آيات وسنن (٤) – ﴿بَعَثۡنَا عَلَیۡكُمۡ عِبَادࣰا لَّنَاۤ أُو۟لِی بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ﴾

بقلم د.فاطمة الزهراء دوقيه(*)

نعيش هذه الأيام والعالم أجمع بلاءً عظيمًا، ومحنةً شديدةً، وأياماً عصيبةً لا ريب أنها من أيام الله التي تحمل الذكرى وسيلاً من العبر والآيات، لعلهم يتذكرون:﴿وَذَكِّرۡهُم بِأَیَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ﴾ [إبراهيم:٥]. الحديث هنا عن هذا العدوان الغاشم والظالم على “غزة”، والإبادة الجماعية لأهلها من قبل عدو الأمة والبشرية الصهيوني. عدوان يخلف مشاهد مروعة، وصوراً من المآسي يندى لها الجبين، ويشيب لها الولدان، فلا نجد له الكلمات المناسبة للتعبير عنه، ولا المطابقة لوصفه، وكيفما قلت ووصفت، تشعر أنها لا تكفي، لأن الواقع أبشع من ذلك وأشد.

لكن يقيناً، ومن المنظور السنني القرآني، أن ما يجري هو سنة الله في ابتلاء عباده المؤمنين وفتنتهم، لاختبار الإيمان والإرادة والثبات على الحق، واتخاذ الشهداء، والتمحيص، وتمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وكل ذلك على طريق نصرهم وتمكينهم.

والآيات في هذه المعاني كثيرة؛ مثل قوله عز وجل:﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [البقرة:١٥٥]،﴿إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ * وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ * أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [آل عمران:١٤٠-١٤٢]،﴿مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِیَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِ﴾ [آل عمران:١٧٩]،﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤا۟ أَن یَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ * وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾ [العنكبوت:٢-٣].

ونرى كذلك فيما يجري سنة الله في ترك الظالمين في طغيانهم ومدهم فيه، والإملاء لهم واستدراجهم والمكر بهم، على طريق خذلانهم وإهلاكهم وتدميرهم وذهاب ملكهم، مصداق قوله تعالى:﴿وَیَمُدُّهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ﴾ [البقرة:١٥]، ﴿وَلَا یَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّمَا نُمۡلِی لَهُمۡ خَیۡرࣱ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِی لَهُمۡ لِیَزۡدَادُوۤا۟ إِثۡمࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابࣱ مُّهِینࣱ﴾[آل عمران:١٧٨]،﴿وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَیۡثُ لَا یَعۡلَمُونَ * وَأُمۡلِی لَهُمۡۚ إِنَّ كَیۡدِی مَتِینٌ﴾ [الأعراف:١٨٢-١٨٣]،﴿مَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَا هَادِیَ لَهُۥۚ وَیَذَرُهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ﴾ [الأعراف:١٨٦]،﴿أَلَمۡ یَرَوۡا۟ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنࣲ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ عَلَیۡهِم مِّدۡرَارࣰا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَـٰرَ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِینَ﴾ [الأنعام:٦]،﴿وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰۤ أَهۡلَكۡنَـٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُوا۟ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدࣰا﴾[الكهف:٥٩]، ﴿أَفَأَمِنُوا۟ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ [الأعراف:٩٩]،﴿وَإِذۡ یَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیُثۡبِتُوكَ أَوۡ یَقۡتُلُوكَ أَوۡ یُخۡرِجُوكَۚ وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ﴾ [الأنفال:٣٠].

وفي العموم، فإننا نشهد جولة من جولات الصراع الدائم بين الحق والباطل، سنة ماضية جارية باقية ما بقيت الحياة على الأرض، لقوله سبحانه:﴿وَیُجَـٰدِلُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِٱلۡبَـٰطِلِ لِیُدۡحِضُوا۟ بِهِ ٱلۡحَقَّ﴾ [الكهف:٥٦]، ﴿وَجَـٰدَلُوا۟ بِٱلۡبَـٰطِلِ لِیُدۡحِضُوا۟ بِهِ ٱلۡحَقَّ فَأَخَذۡتُهُمۡ﴾ [غافر:٥]،﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَـٰطِلَ﴾[الرعد:١٧]،﴿وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ یَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُوا۟﴾ [البقرة:٢١٧]،﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡیَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡ﴾ [البقرة:١٢٠]. وبهذا “يُعلم أن الاختلاف شنشنة قديمة في البشر، وأن المصارعة بين الحق والباطل شأن قديم، وهي من النواميس التي جُبِلَ عليها النظام البشري”[1].

ثم إن هذا العدوان الصهيوني الظالم بالصورة الجارية الآن وما سبقه من قبل، ليس أمراً غير معلوم ولا بدعاً، عندما يتعلق الأمر بقوم بني إسرائيل، فقد أنبأنا القرآن الكريم:﴿وَقَضَیۡنَاۤ إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ءِیلَ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَیۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوࣰّا كَبِیرࣰا﴾ [الإسراء:٤]؛ فقد قضى إليهم وأخبرهم الله تعالى “بما سيكون منهم، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم؛ لا أنه قضاء قهري عليهم، تنشأ عنه أفعالهم، فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد:﴿قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَاۤءِ﴾ [الأعراف:٢٨]، إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن، فما سيكون -بالقياس إلى علم الله- كائن، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد، ولم يكشف عنه الستار… ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون”[2].

ويترتب عن فعلهم وحالهم الفاسد والمتجبر هذا أن تقع عليهم سنة الله الثابتة في عقابهم وإهلاكهم، وقد حصل في الماضي، ويحصل كلما عادوا وتكرر منهم نفس النهج والسلوك، سنة الله التي لا تتخلف؛ إذ قال عز وجل في تتمة الآية السابقة:﴿فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَیۡكُمۡ عِبَادࣰا لَّنَاۤ أُو۟لِی بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ فَجَاسُوا۟ خِلَـٰلَ ٱلدِّیَارِۚ وَكَانَ وَعۡدࣰا مَّفۡعُولࣰا﴾ [الإسراء:٥]، فحين يفسدون في الأرض ويعلون علوا كبيرا، ويتجبرون ويطغون على الناس ويتجاوزون كل الحدود، يسلط الله عليهم جنداً من خلقه، وعباداً له أولي بأس شديد، أي شدة وقوة وبطش في القتال والحرب، وعدة وشجاعة، ذاهبين جائين قتلاً وفتكاً، نقمة الله على بني إسرائيل بسبب إفسادهم وبغيهم البغي العظيم [3].

فنحن إذاً أمام صيغة سننية إلهية مكوَّنةٍ من مقدماتٍ ونتائجَ، وشرطٍ وجزاءٍ، الشرط هو الفعل البشري المتمثل في إفساد بني إسرائيل وعلوهم وتجبرهم في الأرض:﴿فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا﴾؛ أي إذا وقع “الموعود الذي هو أولى المرتين من الإفساد والعلو”[4]، أما الجزاء وفعل الله بهم، فقوله:﴿بَعَثۡنَا عَلَیۡكُمۡ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾، أي سلطنا عليكم ذوي شدة في الحرب، وشجاعة وعدد وعدة، فنصرهم الله عليكم[5]، إذ البأس معناه “الشدة وما ضارعها، فالبأس الشدة في الحرب، يقال: رجل ذو بأس وبئيس أي شجاع”[6]، ومن معانيه العذاب [7]. وقد وردت عبارة “بأس شديد” أربع مرات في القرآن هي كالتالي:

  • ﴿قَالُوا۟ نَحۡنُ أُو۟لُوا۟ قُوَّةࣲ وَأُو۟لُوا۟ بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ﴾ [النمل:٣٣]، أي “ولنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا؛ وبلدنا،

ومملكتنا”[8].

  • ﴿قُل لِّلۡمُخَلَّفِینَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُو۟لِی بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ تُقَـٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ یُسۡلِمُونَ﴾ [الفتح:١٦]، أي أنهم

ذوو قوة وشجاعة ونجدة وشدة قوية في القتال مع مكر ودهاء[9].

  • ﴿وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِیدَ فِیهِ بَأۡسࣱ شَدِیدࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾[الحديد:٢٥]، أي أنه “قوة في الحرب والسلم، “وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ”؛ وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد” [10].

وعليه، نلفى البأس الشديد في كل المواضع القرآنية بمعنى القوة والشدة، وذلك بحسب ما تعلق وتلبس به.

واللافت للنظر أنه لم يجر تعيين أولئك العباد أولي البأس الشديد، ليبقى المعنى على عمومه، لا بخصوص من جعلهم الله في كل مرة من يوقع على أيديهم سنته، فيشمل كل من كان سبب عذاب بني إسرائيل وهلاكهم وقهرهم وإذلالهم في أي زمان وأي مكان، مؤمنين كانوا أو كافرين، أو كما ذكر سيد قطب:”ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل، لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئاً، والعبرة هي المطلوبة هنا. وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود”[11]. ولمزيد الترهيب والتحذير من وقوع عقابه وتأكيد سنته، ذيل عز وجل الآية بـقوله:﴿وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾، أي لا بد أن يقع ما توعدهم به، لا تتخلف ولا تتبدل، بل وعيد رباني صادق ومحقق، وسنة إلهية اجتماعية ثابتة وناجزة لا تبديل لها ولا تحويل عن بني إسرائيل خاصة، والظالمين المفسدين عامةً كما في عدة آيات قرآنية، كقوله تعالى:﴿هَلۡ یُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ [الأنعام:٤٧]، وقوله:﴿وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُوا۟﴾ [يونس:١٣]، وقوله:﴿وَقَدۡ خَابَ مَنۡ حَمَلَ ظُلۡمࣰا﴾[طه:١١١]، وقوله:﴿فَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَا وَهِیَ ظَالِمَةࣱ﴾ [الحج:٤٥].

من الناحية الواقعية والتاريخية، فقد صدق هذا الوعيد الخاص ببني إسرائيل حين وقع منهم المحذور؛ إذ سلط عليهم من قهرهم وشردهم في الأرض، ودمر مملكتهم فيها تدميراً، إذ “قد تم الاجماع من  المفسرين القدامى أن مرتي الإفساد قد وقعتا، وأن الله تعالى عاقبهم على كل واحدة منهما، وليس هناك عقوبة أشد وأنكى عليهم من الهزيمة والأسر والهوان والتدمير على أيدي البابليين، الذين محوا دولتهم من الوجود، وأحرقوا كتابهم المقدس، ودمروا هيكلهم تدميرًا، وكذلك ضربة الرومان القاصمة التي قضت على وجودهم في فلسطين قضاء مبرماً، وشردتهم في الأرض شذر مذر، كما قال تعالى:﴿وَقَطَّعۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الأعراف:١٦٨]”[12].

وكون العقاب قد وقع لا يعني عدم تكرار وقوعه، بل إنهم كلما كرروا نفس السلوك، وساروا على ذات النهج من الفساد والعلو في الأرض سيتكرر العقاب، وستقع السنة الربانية لقوله تعالى في نفس السياق:﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء:٨]. فمن “الواضح أنهم اليوم يقعون تحت القانون الإلهي المتمثل في قوله تعالى:﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء:٨]. وها هم قد عادوا إلى الإفساد والعلو والطغيان، وسنة الله تعالى أن يعود عليهم بالعقوبة التي تردعهم وتؤدبهم، وتعرفهم قدر أنفسهم، كما قال الشاعر:         إن عادت العقرب عدنا لها  **  بالنعل والنعل لها حاضرة!

يؤكد ذلك قوله تعالى:﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [الأعراف:167]”[13].

إن ما يسمى دولة «إسرائيل» اليوم هي التمثيل لعودتهم مرة أخرى إلى الإفساد والعلو في الأرض، وقد أذاقت في كل مراحل وجودها وما زالت تذيق أصحاب الأرض شتى صنوف الويلات والعذابات، فلا بد إذاً أن يتحقق الوعيد الرباني بموجب:﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء:٨]، بأن يسلط الله عليهم ويبعث عباداً له أولي بأس شديد، يسومونهم سوء العذاب وفقاً لسنته الثابتة، وهم أصحاب الأرض الذين لم يمكثوا مكتوفي الأيدي إزاء ظلم وفساد بني إسرائيل، بل أظهروا بأساً شديداً، وقوةً في الصمود، وثباتاً على الحق، وشجاعةً في الدفاع عن الأرض والوطن، وعدم اعتراف بدعاويهم المعلومة، وعدم استسلام لمخططاتهم؛ فأذاقوا عدوهم هذا في مختلف مراحل تاريخ هذه الدولة القائمة على اللصوصية والسرقة والاعتماد على قوة السلاح شتى أنواع المحن والأزمات، عبر الانتفاضات ومختلف أشكال المقاومة وصور الصمود، وذلك على قدر الإمكان المتوفر، وبحكم ظروف المحيطين العربي والإسلامي السلبي المستمر في سلبيته إلى لحظتنا هذه.

وها هم أصحاب الأرض يوفّقهم الله تعالى في السنوات الأخيرة إلى تطوير إمكانهم وقدراتهم، فتوجوا مراحل كثيرة من بأسهم وقوة ثباتهم وعدم استسلامهم حتى أصبحوا أشد بأساً، وأصحاب عدة وعدد، وأكثر شجاعة وأبرع تخطيطاً وأدهى، ليصير سوء عذابهم لبني إسرائيل أقوى وأشد وأمر، وهو ما يتمثل في المحطة الأخيرة من محطات مقاومتهم المسلحة، وجهادهم في السابع من أكتوبر الذي يعد بكل المقاييس انتصاراً لهم بشهادة الأقارب والاباعد والخبراء، وأطلقوا عليها “معركة طوفان الأقصى”؛ حيث أعلن المجاهدون من خلالها نيابة عن الأمة قاطبةً الانتصار للاقصى والدفاع عنه، فكان هو العنوان، وهم بذلك يُعملون سنة الله في التدافع مع الباطل:﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [البقرة:٢٥١]، وقوله:﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّهُدِّمَتۡ صَوَ ٰ⁠مِعُ وَبِیَعࣱ وَصَلَوَ ٰ⁠تࣱ وَمَسَـٰجِدُ یُذۡكَرُ فِیهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِیرࣰاۗ وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ﴾ [الحج:٤٠].

وعليه، نحسب -والله أعلم وأحكم – أن هؤلاء المجاهدين هم عباد الله أولو البأس الشديد، المسلطون على عدوهم بني إسرائيل وعدو المسلمين جميعاً، بل والبشرية جمعاء، يسومونهم سوء العذاب، فيقاتلونهم قتالاً شرساً، ويثخنون فيهم، ويكبدونهم الخسائر الفادحة في عتاده وجنده واقتصاده وسياسته، تنفيذاً لأمر الله تعالى:﴿قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ وَیُخۡزِهِمۡ وَیَنصُرۡكُمۡ عَلَیۡهِمۡ وَیَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمࣲ مُّؤۡمِنِینَ﴾ [التوبة:١٤].

ويتجلى البأس الشديد لدى هؤلاء المجاهدين في الأرض المقدسة فيما يحملونه من شدة الإيمان بالله، وقوة اعتمادهم وتوكلهم عليه، وتفويضهم أمرهم إليه، ويقينهم أنه لن يخذلهم، وأن يده القاهرة مع يدهم -نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً-. وهم مع ذلك آخذون بالأسباب المادية اللازمة، طاعة لأمر ربهم:﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦعَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ﴾ [الأنفال: ٦٠]، فأعدوا رجالهم وسلاحهم ومهاراتهم واستراتيجياتهم، وكل ما استطاعوا من الأسباب، واستخبروا ودرسوا وخططوا، وهم على يقين بأن النصر من عند الله، لقوله تعالى:﴿كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [البقرة:٢٤٩]، وقوله:﴿وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ﴾ [آل عمران:١٢٥-١٢٦]، لا عن كثرة عددهم وعدتهم وعتادهم وتخطيطهم، فلا يُسمع منهم إلا التكبير وذكر الله قبل معاركهم وأثناءها وبعدها لأمر الله تعالى:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا لَقِیتُمۡ فِئَةࣰ فَٱثۡبُتُوا۟ وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [الأنفال:٤٥]، وعلى يقين بقدرة الله وشدة بأسه على عدوهم، وهو من ينكل بهم، ويفعل بهم كل الفعل:﴿فَقَـٰتِلۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن یَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسࣰا وَأَشَدُّ تَنكِیلࣰا﴾ [النساء ٨٤]، ﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِیُبۡلِیَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مِنۡهُ بَلَاۤءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ﴾ [الأنفال:١٧].

ثم إن مما يستمد المجاهدون منه قوتهم وشدة بأسهم وشجاعتهم، الذي نحسبه من مدد الله لهم، وجه آخر للبأس الشديد لهؤلاء العباد، المتمثل في قوة إيمان شعبهم وشدته، والتفاف أهلهم حولهم، وإسنادهم وتشجيعهم وتأييدهم لجهادهم، وهم معتمدون على الله في ذلك متوكلون عليه، صابرون واثقون في نصر الله، لا مبالين بما يقال لهم من اجتماع الناس عليهم، كما قيل لمن قبلهم:﴿ٱلَّذِینَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُوا۟ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِیلُ﴾ [آل عمران:١٧٣]. فهذا ديدنهم، وذلك ما تلهج به ألسنتهم، ولا ترى منهم إلا الثبات ورباطة الجأش، وشدة الإيمان، فنرى فيهم مصداق قوله تعالى:﴿یُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا﴾[إبراهيم:٢٧]. “لقد غشيهم الله برحمة وسكينة ورضا غير مسبوق، جعل غير المسلمين في أنحاء العالم يتعجبون لهذا الصبر والرضا واليقين الذي انعكس على المقاومة في الميدان، وعملياتها وصمودها في ظل حاضنة شعبية قوية وصامدة ومرابطة”[14]، ونحسبهم أنهم بذلك على أمر ربهم:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱصۡبِرُوا۟ وَصَابِرُوا۟ وَرَابِطُوا۟ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾[آل عمران:٢٠٠]، فهم يعلمون أن ما يمارس عليهم من التقتيل والتنكيل والتجويع، وإهلاك نسلهم وحرثهم، ولكل مقومات حياتهم في كل جانب لتهجيرهم، لكنهم يفشلون مخططهم، فيصبرون ويصابرون ويرابطون في أرضهم، يفضلون أن “يموتوا تحت أسقف بيوتهم أعزة وشهداء على أن يعيشوا أذلة ينتظرون المساعدات في الملاجئ والخيام خارج بلدهم”[15].

****

وهكذا، نعتبر أن التعبير القرآني السنني:﴿فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَیۡكُمۡ عِبَادࣰا لَّنَاۤ أُو۟لِی بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ فَجَاسُوا۟ خِلَـٰلَ ٱلدِّیَارِۚ وَكَانَ وَعۡدࣰا مَّفۡعُولࣰا﴾ [الإسراء:٤-٥]، هو المناسب للمشهد الواقع والجاري بسياقه، ومن مبتدئه وامتداده، وإلى أن ينتهي بإذن الله تعالى بهلاك العدو في مرحلته النهائية، وفق سننه ونواميسه الكونية، فقد ورد في سياق الحديث عن المسجد الأقصى في مطلع سورة الإسراء المكية المبتدئة بـقوله عز وجل:﴿سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦلَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُۥهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾ [الإسراء:١]؛ حيث يوثق سبحانه حدث إسرائه برسوله ﷺ ليلاً من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس.

وهذا الحديث القرآني عن المسجد الأقصى وبركته، مع ما ورد في البيان النبوي في فضله وأهميته، هو ما يجعل له تلك المكانة الدينية المرموقة في اعتقاد المسلمين ووعيهم، بل واتفقوا وأجمعوا عليها بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم على مر التاريخ، فهو إجماع الأمة من أقصاها إلى أقصاها، له قدسية إسلامية مقدورة؛ إذ هو قبلة المسلمين الأولى، وأرض الإسراء والمعراج، وثالث المدن المعظمة، وأرض النبوات والبركات، وأرض الرباط والجهاد، فلا غرو أن يلتزم جميع المسلمين بوجوب الدفاع عنه، وحمايته بالنفس والنفيس، والغيرة عليه، والذود عن حماه وحرماته ومقدساته، ورد المعتدين عليه. ولعل ما يعزز هذه القدسية تركيز الآية على المسجد الأقصى بالوصف:﴿ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ﴾، دون المسجد الحرام؛ إذ لم تنعته بأي صفة مع ماله من حرمة وقدسية، ومن بركات وأمجاد، مما يؤكد أن المسجد الأقصى هو المقصود في هذه الرحلة، وأن المرور بهذه المحطة القدسية أمر مقصود. فكان لهذا الربط بين المسجدين الحرام والأقصى إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المسلم وضميره ووجدانه، بحيث لا تنفصل قدسية أحدهما عن قدسية الآخر، ومن فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر[16]، ولهذا من واجبات الأمة والمسلمين جميعاً الدفاع عنه في كل زمان وفي كل مكان ..

ولنعلم أن في إخبار الله تعالى إيانا بسنته المطروحة في هذا المقام، وكل سننه في القرآن الكريم الخاصة ببني إسرائيل، أن تكون إرشاداً إلى الحق لإعماله، وتحذيراً من الباطل لاتقائه، وتوجيهاً إلى منهج التعامل معهم، وفهم مجريات الأمور على ضوء ذلك، ويتم الحذر منهم وعدم الغفلة عنهم، بمنطق قوله تعالى:﴿وَخُذُوا۟ حِذۡرَكُمْ﴾ [النساء:١٠٢]؛ وذلك من خلال التعريف بحقيقة هؤلاء القوم، الذين حذر القرآن الكريم منهم أشد التحذير؛ فأفرد للحديث عنهم “مساحة واسعة بين فيها خصالهم، وكشف اللثام عن سماتهم النفسية والخلقية، التي توارثوها خلفاً عن سلف، حتى أصبحت كأنها طبيعة ثابتة. نجد ذلك واضحاً في سورة البقرة بتفصيل، وفي سورة آل عمران، والنساء، والمائدة، من السور المدنية، وفي سورة الأعراف وسورة الإسراء- وتسمى: سورة بني إسرائيل- وغيرها من السور المكية. وصفهم القرآن الكريم بالقسوة والجبن في الوقت ذاته، وبالحسد والبغي، وصفهم بنكث العهود والغدر، والتطاول حتى على رسل االله؛ بل على االله نفسه، وعدم الخضوع إلا للقوة، واستباحتهم لأموال من عداهم وحرماته. اقرأ مثلا ً قوله تعالى:﴿ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰ⁠لِكَ فَهِیَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةࣰۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا یَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا یَشَّقَّقُ فَیَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَاۤءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا یَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡیَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾[البقرة:٧٤]…﴿ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتَّ مِنۡهُمۡ ثُمَّ یَنقُضُونَ عَهۡدَهُمۡ فِی كُلِّ مَرَّةࣲ وَهُمۡ لَا یَتَّقُونَ﴾ [الأنفال:٥٦] “[17].

بل ومن معرفاتهم القرآنية الثابتة أنهم الأشد عداوة للمؤمنين:﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَ ٰ⁠وَةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ۖ﴾ [المائدة:٨٢]، فلا يُتوقع منهم صدقاً ولا خيراً ولا سلاماً؛ فهم المتصفون بـجملة “من الرذائل الأخلاقية، والمفاسد السلوكية بصورة عجيبة، لعلها لم تتوفر مثلها لأمة أخرى من الأمم، ورسخت في نفوسهم رسوخاً ثابتاً، لعلها لم ترسخ مثله في أمم أخرى، واتخذت هذه الرذائل والمفاسد والقبائح والنقائص والأمراض والآفات خطوطًا ثابتةً، وعلامات بارزة، ومسارات مستقرة في النفسية اليهودية العجيبة المعقدة، فنمت في أطوائها، وتغلغلت في أغوارها، وهناك تفاعلت ونمت وترعرعت وسرت في كافة جوانب هذه النفس ومجالاتها ونوازعها. ثم أرسلت فروعها وظلالها إلى الحياة العملية، والممارسات السلوكية، والارتباطات الخارجية للشخصية اليهودية في حركتها الظاهرية، وصلاتها الحياتية”[18].

إن هذا الزخم التعريفي القرآني بهؤلاء القوم، وما ورد خلاله من سنن إلهية فيهم، يندرج في البيان السنني لقوله تعالى:﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُبَیِّنَ لَكُمۡ وَیَهۡدِیَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَیَتُوبَ عَلَیۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾ النساء:٢٦، لنستثمرها في حياتنا هدايةً وتوبةً فردياً وجماعياً، ونجيد التعامل مع مختلف المواقف والقضايا، ويتم الاستشراف للمستقبل على بينة وبصيرة، ووضع ما يناسب من الخطط والمناهج، فتُجلب المصالحُ وتُحقق النجاحات، وتُدفع المفاسد وتُتَّقى الخيبات والنكبات. ونتيقن ألا سلام معهم ولا جدوى من المعاهدات معهم لأنهم المعروفون بما أخبر به تعالى:﴿ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتَّ مِنۡهُمۡ ثُمَّ یَنقُضُونَ عَهۡدَهُمۡ فِی كُلِّ مَرَّةࣲ وَهُمۡ لَا یَتَّقُونَ﴾ [الأنفال:٥٦] إنه المكر والصلف والغرور، والمؤامرات والدسائس والكذب الصراح، والعداوة بلا حدود، والاستعلاء على كل القوانين، وعدم الاكتراث بأي عواقب!! وكل الصفات السلبية منقطعة النظير.

خلاصة القول إذاً أنه من الواجب على الأمة الاهتداء بكتاب الله الذي يعرفها بعدوها ومعاديها هذا، و”من الواجب على كل من يحارب عدواً أن يعرفه على حقيقته معرفة محيطة ومستوعبة، بحيث يعرف جذوره وأصوله، ومقومات شخصيته، وأخلاقه وصفاته الأساسية، ومفاهيمه وقيمه وأحلامه وطموحاته، وكيف يفكر، وكيف يخطط، وكيف ينفذ، وبمن يستعين من الناس، وبماذا يستعين من الوسائل، وما يجوز عنده وما لا يجوز، وما الذي يجمع شعبه وما الذي يفرقه؟ وما الذي يحركه وما الذي يسكنه؟ وماذا يملك من أسباب ذاتية، وماذا يستطيع أن يجلب من أسباب ومعونات خارجية؟… إلى غير ذلك مما يكشف العدو، ويعرف بحقيقته على ما هي عليه من قوة أو ضعف”[19].

فهلا قرأنا كتاب ربنا الذي أمدنا بهذه المعرفة في أصولها، فأقام علينا الحجة بما كشفه من سنن وقوانين فيه توضح الرؤية، وتكشف اللبس، وترشد إلى الصواب، وتقينا المزالق، وتجعلنا على بينة من أمرنا في التعامل معه، كل ذلك في تسخيرها في إنقاذ الإنسانية من هذا الشر، وجلب الخير لها.

هذا والله أعلم وأحكم، ونسأله النصر والتأييد للمجاهدين، وأن يثبت أقدامهم، ويسدد رميهم، ويقبل شهداءهم، ويوفقهم إلى ما فيه الخير، ونسأله أن يرفع عنا وعن الانسانية هذا البلاء الصهيوني عاجلا لا آجلا.

والحمد لله رب العالمين.


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

الهوامش:

[1]– التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، ط: 1984م، ١٢/١٩٢.

[2]– في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط9، 1989م، (١٥/٢٢١٣).

[3]– أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، أبو بكر الجزائري، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط ٣، ١٩٩٧م، م٣، (١٥/١٧٧).

[4]– التحرير والتنوير، ابن عاشور، (١٥/٣٠).

[5]– التحرير والتنوير، ابن عاشور، (١٥/٣١)، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ط٢، 2002م، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، (١٥/٥٢٧).

[6]– مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت، (١/٣٢٨).

[7]– لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ١٩٩٠م، (٦/٢٠).

[8]– فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن خان القنوجي، تحقيق: عبد الله بن إبراهيم الانصاري، المكتبة العصرية – بيروت، ط ١٩٩٢م، (١٠/٤٠).

[9]– روح المعاني في تفسير القرآن الكريم، محمود شكري الآلوسي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، (٢٦/١٠٢)، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط1، 1984م، (٢٦/٣١١).

[10]– في ظلال القرآن، سيد قطب، (٢٧/٣٤٩٥).

[11]– نفسه، (١٥/٢٢١٤).

[12]– فتاوي معاصرة، يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط ٢٠٠٣م، (٣/٢٩)، ويراجع التحرير والتنوير، ابن عاشور، (١٥/٢٩-٣٠).

[13]– فتاوي معاصرة، القرضاوي، ص ٢٩.

[14]– خطة حماس لهزيمة إسرائيل، أحمد منصور، ٥ نونبر ٢٠٢٣م، https://ahmedmansour.com/2023/11/05

[15]– نفسه.

[16]– يراجع القدس قضية كل مسلم، يوسف القرضاوي، سلسلة رسائل ترشيد الصحوة (١٠)، مكتبة وهبة، القاهرة، ط٢، ٢٠٠٠م، ص ٥-١٤.

[17]– نفسه، ص ٨٥-٨٦.

[18]– الشخصية اليهودية من خلال القرآن الكريم، تاريخ وسمات ومصير، صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط٢، ٢٠١٣م، ص ١٩٣.

[19]– القدس قضية كل مسلم، يوسف القرضاوي، ص٨٣.

اترك تعليق