آيات وسنن (6) – ﴿إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى﴾

بقلم/ د. فاطمة الزهراء دوقيه(*)

في أول ما نزل من القرآن الكريم على الإنسان:﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ* ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ * ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ﴾ [العلق:١-٥]، يذكِّره الله تعالى بحقيقة نفسه وقدره وضعفه، كثيراً ما يغفل عنها وينساها، أو يتغافل عنها، ويتناساها، فيحصل ما لا يحمد عقباه. وهذه الحقيقة هي أن الله هو الذي خلقه، وخلقه من علق، وهو الذي علمه، وهو الذي أكرمه وأحسن إليه، فأمره كله بيده، فيفترض أن يشكر ويحمد من أحسن إليه، ويزيد تواضعاً، ويتصرف بحدود وانضباط.

لكنا نقع على تجارب بشرية كثيرة عبر التاريخ وفي كل العصور تخالف هذا النهج، بأن يطغى الإنسان أفراداً وجماعاتٍ، لأنه يرى نفسه مستغنياً ومكتفياً بذاته مستقوياً بما عنده، كما يصور لنا الكثير من قصص القرآن، التي نقتصر منها على قصة الحالة الفرعونية؛ فما قاله فرعون يوم نادى في قومه:﴿یَـٰقَوۡمِ أَلَیۡسَ لِی مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَـٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ تَجۡرِی مِن تَحۡتِیۤۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ * أَمۡ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡ هَـٰذَا ٱلَّذِی هُوَ مَهِینࣱ وَلَا یَكَادُ یُبِینُ﴾ [الزخرف:٥١-٥٢]، يعبر به عن كيف يرى نفسه؛ من الملك والتمكن والغنى والقوة؛ فلا ينازعه فيه أحد، ولا يخالفه فيه مخالف، والحال أن أنهار النيل، تجري من تحت قصره، يقصد أنها تجري بين يديه وفي بساتينه كما قال قتادة، أو تجري تحت أمره كما قال الحسن، وقال الضحاك: أراد بالأنهار القواد والرؤساء والجبابرة، وأنهم يسيرون تحت لوائه، وقيل: أراد بالأنهار الأموال. وعلى أي تفسير ووجه، فإنه قال ذلك ليدل الناس على علوه وقوة ملكه وعظم قدره، كما دلهم على ضعف موسى عليه السلام عن مقاومته، لا عز له ولا ملك ولا حول ولا قوة يُجري بها نهراً وينفذ بها أمراً، كما أنه لا يكاد يبين لما كان في لسانه من العقدة [1].

وقد بلغت به حالته هذه المنتشية بالقوة، المحكومة بالعلم المادي، والمخدوعة بالبريق والأبهة الدنيويين، إلى أن يرى نفسه كما قال:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرِی فَأَوۡقِدۡ لِی یَـٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطِّینِ فَٱجۡعَل لِّی صَرۡحࣰا لَّعَلِّیۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰۤ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّی لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾[القصص:٣٨]،و:﴿فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ﴾ [النازعات:٢٤]. أي أنه كان يرى نفسه في قمة التمكن والاكتفاء والاستغناء والاستعلاء، ولذلك:﴿إِنَّهُۥ طَغَىٰ﴾ [طه:٢٤] و﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِیَعࣰا یَسۡتَضۡعِفُ طَاۤىِٕفَةࣰ مِّنۡهُمۡ یُذَبِّحُ أَبۡنَاۤءَهُمۡ وَیَسۡتَحۡیِۦ نِسَاۤءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾ [القصص:٤].

وهذه الحالة الفرعونية هي أنموذج مكرر في البشرية، ولذا فإن الله تعالى ضرب بها المثل لحال تعاظم من نزل فيهم بأموالهم وقوتهم، وهم المشركون أيام النزول، وجميع الناس في كل زمان ومكان، وهو مثل صالح لأن يكون مثلاً لأبي جهل الذي نزل فيه ما جاء بمثابة بلورة لهذه الحالة الفرعونية ليسميها بمسماها الحقيقي، ويضعها في إطارها العام، ويبرز منشأ الداء، وتفسيره، وذلك قوله تعالى بعد تذكير الإنسان بحقيقته في الآيات الخمس الأولى من العلق -كما سبق آنفاً-:﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ [العلق:٦-٧]، وهاتان الآيتان بمثابة مقدمةٍ لتشخيص الحالة التي نزلت فيها، حالة أبي جهل، الذي ناصب رسول الله العداوة، وكان ينهاه عن الصلاة في المسجد؛ فعن أبي هريرة أنه قال:{هلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قالَ: فقِيلَ: نَعَمْ، فَقالَ: واللّاتِ والْعُزّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذلكَ لَأَطَأنَّ على رَقَبَتِهِ -أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرابِ- قالَ: فأتى رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهو يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ على رَقَبَتِهِ، قالَ: فَما فَجِئَهُمْ منه إلّا وَهو يَنْكُصُ على عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بيَدَيْهِ، قالَ: فقِيلَ له: ما لَكَ؟! فَقالَ: إنَّ بَيْنِي وبيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِن نارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: لوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا، قالَ: فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ -لا نَدْرِي في حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ شَيءٌ بَلَغَهُ-:﴿كَلّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى * إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى* عَبْدًا إِذا صَلّى* أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلى الْهُدى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى* أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلّى﴾، يَعْنِي أَبا جَهْلٍ، ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى * كَلّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ * ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ * كَلّا لا تُطِعْهُ﴾ [العلق:٦-١٩]. وفي روايةٍ: وَأَمَرَهُ بما أَمَرَهُ بهِ. وفي روايةٍ:﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾، يَعْنِي قَوْمَهُ}[2].

فنحن إذاً بإزاء حالة ثانية يمكن أن نسميها الحالة “الجهلية” نسبة إلى من نزلت فيه الآيات، أو لنقل “الجاهلية” نسبة إلى الزمن الذي تعاملت فيه الدعوة المحمدية في مرحلتها المكية مع مواقف مشابهة من الأذى والعدوان كتعبيراتٍ مختلفة للطغيان نتيجة شعور الاستغناء؛ كحالة “أبي لهب وامرأته” التي تحكيها سورة المسد، وحالة الوليد بن المغيرة الذي نزل فيه قوله تَعالى:﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا* وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالࣰا مَّمۡدُودࣰا* وَبَنِینَ شُهُودࣰا * وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِیدࣰا * ثُمَّ یَطۡمَعُ أَنۡ أَزِیدَ* كَلَّاۤۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِـَٔایَـٰتِنَا عَنِیدࣰا * سَأُرۡهِقُهُۥ صَعُودًا﴾ [المدثر:١١-١٧]، فقد كان يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته؛ من كثرة الولد وسعة المال والثراء، ومجده ومجد أبيه من قبله، وقد امتن الله عليه بهذه النعم، من المال الممدود، والبنين الشهود الحاضرين الذين لا يفارقونه، وتمهيد أموره وتيسيرها. ثم إنه بعد هذا كله يطمع في الزيادة، لكن ﴿كَلَّاۤۖ﴾، لردع وإبطال طمعه هذا وقطع رجائه؛ أي لن يزيده، وذلك لعلة:﴿إِنَّهُۥ كَانَ لِـَٔایَـٰتِنَا عَنِیدࣰا﴾؛ أي كان معانداً لآيات الله، ومجانباً للحق والصواب  [3].

فهذه حالة من حالات الطغيان الجاهلية في عصر النزول، التي يشملها قوله تعالى:﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ [العلق:٦-٧]، حيث يخبر سبحانه عن سنة من سننه الإنسانية المحققة والمطردة؛ وهي أن من رأى نفسه استغنى يطغى، وبتعبير ابن عاشور:”و’أَن رَّءَاهُ’ متعلق بـ ‘يطغى’ بحذف لام التعليل؛ لأن حذف الجار مع أنه كثير وشائع؛ والتقدير: إن الإنسان ليطغى لرؤيته نفسه مستغنياً”[4]، وبتعبير السعدي: “والإنسان – لجهله وظلمه – إذا رأى نفسه غنيًا، طغى وبغى وتجبر عن الهدى”[5].

وعليه، فإن رؤية الإنسان نفسه مستغنياً هي العلة والسبب في هذه المعادلة السننية، والنتيجة طغيانه؛ أي أن “علة هذا الخُلق أن الاستغناءَ تُحدّثُ صاحبَهُ نفسُه بأنه غير محتاج إلى غيره، وأن غيره محتاج، فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة، ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصبو خلقاً، حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح؛ فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم؛ لأن له ما يدفع به الاعتداء من لامة سلاح، وخدم وأعوان، وعفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأجراء؛ فهو في عزة عند نفسه”[6].

إننا إذاً، بإزاء صياغة سننية إنسانية بأسلوب تأكيدي وتحقيقي:﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰ﴾؛ حيث استخدم لها سبحانه “حرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته، حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه”[7]، رُكّبتْ بعلاقة سببية بين أمرين، كلاهما من فعل الإنسان:﴿یَطۡغَىٰۤ﴾، و﴿رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾. وهنا يتبادر سؤالُ كيف يكون كلا طرفي السنة الإلهية من فعل الإنسان ومسنداً إليه؟ والمعهود في صياغتها أن ترد النتيجة والجزاء فعلاً لله، ومسنداً إليه.

والإجابة نجدها – والله أعلم – فيما يقوله الله تعالى في مواضع متعددة؛ مثل قوله:﴿وَلَا یَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّمَا نُمۡلِی لَهُمۡ خَیۡرࣱ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِی لَهُمۡ لِیَزۡدَادُوۤا۟ إِثۡمࣰا﴾ [آل عمران:١٧٨]، إنها سنته في الإملاء، بما هو إمهال للإنسان وتأخيرٌ لعقابه، وما فيه من التخلية بينه وبين أعماله وما يفعله، وعدم الأخذ على يده بالجزاء الذي يستحق، يقال: أملى لفرسه إذا أرخى له الطول في المرعى، وأمليت للبعير والفرس، إذا وسعت له في القيد، لأنه يتمكن بذلك من الخبب والركض، وأمليت لزيد في غيه، أي تركته، على وجه الاستعارة، وأملى الله لفلان أخَّر عقابه، وهو يحسب أنه خير لنفسه:﴿خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ﴾، لأنه لما أمن العقوبة، فقد أضمر في نفسه اعتقاد أن حاله على خير، بينما الذي يجري حقيقةً:﴿إِنَّمَا نُمۡلِی لَهُمۡ لِیَزۡدَادُوۤا۟ إِثۡمࣰا﴾، أي أنه يملي له ويؤخره وهو على كفره، فيزداد إثما في تلك المدة، فيشتد عقابه على ذلك [8].

وعليه، نخلص إلى أن إخباره الله سبحانه عن سنته في طغيان الإنسان في: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ﴾، يبينه قوله:﴿إِنَّمَا نُمۡلِی لَهُمۡ لِیَزۡدَادُوۤا۟ إِثۡمࣰا﴾، على اعتبار أن الازدياد في فعل الإثم، هو طغيان ومجاوزة للحد، ناشئ عن سنة الإملاء.

وتتكامل هذه الأخيرة مع سنن إلهية أخرى استعملها القرآن بهذا المعنى، تلك هي:

* سنته تعالى في “المد والترك” في قوله تعالى مثلاً:﴿ٱللَّهُ یَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَیَمُدُّهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ﴾ [البقرة:١٥]، حيث يُخَوف عباده من سنته أن “يَمُدُّهُمْ”؛ أي “يزيدهم، على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم، كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله:﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [سورة الأنعام:١١٠]، فكذلك قوله:﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، يعني يذرُهم ويتركهم فيه، ويملى لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم”[9]. ويقول تعالى:﴿قُلۡ مَن كَانَ فِی ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلۡیَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ مَدًّا﴾ [مريم:٧٥]، أي يمد له “ويمهله بطول العمر وإعطاء المال، والتمكن من التصرفات”[10].

* سنته في الاستدراج في مثل قوله عز وجل:﴿وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَیۡثُ لَا یَعۡلَمُونَ * وَأُمۡلِی لَهُمۡۚ إِنَّ كَیۡدِی مَتِینٌّ﴾ [الأعراف:١٨٢-١٨٣]، والمعنى “أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، حتى يغتروا بما هم فيه، ويعتقدوا أنهم على شيء، كما قال تعالى:﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ:٤٤-٤٥]؛ ولهذا قال تعالى:﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أَي: وَسَأملي لهم، أُطَوِّل لهم ما هم فيه:﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أَي: قوي شديد”[11].

نظيره قوله تعالى:﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمۡلِی لَهُمۡۚ إِنَّ كَیۡدِی مَتِینٌ﴾ [الْقَلَمِ:٤٤-٤٥]، ومعنى الاستدراج “الحمل من رتبة إلى رتبة حتى يصير المحمول إلى شر، وإنما يستعمل الاستدراج في الشر، وهو مأخوذ من الدرج، قال سفيان الثوري: تسبغ عليهم النعم، ويمنعون الشكر، وقال غيره: كلما زادوا ذنبا زيدوا نعمة، وفي معنى الاستدراج قول النبي ﷺ:{إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته}[12]، وقال الحسن:”كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه” “[13].

وعليه، يكون قوله عز وجل:﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ﴾ لـعلة:﴿أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ سنته وفعله من حيث أنه يمد للإنسان ويذره فيما هو فيه، ويُمهلهُ يفعل ما يفعل، استدراجاً له درجة درجة، واستدناءً قليلاً قليلاً إلى ما يهلكه، بما يحصل من إدرار النعم عليه، وإنسائه شكرها، فينهمك في الغواية، ويتنكب طرق الهداية لاغتراره بذلك، وأنه لم يحصل له إلا بما له عند الله من المنزلة والزلفة [14].

والمراد هنا بالطبع الإنسان الكافر والجاحد، والمعاند المخالف للحق، الذي تبطره النعمة فلا يشكر ربه، ولا يؤدي حقه، أي إنسان التدسية:﴿وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾ [الشمس:١٠]، الذي يدسي نفسه بالمعصية والفجور، ويحول بينها وبين فعل الخير، الذي يطغى لأنه لا عاصم له من دين ولا إيمان، ولا تفكير صحيح ولا فطرة سليمة، لا يشكر حين يعطى فيستغني، ثم هو يطغى ويبغي، بدل أن يشكر. هذا الإنسان هو نفسه في مواضع قرآنية أخرى حيث وصف بالاستغناء لفظاً، في قوله:﴿أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ﴾ [عبس:٥]؛ أي استغنى عن الله وعن الإيمان بما له من المال كما ورد عن ابن عباس[15]، الذي يُعرض ولا يتزكى كما يفهم مما جاء تاليا:﴿وَما عَلَيْكَ ألّا يَزَّكّى﴾ [عبس:٧]، وفي قوله تعالى:﴿وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسۡتَغۡنَىٰ﴾ [الليل:٨]، أي استغنى عن مغنيه؛ “فترك عبوديته جانبًا، ولم ير نفسه مفتقرةً غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح، إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه”[16].

وهذا بخلاف الإنسان المؤمن الذي حين يغنيه الله، وينال الثروة، يشكر مغنيه ومؤتمر ما عنده، ويزداد تواضعاً، ويمشي في الناس بالخير والرحمة واليسر والإصلاح. وهذا إنسان التزكية:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾ [الشمس:٩]. ولنا في القرآن نماذج لمن اغناه الله، ولم ير نفسه مستغنياً عنه غير محتاج إليه، ومن ثم لم يطغ، بل حمد الله، ورد الفضل إليه ولم يزده ذلك إلا تواضعاً وافتقاراً، كحالة الملِكِ سليمان عليه السلام:﴿قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِی وَهَبۡ لِی مُلۡكࣰا لَّا یَنۢبَغِی لِأَحَدࣲ مِّنۢ بَعۡدِیۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ﴾ [ص:٣٥]،﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ عِلۡمࣰاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [النمل:١٥]، ﴿وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَیۡمَـٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابٌ* إِذۡ عُرِضَ عَلَیۡهِ بِٱلۡعَشِیِّ ٱلصَّـٰفِنَـٰتُ ٱلۡجِیَادُ * فَقَالَ إِنِّیۤ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَیۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّی حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ﴾ [ص:٣٠-٣٢]، لقد كان عبداً أواباً إلى ربه حامداً شاكراً راداً الفضل إليه، وهذا أنموذج الإنسان السوي العاقل، الذي “يعلم أنه عند الغنى يكون أكثر حاجة إلى الله تعالى منه حال فقره، لأنه في حال فقره، لا يتمنى إلا سلامة نفسه، وأما حال الغنى فإنه يتمنى سلامة نفسه وماله ومماليكه”[17].

وفي المقارنة بين الأنموذجين من الإنسان، روي عن ابن مسعود أنه قال: منهومان لا يشبعان: صاحب علم وصاحب دنيا، وهما لا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن ثم قرأ ﴿إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟ۗ﴾ [فاطر:٢٨]، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان ثم قرأ:﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾[18].

وها نحن نعيش في أيامنا الأخيرة هذه في سياق أحدث محطة من محطات الجهاد الفلسطيني لتحرير الأرض، ودفع العدوان القائم والمتواصل منذ ست وسبعين عاماً؛ معركة طوفان الأقصى”، ونرى مصداقَ هذه السنة الإلهية واطرادها فيما يجري من هذا العدوان الغاشم؛ الذي يمثل الأنموذج المعاصر للحالة الإنسانية الطغيانية المتمادية، الناشئة عن الرؤية الاستغنائية للنفس، المحكومة بالعلم المادي الوضعي:﴿یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ﴾ [الروم:٧].

الحديث هنا عن حالة الإنسان الصهيوني المتجاوز لكل الحدود والخطوط الحمراء، الاستعلائي على كل الشرائع والقوانين، لا يحتاج منا إلى عناء إثبات كيف أنه يرى نفسه مستغنياً مكتفياً مستعلياً علواً كبيراً، ويعتبر نفسه حالة استثنائية في الوجود، يحسب أنه يملك العالم؛ فلا يحتاج إلى أحد، بل الكل بحاجته، وكأنه هو المسْتنكر عليه في قوله تعالى:﴿أَیَحۡسَبُ أَن لَّن یَقۡدِرَ عَلَیۡهِ أَحَدࣱ * یَقُولُ أَهۡلَكۡتُ مَالࣰا لُّبَدًا * أَیَحۡسَبُ أَن لَّمۡ یَرَهُۥۤ أَحَدٌ * أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَیۡنَیۡنِ* وَلِسَانࣰا وَشَفَتَیۡنِ* وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾ [البلد:١-١٠].

يرى نفسه مستغنياً بما يمتلكه من مال وقوة، الذي قد حصله بعلم من عنده باللصوصية والسرقة، والنهب، والاحتيال، والقتل، وسفك الدماء، فضلاً عن الكذب. يراه مستغنياً  بجمع الناس والدول واصطفافهم معه، ودعمه دعماً أعمى، وبالصمت العربي المطرب حوله، فيغتر، فيطغى بارتكاب المزيد من أعمال البغي والفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل، حاسباً أن ذلك خير لنفسه، في حين أن ما يجري معه إنما هو سنة الله في الإملاء له، وإمهاله وتركه يتبختر ويزدهي، ويبغي ويفسد، ليزداد إثما وموبقاتٍ، استدراجاً من حيث لَا یَعۡلم، وهو بذلك يُراكم عوامل وأسباب زوال ملكه وهلاكه، كما توعد الله الظالمين والطغاة، ثم كما يحذر اليوم ويتنبأ كثير من مفكريه وعلمائه، وغيرهم.

وعليه، لا يفسر لنا هذا التصرف الطغياني والعدواني في الحالة الصهيونية، ولا يعلل هذا التجبر، إلا قوله تعالى:﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ [العلق:٦-٧]؛ حيث يرينا من خلالها سنته في هذا “الطبع الغالب في الإنسان؛ متى استغنى عن شيء عمي عن مواضع افتقاره، فتغيرت أحواله معه، وتجاوز فيه ما ينبغي له الوقوف عنده”[19]، وحيث يقرر كذلك “حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس، مع التنبيه على الحذر من تغلغلها في النفس”[20].

فلا يخفى أن صياغة هذه السنة الربانية قد تمت في إطار من التهديد والتوعد والردع للإنسان، بقصد توجيهه وتربيته؛ فمن جهة افتتحت بـ﴿كَلّا﴾، لردع وإبطال مضمون قوله تعالى:﴿أرَأيْتَ الَّذِي يَنْهى* عَبْدًا إذا صَلّى…﴾ الآيات، بما هو تشخيص لمظاهر من الطغيان الناشئ عن شعور الاستغناء [21]. ومن جهة أخرى، فإنه  تعالى لما أخبر الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى، تهدده وتوعده ووعظه فقال:﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ [العلق:٨]، وإليه المصير للجزاء والحساب [22].

وهكذا، يبرز لنا في هذا الدرس السنني بجلاء كبير بعده التربوي، ووظيفته التقويمية للسلوك الإنساني، كتعبير من إرادة الله تعالى من ذكره لسننه في الخلق عامةً؛ بأن تكون إرشاداً إلى الصواب والحق، وتحذيراً من الشر والباطل، توجيهاً نحو الاستقامة والتوبة، لقوله تعالى:﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُبَیِّنَ لَكُمۡ وَیَهۡدِیَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَیَتُوبَ عَلَیۡكُمۡ﴾ النساء:٢٦.

ونحن إذا أردنا أن نستخلص عبرةً من هذا الدرس السنني: ﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾، وما يحمله من هدايةٍ في الحياة، وتوجيهٍ تقويمي للسلوك الإنساني، والبناء العمراني في الأرض، فهو اتقاء الإنسان الشعور بالاستغناء وعدم الحاجة، لأن ذلك ليس إلا لله تعالى الغني الغنى الحقيقي، الذي يقول:﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الحج:٦٤]، أما الانسان فحقيقته أنه مخلوق، أمره كله بيد خالقه، الذي ينعم عليه، ويهبه كل ما يملك، فليس يملكه حقيقةً، وإنما استخلافاً ليسخره في القيام بوظيفته كما يحب الله تعالى ويرضى. وبالتالي يكون المطلوب منه التصرف بثقافة الافتقار إلى خالقه:﴿أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:١٥]، وما يتضمنه ذلك من تمثل قيم الرحمة والتواضع والسير في الناس بالخير والإصلاح. ولا يتأتى له ذلك إلا بالتزكية ؛ بما هي عملية دائمة من التربية الإيمانية؛ يتعهد بها نفسه، ويبذل جهده ليصلحها بما شرعه الله له، رجاء أن ينال سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة:﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ [الشمس:٩]، ويقيَ نفسه الوقوع في المحذور:﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾.

والحمد لله رب العالمين.


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

[1]– يراجع فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن خان القنوجي، تحقيق: عبد الله الانصاري، المكتبة العصرية، بيروت، ط ١٩٩٢م، (١٢/٣٦١-٣٦٢).

[2]– أخرجه مسلم برقم (٢٧٩٧).

[3]– يراجع التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، ط: 1984م، (٢٩/٣٠٤-٣٠٥).

[4]– التحرير والتنوير، ابن عاشور، (٣٠/٤٤٤).

[5]– تفسير السعدي، تحقيق: عبد الرحمن اللويحق، ط٢، 2002م، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، (٣٠/١٠٩٨).

[6]– التحرير والتنوير، ابن عاشور، (٣٠/٤٤٤/٤٤٥).

[7]– نفسه، (٣٠/٤٤٥).

[8]– يراجع نفس المصدر، (٤/١٧٥-١٧٧).

[9]– تفسير الطبري، تحقيق: بشار عواد معروف – عصام فارس الحرستاني، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1994م، (١/٣٢٠).

[10]– روح المعاني في تفسير القرآن الكريم، محمود شكري الآلوسي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، (١٦/١٢٦).

[11]– تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط٢، ١٩٩٩م، (٣/٥١٦).

[12]– أخرجه مسلم، رقم (٢٥٨٣).

[13]– المحرر الوجيز، ابن عطية الأندلسي،  طبعة دار ابن حزم، ص ١٨٨٨.

[14]– فتح البيان، القنوجي، (٥/٨٨).

[15]– تفسير البغوي، تحقيق: عبد الله النمر، عثمان ضميرية، سليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1412ه، (٣٠/٣٣٦).

[16]– تفسير السعدي، (٣٠/١٠٩٤).

[17]– تفسير فخر الرازي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 1981م، (٣٢/١٩).

[18]– الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط٢٠١١م،، (٨/٥٦٤).

[19]– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط1، 1984م، (٢٢/١٦٢).

[20]– التحرير والتنوير، ابن عاشور، (٣٠/٤٤٤/٤٤٥).

[21]– يراجع التحرير والتنوير، ابن عاشور، (٣٠/٤٤٢).

[22]– تفسير ابن كثير، (٨/٤٣٧).

اترك تعليق