مركزية دور الإنسان في بناء العمران من خلال القرآن (٤)

بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه(*)

ثالثاً: الدور الإنساني في البناء العمراني في ضوء القرآن:

يشغل موضوع العمران مساحة كبرى في القرآن الكريم جاعلَه رؤيته لوظيفة الإنسان المستخلَف في الأرض، المتعلقة بالجانب المادي من حياته، وما به تزجية معاشه، فأرشده إلى مواده الأساسية المبثوثة في الكون، عليه اكتشافها والتعامل معها وفق سننها، لاستخراج خيراتها واستثمارها في حياته، ولكنه يشترط عليه أن يكون مؤهَلاً محققاً للتزكية التي شرعها سبحانه لهذا الغرض، فضلا عن أنه ينظم بتشريعه الكلي تلك المجالات الاجتماعية مسرحِ المناشط الإنسانية؛ إذ يهديها إلى الأقوم والأصلح فيها، بما وضعه من مبادئ عامة وقواعد كلية فيما يتطور فيها ويتغير بتغير الزمان والمكان، إلى جانب ما وضعه من أحكام تفصيلية فيما لا يتطور ولا يتغير.

وقبل بيان دور الإنْسان المركزي في البناء العمراني من خلال المجالات العمرانية، نحتاج إلى بيان معنى العمران ومفهومه.

*****

مفهوم العمران في القرآن

١- العمران في اللغة:

أصله “عمر” وهو الحياة. يدل على بقاءٍ وامتدادِ زمانٍ، والعمر: اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة، فهو دون البقاء. والعمارة نقيض الخراب، يقال: عمر أرضه: يعمرها عمارة، وأعمرته الأرض واستعمرته: إذا فوّضت إليه العمارة، ويقال: عَمَرْتُ بمكان كذا، أي: أقمتُ به، والْمَعْمَر: المسكن يكون عَامِراً بسكّانه. والْعَوْمَرَةُ: صَخَبٌ يدلّ على عمارة الموضع بأربابه. والعَمارُ: ما يوضع على الرأس عمارةً كالعِمامة والقلنسوة … [1].

والمعنى الذي تدور حوله مادة ‘عمر’ “شغلُ فراغِ الأثناءِ بمناسبٍ يثبِّتها أو يبرز نفعها ويديمه؛ كالعُمُور بين الأسنان، واليَدَيْن في الكُمَّين، والثوب الصفيق بكثافة خيوطه فيه … والعَمارُ يُجعل على الرأس تدخل في فراغه فتملؤه، وعَمَرَ المالُ (قعد): صار كثيرًا وافرًا، فدَامَ، والمعْمَر كمسكن: المنزل الكثير الماء والكلأ والناس، وهو وجود دائم في أثناء، ومن ذلك عَمَر المنزلَ: سكنه فشغل فراغه وأقام فيه. ومَلْء الفراغ بسده أو الإقامة فيه استغلالٌ له وتحصيلٌ لفائدته. ومن هذا تؤخذ العِمَارة بمعنى تشغيل الشيء العاطل أو المهمل لتحصيل فائدته:﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا﴾الروم:٩،﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ هود:٦١؛ أسكنكم أو أمركم بعمارتها. والمعنى: شغل فراغ الأثناء لم تذكره المعاجم، ولكنه معنى صحيح في ضوء تحليل التركيب”[2].

٢- العمران في القُرْآن:

هو مفهوم قرآني مركزي يرِدُ كمحدد لوظيفة الإنسان المستخلَف في الأرض، ومجلَى نتاجِ تزكِّيه؛ أي محلّ “الترجمة العملية والتطبيق الأكمل للعلاقات التي حددتها فلسفة التربية الإسلامية بين الإنسان والخالق، والكون والحياة، والإنسان والآخرة”[3]. ويتسق مفهومه لغةً السابق تماما مع مفهومه قرآناً؛ إذ يذكره تعالى في قوله الجامع: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا﴾ هود:٦١، أي ما يتعلق بالواقع المادي من الحياة الإنسانية ونظام معاشهم، وهو من أعظم مهام الخلافة في الأرض؛ إذ يُعد “الركن المكمل لعملية “الاستخلاف”، والقيمة الحضارية الكبرى في الإسلام التي تؤطر حركة الاستثمار في الكون، والتعامل مع الأشياء وفق منهج الله في أمره ونهيه؛ حيث المقصد العام للشريعة الإسلامية: إصلاح الأرض وعمارتها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق التمكين عليها، وتعبيد الفعل البشري لله سبحانه، بحيث تكون جميع فعاليات الكون متجهة إلى الله … فمهمة الخلافة تقتضي التعمير في الأرض تعميراً مادياً بالمنشآت الصالحة وبالصناعة والزراعة ومقتضياتها، وتعميرها معنويا بإقامة العدل وإشاعة الإحسان بين الناس”[4] .

ومعنى الاستعمار في الآية طلب التعمير والعمارة في الأرض واستصلاحها بالبناء والغرس والزرع، وإنشاء المصانع، وسائر المنشآت النافعة للإنسان، الملبية لحاجاته، والمقومة لمتطلبات حياته، باستثمار المسخّرات في الأرض ومقدراتها، فكان ذلك عمراناً لها نقيضاً لخرابها وإهمالها وتعطيل مواردها[5]، حتى تكون آهلةً بما يجعلها تصير “إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها؛ كعمارة الدار للسكنى، والمسجد للعبادة، والزرع للحرث، والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيها”[6]. ولحصول كل ذلك لا بد من اجتماع الناس وإقامتهم واستقرارهم في مكان وموطن، وتعاونهم على إنجاز أغراضهم، وذلك عبر مساحة الزمن وامتداده، المتمثل في هذه الأعمار الإنسانية التي يتمتع بها الناس.

بهذه الدلالات المتداخلة والأبعاد المتشابكة يجيء مفهوم العمران في القُرْآن:

*بعد العمل والسعي والنشاط.

*بعد الاجتماع في المكان والسكن والإقامة والاستقرار ..

*بعد الزمن والعُمُر وامتداده.

*البعد الثقافي والمعرفي وتراكم الخبرات مما يترتب من اجتماع الناس.

وهذه أبعاد ومعان ضمنها القرآن الكريم في استعماله لمادة ‘عمر’ [7]، واحتوتها آية الاستعمار؛ وقد قال الطبري في تفسيره:﴿وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا﴾:”يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها، فكان المعنى فيه: أسكنكم فيها أيام حياتكم”[8]. ويذكر العديد من المفسرين أن في ﴿واسْتَعْمَرَكم فِيها﴾ ثلاثة أوجه؛ كالماوردي الذي يقول: “أحدها: مَعناه أعْمركم فِيها؛ بِأن جعلكم فِيها مدة أعماركم، قاله مجاهد، مِن قولهم أعمر فلان فلاناً داره فهي له عمرى. الثاني: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فِيها من بناء مساكن، وغرس أشجار، قاله علي بن عيسى. الثالث: أطالَ فيها أعماركم، قال الضحاك: كانَتْ أعْمارُكم ألْفَ سنة إلى ثلاثمائة سنة”[9].

وعليه، يتحقق عمران الأرض بالعمل الإنساني وشتى المساعي من البناء والتشييد والزرع، وما يستتبعه ويترتب عنه وما يعرض له من أحوال، نتيجة اجتماع الناس وإقامتهم على الأرض في هذا الزمن والعمر الإنسانيين. إنه كما يعرفه ابن خلدون: “التساكن والتنازل في مصر أو حِلَّةٍ للأنس بالعشير واقتناء الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعاش”[10]، أو “هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس، والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال”[11].

وعليه، يكون العمران من منظور القُرْآن قيمةً حاكمةً “معيارية تقاس بها ‘قيمة’ الحياة في عُمُر الإنْسان الفرد، أو عمر الجماعة أو الأمة، وقيمة معيارية تُقَوَّم بها “الجهود والإنجازات الحضارية “العمرانية” للفرد أو الجماعة أو الأمة”[12].

ولكي تنشط الأعمال، وتشتغل الأيدي والأبصار، وتتحقق تلك الإنجازات، ولا يبقى شيء معطل غير مُنتَفَعٍ به، ولا يُعطل ولا يُعاق الإنْسان عن العمل العمراني، يلزم توفير الشروط اللازمة، وعوامل الجذب وظروف التحفيز لها في المجتمع، وخاصة ما يتعلق بنظم إدارة الشؤون الإنسانية وحفظ المصالح. وهنا يأتي العامل التشريعي القُرْآني، واضعاً أطراً تنظيمية كاملةً لمجالات الحياة الإنسانية الاجتماعية؛ فشرع الله تعالى مبادئ وقواعد عامة تؤهل الواقع، وتهيئ العوامل والظروف التحفيزية للعمل وإثارة الفاعلية الإنسانية، دفعاً للعطالة والجمود والفساد نقائض العمران.

يتبع


(*) أصل هذه السلسلة ورقة علمية في مؤتمر”العمران والقرآن ” لمؤسسة منارات الفكر الدولية بإسطنبول المنعقد يومي ٩-١٠ فبراير٢٠٢٢م، بعنوان:”مركزية دور الإنسان في بناء العمران من خلال القرآن”، ونشرت في كتاب مؤتمر”العمران والقرآن”، والرقم الدولي المعياري: 978-1-9163760-3-8، والباحثة د. فاطمة الزهراء دوقيه دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

[1]– يراجع المفردات، مرجع سابق، ص ٥٨٦-٥٨٧، ومقاييس اللغة، ٤/١٤٠-١٤١.

[2]– محمد حسن جبل، المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القُرْآن الكريم، مكتبة الآداب، القاهرة، ط١، ٢٠١٠م، ص ١٥٢٢-١٥٢٥. بتصرف.

[3]– ماجد عرسان الكيلاني، مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح، كتاب الأمة، العدد ٢٩، المحاكم الشرعية والشؤون الدينية- قطر، ط١، شوال ١٤١١ه، ص ٤٢.

[4]– قيم الإسلام الحضارية، مرجع سابق، ص ٩٩.

[5]– يراجع التحرير والتنوير، مرجع سابق، ١٢/١٠٨.

[6]– محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القُرْآن،ج١٠، منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، ط١، (١٤١٧هـ/١٩٩٧م)، ص ٢٩٨.

[7]– يراجع منظومة القيم العليا، مرجع سابق، ص ١٢٨-١٤٣.

[8]– أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القُرْآن، ج١٢، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان – القاهرة، ط١، (١٤٢٢ه/٢٠٠١م)، ص ٤٥٣.

[9]– أبو الحسن الماوردي، النكت والعيون، ج٢، تحقيق: السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، طبعة دار الكتب العلمية – مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ص ٤٧٩.

[10]– عبد الرحمن ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، ط١، (١٤٢٦-١٤٧ه/٢٠٠٦م)، ص ٥٦..

[11]– نفسه، ص٥٠.

[12]– منظومة القيم العليا، مرجع سابق،  ص ٦٩.

اترك تعليق

  1. يقول Ann:

    online casino real money ny play casino games for real money games online play casino casino real money

  2. يقول Wilton:

    play for real money online casino casino free money play live online casino games with real money