على الجامعات في العالَـم الإسلامي.

المراجع

البطيوي، عزيز (2018). سُنَن العمران البشري في السيرة النبوية، عمّان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2018م.

البوطي، محمد سعيد رمضان (2011). من سُنَن الله في عباده، دمشق: دار الفكر.

 زيدان، عبد الكريم (1992). السُّنَن الإلهية في الأُمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية (طبعات عديدة)، (د.م): مؤسسة الرسالة.

السيِّد أحمد، عزمي طه (2008). علم الثقافة الإسلامية: مدخل، عمّان: المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع.

عاشور، مجدي محمد (2013). السُّنَن الإلهية في الأُمم والأفراد في القرآن الكريم: أصول وضوابط، (د.م): دار السلام.

عرجون، محمد الصادق (1971). سُنَن الله في المجتمع من خلال القرآن، (د.م): منشورات العصر الحديث.

ابن فارس، أحمد (د.ت). معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، ج3، القاهرة: مكتبة الخانجي.

فرحات، أحمد حسن (1999). سُنَّة الله التي لا تتبدَّل ولا تتحوَّل، عمّان: دار عمّار.

كهوس، رشيد (2010). السُّنَن الإلهية في السيرة النبوية، بيروت: دار الكتب العلمية.

كهوس، رشيد (2015). علم السُّنَن الإلهية: من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، (د.م): مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث.

الكندي، يعقوب بن إسحق (1987). في الصناعة العظمى، تحقيق وتقديم: عزمي طه السيِّد أحمد، قبرص: دار الشباب للنشر والترجمة والتوزيع.

مجمع اللغة العربية (2004). المعجم الوسيط، ط4، مصر: د.ن.

المغربي، أيمن بن نبيه بن غنام (2007). السُّنَن الإلهية في تغيير المجتمعات في ضوء القرآن الكريم (جمعاً ودراسةً)، (رسالة ماجستير، مكة المكرمة، جامعة أم القرى).

هيشور، محمد (1996). سُنَن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

:References

Al-Biṭīwī, ʿA. (2018). Sunan al-ʿUmrān al-Basharī fī al-Sīrah al-Nabawiyyah. Amman: Al-Maʿhad al-ʿᾹlamī li al-Fikr al-Islāmī.

Al-Būṭī, M. (2011). Min Sunan Allāh fī ʿIbādih. Damascus: Dār al-Fikr.

Al-Kindī, Y. (1987). Fī al-Ṣināʿah al-ʿUẓmá (ʿA. Al-Sayyid Aḥmad, Ed.). Cyprus: Dār al-Shabāb li al-Nashr wa al-Tarjamah wa al-Tawzīʿ.

Al-Mughrabī, A. (2007). Al-Sunan al-Ilāhiyyah fī Taghyīr al-Mujtamaʿāt fī Ḍaw’ al-Qur’ān al-Karīm (Jamʿan wa Dirāsatan) [Master’s thesis, Jāmiʿat Um al-Qurá, Makkah al-Mukarramah].

Al-Sayyid Aḥmad, ʿA. (2008). ʿIlm al-Thaqāfah al-Islāmiyyah: Madkhal. Amman: Al-Mu’assasah al-ʿArabiyyah al-Dawliyyah li al-Nashr wa al-Tawzīʿ.

ʿArjūn, M. (1971). Sunan Allāh fī al-Mujtamaʿ min Khilāl al-Qur’ān. Manshūrāt al-ʿAṣr al-Ḥadīth.

ʿᾹshūr, M. (2013). Al-Sunan al-Ilāhiyyah fī al-Umam wa al-Afrād fī al-Qur’ān al-Karīm: Uṣūl wa Ḍawābiṭ. Dār al-Salām.

Faraḥāt, A. (1999). Sunnat Allāh al-latī lā Tatabaddal wa lā Tataḥawwal. Amman: Dār ʿAmmār.

Hayshūr, M. (1996). Sunan al-Qur’ān fī Qiyām al-Ḥaḍārāt wa Suqūṭihā, Cairo: Al-Maʿhad al-ʿᾹlamī li al-Fikr al-Islāmī.

Ibn Fāris, A. (n. d.), Muʿjam Maqāyīs al-Lughah (3rd ed.) (ʿA. Hārūn, Ed.). Cairo: Maktabat al-Khānjī.

Kuhooss, R. (2010). Al-Sunan al-Ilāhiyyah fī al-Sīrah al-Nabawiyyah. Dār al-Kutub al-ʿIlmiyyah.

Kuhooss, R. (2015). ʿIlm al-Sunan al-Ilāhiyyah: Min al-Waʿy al-Naẓarī ilá al-Ta’sīs al-ʿAmalī. Markiz Jumʿah al-Mājid li al-Thaqāfah wa al-Turāth.

Majmaʿ al-Lughah al-ʿArabiyyah. (2004). Al-Muʿjam al-Wasīṭ (4th ed.).

Zaydān, ʿA. (1992). Al-Sunan al-Ilāhiyyah fī al-Umam wa al-Jamāʿāt wa al-Afrād fī al-Sharīʿah al-Islāmiyyah. Mu’assasat al-Risālah.

 The Jurisprudence of Divine Law (al-Sunan al-Ilāhiyyah) and Sunanī Culture

Azmi Taha al-Sayyid Ahmad*

:Abstract

This study seeks to identify Divine Law (al-Sunan al-Ilāhiyyah) and to thoroughly construe its multilateral truth. The Divine Law is a system of overarching laws constituted and accurately designed by Allah (SWT), ruling the different areas of existence. Perpetual, well-integrated, and cohesive, these laws are meant to act as guidelines for mankind, so that life can progress accordingly, uncoerced. The study comprises two sections: a theoretical section that aims to identify, as accurately as possible, the truth of Divine Law, designated as the “Jurisprudence of Divine Law” (al-Sunan al-Ilāhiyyah); and a practical section that aims to apply the theoretical part of the Divine-Law (Sunanī) culture to real life. The study concludes that there is a distinction between cosmic, natural laws and those regulating human life. It also lays emphasis on the integration and interconnectedness of the Divine Law in order to grasp its operational mechanisms in human life.

Keywords: Divine Law (al-Sunan al-Ilāhiyyah), jurisprudence of Divine Law, Divine-Law (Sunanī) culture, permanence, constancy, cohesion, integration


(*) دكتوراه في الفلسفة الإسلامية، أستاذ جامعي في عدد من الجامعات الأردنية. البريد الإلكتروني: [email protected]، والعناوين التي جاءت بين معقوفتين [] هي من وضع المحرر.

(أحمد، عزمي طه السيد (2023). فقه السُّنَن الإلهية والثقافة السُّنَنيّة، مجلة “الفكر الإسلامي المعاصر”، مجلد 29، العدد 105، 129-164. DOI: 10.35632/citj.v29i105.7723).

[1] الحضارة في فهمنا هي: جُمْلة المنجزات الإنسانية الـمُتراكِمة لأُمَّة من الأُمم (أو مجتمع من المجتمعات) في حِقبة زمنية مُعيَّنة، وهي تهدف إلى تيسير حياة الإنسان، وتسهيلها، وتكميل وجوده في ضوء العقيدة السائدة في هذه الأُمَّة (أو المجتمع). وتضمُّ هذه المنجزات مجالين واسعين، هما: مجال المنجزات المادِّية (الآلات، والأجهزة، والصناعات المختلفة، وكذلك المباني، والطرق، والجسور، والمستشفيات، …)، ومجال المنجزات غير المادِّية (العلوم على اختلافها، والفنون النظرية، والنُّظُم: الإدارية، والمالية، والقضائية، والسياسية، والتربوية …) (السيد أحمد، 2008، ص73).

* Azmi Taha al-Sayyid Ahmad has a doctorate in Islamic Philosophy and teaches at a number of Jordanian Universities.

اترك تعليق

  1. يقول zoritoler imol:

    I believe other website owners should take this site as an example , very clean and superb user genial design and style.