فِقْه السُّنَن – كلمة التحرير

بقلم الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل(*)

تتحرَّك سُنَن الله العاملة أو قوانين الحركة التاريخية على مستويين؛ أوَّلهما: بناء الكون والعالَـم، وثانيهما: حركة التاريخ البشري. وقد قدَّم كتاب الله وسُنَّة رسوله r في السياقين شبكة من المعطيات التي جاء العلم الحديث ليؤكد ويوضّح العديد من مفرداتها، ونهض المعنيون بالتفسير العلمي للقرآن والسُّنَّة لكي يُقدِّموا بحوثهم ودراساتهم التي راحت تزداد عدداً عاماً بعد عام، مستهدين بالآية الكريمة التي تقول: ﴿ف سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهمﱠ ﴾   [فصلت: 53]، والآية الكريمة التي تقول: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾  [يونس: 39].

الكوزمولوجيون من جهتهم، ومنذ الربع الثاني من القرن العشرين، غيّروا مسار بحوثهم في اتجاه اللقاء بين العلم والدين، وتجاوزوا الرؤية الأحادية العوراء التي حكمت بحوثهم عبر القرون السابقة، لتأكيد رفض مبدأ غائية الخلق وجماليته؛ إذ برز عددٌ من الفيزيائيين والرياضيين الكبار أمثال آينشتاين وهايزنبرغ وبور وبول ديفز …، لكي يؤكدوا الالتحام بين كشوفهم الكوزمولوجية وغائيتها، وعاد العلم لكي يلتحم بالإيمان.

بدءاً من مبدأ الانفجار العظيم الـ(Big Bang) في بدايات الخلق، مروراً بالتمدّد الكوني، وصولاً إلى اللم الكوني، وتأكيداً على إحكام بناء العالم في مفاصله كافةً، جاءت بحوثهم لكي تؤكد أن وراء هذا كله إرادة فوقية عاقلة مريدة فاعلة هي التي تمسك النظام الكوني من التبعثر والارتطام، وتلك هي الله (جلّ في علاه) الذي شاءت إرادته أن يقوم بناء الكون على الكينونة والصيرورة معاً. فالله سبحانه وتعالى لا يكتفي بأن يقول للظواهر والأشياء كوني فتكون، بل يمضي ليصيّرها من حالٍ إلى حال عبر رصد زمني متواصل لا ينقطع لحظةً واحدةً: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)  [النمل: 88]، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [ياسين: 38-40]، ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47]، ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾  [الأنبياء: 104].

وهذه شواهد من مقولات كبار العلماء عن الارتباط المحتوم في بنية الكون والعالَـم بين الإيمان والعلم، والتأكيد المدعَّم بالأدلة على قصدية خلق السماوات والأرض وانتفاء الصدفة والعبثية.

“لم تعد المادية فلسفة علمية” آرثر كويستلر: فيلسوف اجتماعي شهير.

“في حُلّتها القياسية تفترض نظرية الانفجار الكبير أنَّ كل أجزاء الكون بدأت بالتمدّد آنياً، لكنْ كيف استطاعت كل الأجزاء المختلفة للكون أن تتواقّت في بداية تمدّدها؟ من الذي أعطى ذلك الأمر؟” أندريه ليندي: أستاذ علم الكون.

“رافقت قوة انفجار الكون العشوائية دقة في طاقة جاذبيته التقائية لا يمكن تخيّلها … إلّا إنًّ مقادير انفجارها كانت مرتبةً بعناية فائقة مختارة” باول ديفز: أستاذ الفيزياء النظرية.

“إذا كانت العقول الراقية في العالم لا تستطيع أن تحل ألغاز أعمال الطبيعة العميقة إلّا بصعوبة فقط، فكيف يمكن افتراض أن تلك الأعمال هي مجرد صُدَف لا عقلانية، وأنها ناتجة عن مصادفة عمياء؟” باول ديفز: أستاذ الفيزياء النظرية.

“إن الإشعاع الوارد من الشمس (ومن أي تتابع نجمي) (والمتمركز في نطاق من الطيف من النطاق الكهرومغناطيسي)، ذو خطوطٍ عائمة، ويزوّد الأرض بدقة بالإشعاع المطلوب للحفاظ على الحياة عليها، هو شيء لافت للنظر” جان كانبيل: فيزيائي إنجليزي.

“إنكم إذا تأملتم في النظام الخارق الذي بُني به الكون، ولاحظتم التصميم غير العادي الذي خُلق به، فلا بدّ أن يوحي لكم ذلك بأن ثمة هدفاً وغايةً وراء ذلك” جون بولكنغهورن: فيزيائي إنجليزي.

“إنَّ تطلعاتنا الدينية وحِسَّنا الجمالي ليسا بالضرورة ظواهر وهمية، كما جرى الافتراض في السابق. وإن من حق الرؤية الدينية أن يكون لها مكان في هذا العالم العلمي الجديد” سوليفان في حدود العلم.

لقد حاول العالم البريطاني الشهير السير فريد هويل، يعاونه بروفيسور هندي في جامعة كارديف في بريطانيا، في بداية ثمانينات القرن الماضي إمكان تخليق الحياة من الوحل الأولى Primeval Soup بعيداً عن أية مداخلة فوقية فيما سمّياه التخلّق من الفضاء Evolution From Space. وبعد سنواتٍ طوال من البحث والمعاناة أعلنا عن عجزهما عن تحقيق المطلوب. وأنهيا كتابهما –رغم رؤيتهما الإلحادية– بفصل يحمل عنوان: (الله: God) بوصفه – سبحانه وتعالى – هو الحلّ لهذه المعضلة العسيرة.

وبموازاة هذا بذل علماء الأحياء في الاتحاد السوفييتي السابق، بتوجيه من الدولة، جهوداً متواصلة على مدى خمسين عاماً لتحقيق الهدف ذاته: تخلَّق الحياة بعيداً عن إرادة فوقية، أو قصدية مسبَّقة، ولكنهم هم الآخرون أعلنوا عن عجزهم وكفّوا عن المحاولة.

وسيلحظ قرّاء هذا العدد من مجلة (الفكر الإسلامي المعاصر) وجود عدد من البحوث التي تمضي في الاتجاه ذاته، مؤكدةً الالتحام الوثيق بين الخلق الكوني وإرادة الله (جلّ في علاه).

في المستوى الثاني المعني بقوانين الحركة التاريخية أو سنن الله العاملة في التاريخ، مما يُعنى به فلاسفة التاريخ أمثال: هيغل وكروتشه وشبنلجر وتوينبي وماركس وإنجلز … قُدّم كثير من البحوث والدراسات، وطُرحت وجهات نظر عديدة … بعضها يلغي الإرادة الإلهية من الحساب، وبعضها الآخر يُؤكِّدها. ثمَّ جاء الباحثون الإسلاميون لكي يدلوا بدلوهم في استعراض هذه البحوث، ونقدها، والإضافة عليها، مما قدّم فيه القرآن الكريم والسنة النبوية العديد من المعطيات، ولا شكّ في أنَّ بحوث هذا العدد تحمل بين ثناياها الشاهد على ذلك.

والحديث عن هذا السياق يرتبط أشد الارتباط بما يمكن تسميته بالفِقْه الحضاري، ذلك الذي يتابع القوانين التي تتحكَّم في نشوء الحضارات وازدهارها، وتلك التي تقود إلى انكماشها وتدهورها، وعلى كثرة ما كُتب عن هذا الموضوع، فإنه يظل بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة.

ونحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى فِقْهٍ كهذا؛ لإضاءة مسائل وإشكاليات عقدية وتاريخية ومعاصرة، وتقديم أجوبة أكثر دقةً بخصوصها. والقرآن الكريم وسنة الرسول r، فضلاً عن تراثنا الفكري، ومعطيات فلاسفة التاريخ ومفكريه ودارسي الحضارات المحدثين، يتقدمون جميعاً بالإجابات المطلوبة، إذا عرفنا كيف نُحسن التقاطها وإدراكها.

هنالك – على سبيل المثال – ضرورة إعادة النظر في الدراسات التقليدية المعنية بالسيرة النبوية والتي جعلتها، أو اختزلتها بعبارةٍ أدق، في عرض عسكري لغزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحوّل إلى التعامل معها بوصفها مشروعاً حضارياً تُؤكِّده معطيات السيرة ذاتها.

هنالك –أيضاً– ضرورة إعادة النظر في مناهج دراسة وتدريس مادة (حضارة الإسلام) في المعاهد والجامعات، وتجاوز المنهج التفكيكي المعتمد منذ أكثر من قرن من الزمن، إلى منهج شمولي يعرف كيف يتابع “شخصانية” هذه الحضارة، وحلقات نشوئها ونموّها وازدهارها، وعوامل أفولها وانهيارها في نهاية المطاف.

وثمة تحديات أكثر حداثةً مثل نظرية (نهاية التاريخ) لفرنسيس فوكوياما، ونظرية (صراع الحضارات) لصموئيل هنتنجتون، ومعطيات النظام العالمي الجديد.

وهناك تحديات المشاركة الإسلامية في مستقبل العالم، وإعادة صياغة المصير البشري، ودور الحضارة الإسلامية – في حالة انبعاثها – في هذه المشاركة، ومساحتها الممكنة.

ويوجد ما يطلق عليه اليوم اسم (المشروع الحضاري الإسلامي البديل) الذي يتحتم على الأمة الإسلامية أن تنسج حيثياته من الأساسيات العقدية والتشريعية في كتاب الله وسنة رسوله r وسوابق الآباء والأجداد، وأن تؤكد حضورها قبالة انهيار جلّ المذاهب والنظم الشمولية والوضعية التي استعبدت الإنسان في العالم، منذ انحراف الأديان الكبرى وعزلها عن أداء مهمتها.

وثمة قبل هذا كلّه ضرورة القيام بمسح شامل لمنظومة الآيات والمقاطع القرآنية المعنية بقوانين الحركة التاريخية أو سنن الله العاملة في التاريخ، وتفسيرها، من أجل إغناء وإضاءة الدراسات الحضارية الخاصة بالموضوع.

هذه المسائل جميعاً تتطلب فِقهاً حضارياً؛ أي وعياً بقوانين الحركة التاريخية؛ ومن ثمَّ فإن على مثقفينا عامةً، وطلبة الجامعات في عالم الإسلام كلّه، بشكل خاص، والمعنيين بالتخصصات التاريخية والحضارية على وجه التحديد، أن يولوا اهتماماً أكبر لهذه المطالب والتحديات، وألّا يكتفوا بمعارف تاريخية وحضارية مفككةً، يتلقونها أو يتعاملون معها على عجل، ويتخرجون مكتفين بالشهادات وحدها، دون فهم عميق لما ينبغي أن يكونوا على وعيٍ به في سياق تخصصهم المهم هذا.

إن الفِقْه الحضاري -والحالة هذه- يغدو ضرورة من الضرورات القصوى لحملة الهمّ الإسلامي في العالم المعاصر بُغية التحرُّك وهم على وعيٍ تام ورؤية نافذة لخرائط العمل، في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، وتداخلت التحديات، وتقوّى فيه القوي على الضعيف وسدّت المسالك أمام المبادئ والنظم الوضعية، وازداد ضلال الأديان المحرّفة … حتى غدا العالم بأمسّ الحاجة إلى مشروعٍ كبير ينقذه من الورطة التي يتخبط فيها ويقوده إلى الصراط.

ومرةً أخرى، وكما يقول رجاء غارودي في (وعود الإسلام): “إن مشكلة العالم كونية ولا بدّ للجواب أن يكون كونياً، والإسلام هو هذا الجواب”.


(*) خليل، عماد الدين (2023). فِقه السُّنن، مجلة “الفكر الإسلامي المعاصر”، مجلد 29، العدد 105، 5-9. DOI: 10.35632/citj.v29i105.7717

كافة الحقوق محفوظة للمعهد العالمي للفكر الإسلامي 2023 ©

اترك تعليق