آيات وسنن (7) – ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾

بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه (*)

اقتضت رحمة الله تعالى بالأمة الإسلامية أن تستمر في تطلعها إلى إصلاح حالها، وتغيير واقعها إلى الأحسن والأفضل، في طريقها إلى تنفيذها لأمر الاستخلاف في الأرض وتحقيق التمكين؛ فلا قنوط ولا استسلام، ولا يأس من رحمة الله: ﴿وَلَا تَا۟یۡـَٔسُوا۟ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا یَا۟یۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ [يوسف :٨٧].

لكنه قضى أن لن يتم ذلك بالتمني:﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ وَلَا یَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا﴾ [النساء:١٢٣]، بل باتخاذ أسباب، وإعمال شروط، وتوفير عوامل:﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡـࣰٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ [النور:٥٥]. أي لن يتحقق لها ما تتطلع إليه من تمكين ونهوض وتغيير ما بها وواقعها الخارجي، إلا بإيتاء الشرط الداخلي حسب القانون الرباني الصارم:﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم﴾ الرعد:١١.

ولهذا فقد اشتمل الهدى القرآني على بيان كيف يغير الإنسان ما بنفسه، وكيف ينبغي أن يكون، فشرع له مسلكاً تربوياً في الحياة عليه اتباعه لصلاحه وكماله، وضبط سلوكها، بتطهير نفسه من آفاتها ورعوناتها، فينهض بأعباء رسالته في الحياة على أحسن وجه.

وهذا السبيل التربوي هو ما يسميه القرآن بـ”التزكية”، التي تعتبر من مفاهيمه الكلية، ومن مقاصده العليا، تُلتمس في كل مواضيعه، وتُلحظ في جميع أغراضه، عليها يتوقف نجاح الإنْسان ونيله ما يطمح إليه من المصالح والسعادات في الدنيا، وثواب ونعيم في الآخرة.

موضوعها إصلاح هذا الإنسان، قصد الإصلاح في الواقع، وعمران الأرض بالخير والفضيلة، وفاءً ببنود عهد الاستخلاف، فلا مجال لحدوث أي إصلاح في أي مجال إلا إذا صلح حال الإنسان وتزكى، فمن”من لم يكن طاهر النفس، لم يكن طاهر القول والفعل؛ فكل إناء بالذي فيه ينضح … ولهذا قيل: من طابت نفسه طاب عمله، ومن خبثت نفسه خبث عمله”[1].

فالتزكية إذاً مرتبطة بعلاقة وثيقة ومباشرة بسُنن التغيير والتمكين، وبلوغ النجاح في تحقيق المبتغى من كل خير، والله تعالى يقول:﴿قَد أَفلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾ الشمس:٩؛ حيث يصيغ لنا معادلةً سننيةً، مقدماتها ومُدخلاتها الفعل الإنساني:﴿مَن زَكَّىٰهَا﴾، كمنظومة كاملة ومتكاملة وشاملة لأبعاد الإنسان كافة، ونتائجها ومخرجاتها وعد الله له:﴿قَد أَفلَحَ﴾ توفيقاً إلى النجاح والظفر بما يطلب ويبتغي.

ونحن إذا أردنا تنزيل تعريف السنن الاجتماعية على قوله تعالى:﴿قَد أَفلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾، نقول أن الإنسان إذا تزكى في تصوراته، وترقى في أفكاره، وحسنت تصرفاته وسلوكه العام فرداً وجماعةً، وصار حاله حال المتقين المتزكين، ترتب على ذلك فلاحه وفوزه، نظيرها قوله تعالى في موضع آخر:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ﴾ [الأعلى:١٤]، وقوله تعالى:﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون:١]، وفي معناها قوله:﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِیمًا﴾ [الأحزاب:٧١]، وقوله:﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَخۡشَ ٱللَّهَ وَیَتَّقۡهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ﴾ [النور:٥٢].

إننا إذاً أمام سنة إلهية في النجاح والفوز عظيمة بصيغةٍ شرطية؛ ترتبط فيها نتيجة “الفلاح” بعامل “التزكية”، مستعمَلاً فيها أبلغ أسلوب للتعبير السنني، وأكثر انسجاماً مع غرضه، يتمثل في حرف “قد” الداخل على الفعل الماضي، ليفيد التحقيق، وتوكيد الوعد، وصدق الخبر وثبوته، وهذه من خصائص سنن الله في عباده ومعاملته لهم ترتيباً على سلوكهم. وبما أن تحقيق وعد الفلاح هو أمر مستقبلي، يأتي لاحقاً على مقدماته وشروطه، يفترض أن يتم بصيغة زمن المستقبل بالقول: “سيفلح”، لكنه يرد هنا بالماضي، والمرادُ المستقبل، وهو ما يخالف مألوف اللغة من حيث زمن الفعل الصرفي، ويوجد الكثير من هذا في القرآن الكريم، الذي يدخل فيما يعرف بـ“الالتفات”؛ ومنه “التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه … ويغلب ذلك فيما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهددة المتوعد بها، فيعدل فيه إلى لفظ الماضي، تقريراً وتحقيقاً لوقوعه كقوله تعالى:﴿ويوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾”[2]، وكذلك يقال بالنسبة للأمور العظيمة الموعود بها. وقد أجمل الآلوسي القول في هذه المسألة بأن “الأفعال المستقبلة التي علم الله تعالى وقوعها كالماضية في التحقق؛ ولذا عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز”[3]. وفائدة هذا الأسلوب “أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد، كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده، لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها. والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي، أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل، واستحضار صورته، ليكون السامع كأنه يشاهدها، والغرض بهذا هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد بعدُ”[4].

طرفا المعادلة السننية في:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾

أولا: التزكية:

أن يزكي الإنسان نفسه هو الشرط الذي يحدده الله تعالى لفظاً في قوله:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾، ليصل إلى نتيجة الفلاح وبلوغ مراده من الخير. ومعنى ﴿زَكَّىٰهَا﴾ “نماها وأصلحها وصفاها تصفية عظيمة بما يسره الله له من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، وطهرها على ما يسره لمجانبته من مذام الأخلاق، لأن كلاًّ ميسرٌ لما خلق له، والدين بني على التحلية والتخلية، و”زكى“ صالح للمعنيين”[5]. والتزكية بإجمال الزمخشري:”الإنماء والإعلاء بالتقوى”[6]، أو بتعبير ابن عاشور:”الارتياض على قبول الخير”[7].

والمقصود بالتزكية في:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾، فعل الإنسان وكسبه؛ أي حالة فعله وجهده للتطهر والإصلاح ونماء النفس بالخير والفضيلة، تأهيلاً لحسن القيام بالمهمة الاستخلافية العمرانية في الأرض كما يرضى الله تعالى، فهي بمثابة الخير العملي الذي يثمره الإيمان بالله، بما هي “تعبير قرآني يستجمع معاني النمو والخيرية معاً، ولذلك قيل في معنى تزكية النفس: “إنه تنميتها بالخيرات والبركات”[8]، وعلى هذا المعنى فإننا نقصد بتزكية الفرد أن الايمان بالله تعالى من شأنه أن يزكي الانسان من حيث هو فرد، أي ينمي فيه طاقات الخير والنجاعة، ويطهره من شوائب الشر والكلالة، بما يجعله في حياته على درجة عالية من الاقتدار على تحقيق المصلحة التي بها تكون سعادته”[9]، بمعنى تحقيق الفلاح، والظفر بالمطلوب من الخير، وتجنب الخيبة والخسران في الدنيا وفي الآخرة.

ونحن إذا أردنا أن نوجز القول عن هذا السبيل الإيماني الذي رسمه الله تعالى للإنسان، فإنه يتمثل فيما شرعه له من منظومة كاملة ومتكاملة وشاملة؛ التي تبدأ معه من إصلاح التفكير ببناء اعتقاداتٍ وتصوراتٍ كونية، تشكيلاً لعقلية قويمة ذات منهجية سليمة وراشدةٍ، وصياغةً لنفسية مستقيمةٍ بمبادئ الإيمان، وأنواع العبادات التهذيبية، والفضائل والقيم الأخلاقية، التي لها آثارها وثمراتها على الجوارح والسلوكات، من خلق نبيل، وأدب رفيع، وفاعلية وحركة إيجابية في الحياة أداءً للمهام الاستخلافية، وتنفيذاً لمطالبها على الوجه المرضي للخالق سبحانه، كل من موقعه [10]. ذلك أنه “بزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره”[11]. فينعكس تزكِّيها هذا بالإصلاح على ما حولها، ثم تنداح دوائر الإصلاح تزكياً على مستوى جماعي، تعاملاً وفق قوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِوَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]، أي وفق قيمتي العدل والإحسان الكليتين الجامعتين اللتين تجذبان باقي القيم الجماعية، فتنضبط العلاقات الاجتماعية، على أساس التراحم والمواساة، لا يداخلها التناكر ولا التناحر، فيبنى المجتمع الصالح المزكىَّ؛ الذي يتحفز للعمل لتحقيق الأهداف الجماعية التي نشأ من أجلها[12].

وإذاً، تتمثل أهمية التزكية في أنها المنوط بها تحقيق ما لأجله أُوجد الإنسان، وصلاح الحياة في الأرض؛ بما تمثله من منهج لسمو النفس الإنسانية وارتقائها، والتطهر من آفاتها ورعوناتها، وضبط سلوكها، فتنمي نزوعها إلى التقوى والإصلاح، وتُضعف نزوعها إلى الفجور والإفساد والطغيان، ولذا نرى أن ما سبق قوله:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾ التعريف بحقيقة النفس الإنسانية وطبيعة تركيبها:﴿وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾ الشمس:٧-٨، وهو ما يعني أن الإنسان ذو بعدين، و”مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه… بطبيعة تكوينه ”من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه”، مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء، وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة:﴿وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾، ويعبرعنها بالهداية تارة:﴿وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾ [البلد:١٠]، فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد، والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك، ولكنها لا تخلقها خلقا، لأنها مخلوقة فطرةً، وكائنة طبعاً، وكامنة إلهاماً، وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان، هي التي تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر، فقد أفلح”[13].

وهكذا، فإنه بمقدار ما تترقى النفس الإنسانية في سلم التزكية، تتطهر و”يخلص صاحبها في تحمل كل ما يجب أن يتحمله في جنسه من المهام والواجبات المختلفة. وبمقدار ما تنطوي تلك النفس على شوائبها ورعوناتها، يغدو صاحبها مجرد أداة للإفساد في الأرض، ولإهلاك الحرث والنسل، ابتغاء مصالحه وأهوائه الشخصية”[14].

وهنا تتمثل خطورة غيابها والاستخفاف بها؛ لأن الانسان لما جهز بأخطر الصفات والملكات والقدرات التي لا بد منها لحصول القدرة على التصرف في إدارة شؤون الحياة وعمارة الكون؛ حيث “بث فيه صفة العقل وما يتفرع عنها من العلم والإدراك والقدرة على تحليل الأشياء وسبر أغوارها والوصول إلى ما وراءها، وبث فيه معنى الأنانية، وما يتفرع عنها من النزوع إلى الأثرة والتملك، وبث فيه أسباب القوة ومقومات التدبير، وما يتفرع عنهما من النزوع إلى السيطرة والعظمة والجاه، ثم بث فيه مجموعة من العواطف والاشواق والانفعالات، تعد متممة لقيمة تلك الصفات وفوائدها، كالحب والكراهية والغضب وما إلى ذلك”[15]، فإنه يكون بحاجة معها إلى ما يضبطها ويوجهها وجهة الإصلاح في الحياة، وخدمة مصالحه، وتحقيق سعادته ورفاهه، باستخدام تلك القدرة على التصرف بما يرضي الله. إن”لهذه الصفات شرة كبيرة ولها آفات عظام، وهي أسلحة ذات حدين إن استعمل أحدهما جاء بالتنظيم العظيم للكون وبالخير الوفير للانسان، وإن استعمل الآخر، أو استعملا معا جاء ذلك بالشر الوبيل، والفوضى الهائلة، وأورث الإنسانية شقاء لا آخر له”[16]. فخطورة هذه الملكات والقدرات أن تُسكر الإنسان وتطغيه، وتُنسيَهُ حقيقته وقدره، ودوره المحدود في الوجود في إطار المشيئة الإلهية، فتجعله ينصب نفسه في مقام الألوهية وسيد الكون، فيضل ويطغى، ويفجر ويبغي ويتكبر، من حيث كان ينبغي أن يعرف فضل ربه عليه، الذي وهبه وأغناه وعلمه، والله تعالى يقول:﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ [العلق:٦-٧] [17]

ذلك لأن “صفة العقل أو العلم تنقلب إلى شبكة تصطاد بها كرامة الإنسان وحياته، ومزية القوة وأسبابها تنقلب إلى عواصف هوجاء تضرب الجماعات الإنسانية ببعضها، لتنحسر العاصفة بعد ذلك عن ضعاف مستعبدين وأقوياء متسلطين متألهين!.. وليس الطغيان البشري في حقيقته إلا نتيجة طبيعية لتحرر هذه الصفات من الانضباط بأي قيد. حيث يذهل صاحبها عن وجود رقيب يلاحظ كل تصرفاته، ويدخر له العقوبة الصارمة على كل ما لا يرضى عنه من أنواع السلوك والصفات، فينطلق على سجيته يفعل كل ما تشاء له نفسه وتهواه. وليس الاستخذاء البشري وعبودية الإنسان  للإنسان إلا نتيجة طبيعية لهذا التحرر ذاته؛ فإن هذه الصفات عندما تنطلق على سجيتها، يتصارع أربابها في حلبة هذه الحياة، فيفوز أولئك الذين فاقوا غيرهم في القوة وأسباب السلطان، ويقع الآخرون بالضرورة تحت حكمهم وسلطانهم. ثم إنهم يستسلمون لما يقتضيهم الحال من قهر وذل قد ينتهيان بهم إلى عبودية مطبقة، بسبب أنهم ذاهلون عن وجود إله خالق قاهر يقضي في خلائقه بما يشاء، ولا معقب لحكمه وقضائه. ولو أن هؤلاء المستعبَدين وأولئك الطغاة المستعبِدين أدركوا وجود الإله، وصدقوا كلماته وآمنوا برسله، لأحجم الطغاة عن طغيانهم، وتحرر العبيد عن العبودية لأقرانهم”[18].

أي أنه بدون التزكية، تنقلب ملكات الإنسان وصفاته وقدراته إلى عدو له يتملكه ويسخره في الضلال، وإلى عامل اضطراب في الحياة الإنسانية ودمار وفساد في الأرض، وهي إنما ركبت فيه لتخدم وظيفته الإصلاحية في النفس والمجتمع. لأجل ذلك يحتاج دائماً إلى قوة توجه هذه الصفات في الاتجاه الصحيح، وتمنعه من استعمالها في الاتجاه المدمر. وهذه القوة ليست إلا قوة التزكية الإيمانية بكل عناصرها وشعبها؛ فهي اللجام الذي يقيه خطورة ما بيده من أسلحة وقدرات [19].

إن الايمان بالله كما يعبر سيد قطب هو تلك القوة الدافعة والدافقة التي “تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها، وتتجه بها إلى وجهة واحدة. وتطلقها تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها، وفي دفع الفساد والفتنة عنها، وفي ترقية الحياة ونمائها، وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية. والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد. وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة. من العبيد للهوى ولبعضهم بعضا! وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور، في دفعة الحركة ودفعة الحياة.. وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج، فلا يعتدي، ولا يتهور، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح”[20].

أما بدون هذا التزكي الإنساني تمتلئ الأرض فساداً وطغياناً، وواقع الحياة ممتلئ بصور من طغيان الإنسان واستعلائه بمستويات متفاوتة، وجميع أنواع الفساد أخلاقاً، وتربيةً، وسياسات داخلياً وخارجياً. مأتى كل ذلك نفوس إنسانية لم تتزكَّ، استبدت بها المطامع والأوهام، وتحكمت فيها الشهوات، فلا تقف عند حدود الله، ولا تستمع إلى صوت «الفطرة» و«العقل» و«الضمير» و«الحق».

ولا أدل على هذا ما يشاهده كل العالم اليوم من هذه الحالة الصهيونية الاستغنائية المستبدة بها أوهام وجنون العظمة والاستعلاء اللامحدود، وحالة الطغيان والبغي والعلو التي أظهرت أقبح ما في الإنسان مما لا يمكن أن يوصف، ولا يمكن تفسيره إلا بفساد النفوس، وعدم تزكيها واستغنائها عن الإيمان بالله وبالغيب، والخروج عن الفطرة السوية، والتجاوز لكل الحدود سواء منها الدينية، أو حتى التي وضعها بنفسه لنفسه.

مما يُستنتج معه أن جوهر النجاح في حل الأزمات والمشكلات الإنسانية في كل زمان وفي كل مكان، تكمن في تزكية الإنسان وتطهيره وصلاحه، ليمتد صلاحاً في واقعه. هكذا هو المنهج السنني القرآني في إصلاح الحياة، والبناء الراشد للحضارة والعمران؛ حيث أنه “عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهو النوع كله، فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذي هو إصلاح مبدأ التفكير الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم. ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه، وتصفية باطنه، لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة… ثم عالج بعد ذلك إصلاح العمل، وذلك بتفنن التشريعات كلها. فاستعداد الإنْسان للكمال وسعيه إليه يحصل بالتدريج في مدارج تزكية النفس”[21].

ثانياً: الفلاح:

سبق وأن تناولنا مسألة الفلاح بشيء من البيان والتفصيل في مقال سابق ضمن سلسلتا هذه “آيات وسنن”، لذا لا نحتاج أن نعيده في هذا المقام، فيرجع إليه[22].

ونقتصر على ذكر ما حظي به هذا الوعد الإلهي بالفلاح الإنساني من أهمية كبيرة، باعتباره الحقيقة الكبرى التي تدور عليها سورة الشمس المنتسب إليها التي مقصودها العام بيان هذا القانون الإلهي العظيم، وهو«أن فلاح الإِنسان بما هو نجاحه فِيما يطمح إليه، ويبتغيه من الخير رهين بالتزكي الإنساني». وما يزيد بياناً لأهمية هذه الحقيقة، مجيئها هو ذلك الخبر المنتظر والجواب لأطول قسم في القرآن الكريم بمخلوقات ومشاهد كونية عظيمة في الآفاق والأنفس:﴿وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا * وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا* وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا* وَٱلَّیۡلِ إِذَا یَغۡشَىٰهَا* وَٱلسَّمَاۤءِ وَمَا بَنَىٰهَا* وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا* وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا* فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾ [الشمس:١-٨]، لكأنها هي الإطار الكبير الذي تندرج فيه هذه الحقيقة.

كما سيقت مساق التبعة المترتبة “على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه؛ توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير، وفي حقل الشر سواء، فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب. ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة، وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا؛ لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه، وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان، وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام. هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي: فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه، وتمنحه حرية الاختيار [في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار]، فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده، وفضلها على كثير من العالمين”[23].

وبهذا يضعنا هذا الوعد الرباني أمام قضية مسؤولية الإنسان عن فعله وكسبه ثواباً وعقاباً في سياق البيان السنني، لتتأكد تلك العلاقة الوطيدة للسنن الإلهية بمسؤولية الإنسان وحريته. والأخيرة قد جعلها باقر الصدر الحقيقة الثالثة من الحقائق القرآنية للسنن الإلهية التي أكد عليها القرآن في الكثير من المواضع؛ إذ تؤكد أن “النظرية القرآنية لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي، ولا تعطل فيه إرادته وحريته واختياره، وأنما تؤكد أكثر فأكثر مسؤوليته على الساحة التاريخية” [24].

****

وختاما، فإننا أمام صيغة سننية ذات أهمية بالغة، لما لها من دور توجيهي للإنسان ضمن وعيه بهذا القانون:﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾؛ فحين يريد الفلاح والنجاح، فإنه يعرف ما عليه عمله؛ فيسعى ويتجه بكل طاقاته إلى إعمال شروطه وتوفير مقدماته، وفي الآن نفسه اتقاء عوامل الفشل والخسارة والخيبة، ما يعمق قاعدة أن “القانون الموضوع بصيغة القضية الشرطية، موجِّه عملي للإنسان في حياته”[25].

إنه ليس خافيًا ما يتضمنه قوله تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾ من توجيه وإرشاد وترغيب في الخير، وتشويق النفس وتعليقها ببشارة الفلاح العظيم على ما يتم من التزكية والإيمان والاستقامة، ليتعزز المقصد العام من الدرس السنني في القرآن، وهو الهداية إلى التي أقوم، وإلى الصواب والحق والوجهة الصحيحة في الحياة، ضماناً لسعادة الإنسان ونجاحه فِيما يطمح إليه، وظفره بالمبتغى من الخير في معاشه ومعاده، وتجنباً للشقاء والخيبة والخسران، وما يعنيه ذلك من وضع الإنسان أمام الاختيار الصحيح في الحياة.


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

[1]– الذريعة إلى مكارم الشريعة، تحقيق: أبو زيد العجمي، دار السلام – القاهرة، ط١، ٢٠٠٧م، ص ٨٦-٨٧.

[2]– البرهان في علوم القرآن، الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث- القاهرة، ط٣، ١٩٨٤م، ٣/٣٧٢.

[3]– روح المعاني، الآلوسي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، ١٧/١٠٣.

[4]– ابن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق: أحمد الحوفي- بدوي طبانة، طبعة نهضة مصر،٢/١٤٩.

[5]– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط1، 1984م، ٢٢/٧٨.

[6]– الكشاف، الزمخشري، تحقيق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة – بيروت، ط١، ١٩٩٨م، ٣٠/ 1205.

[7]– التحرير والتنوير، ابن عاشور، الدار التونسية للنشر،١٩٨٤م، ٣٠/288.

[8]– المفردات، الراغب الأصفهاني، تحقيق: عدنان داوودي، ط٤، ٢٠٠٩م، ص ٣٨١.

[9]– الإيمان والعمران، عبد المجيد النجار، إسلامية المعرفة، العدد ٨، ١٩٩٧م، ص ٤٤.

[10]– يراجع التوحيد والتزكية والعمران؛ محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، جابر العلواني، دار الهادي- بيروت، ط١، ٢٠٠٣م، ص ١١١-١١٢.

[11]– المفردات،  ص ٣٨١.

[12]– تراجع قيم الإسلام الحضارية نحو إنسانية جديدة، محمد عبد الفتاح الخطيب، كتاب الأمة، العدد ١٣٩، ص ٧٣ -٨٢.

[13]– في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط9، 1989م، ٣٠/٣٩١٧-٣٩١٨.

[14]– منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، البوطي، دار الفكر- دمشق، ط٢، (١٣٠٧ه/١٩٨٧م)، ص 25- 26.

[15]– نفسه، ص٢٥-٢٦.

[16]– كبرى اليقينيات الكونية، البوطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ودار الفكر، دمشق، ٢٠٠٥م، ص ٦٧.

[17]– يراجع المقال السابق ضمن سلسلتنا آيات وسنن (٦) – ﴿إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى﴾.

[18]– من أسرار المنهج الرباني، البوطي، سلسلة أبحاث في القمة (1)، ط مكتبة الفارابي، دمشق، ص ٨-١٠.

[19]– ينظر كبرى اليقينيات الكونية، ص ٦٧.

[20]– في ظلال القرآن، ٩/١٣٣٩.

[21]– مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، ودار السلام القاهرة، ٢٠٠٦م، ص٦٢.

[22]– وهو المقال المعنون بـ: آيات وسنن (٢) – ﴿قَدۡ أَفلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

[23]– في ظلال القرآن، ٣٠/٣٩١٨.

[24]– السنن التاريخية في القرآن الكريم، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط ١٩٨٩م، ص٧٢.

[25]– نفسه، ص ٨٤..

اترك تعليق