آيات وسنن (5) – وما أدراك ما طوفان الأقصى!

بقلم د.فاطمة الزهراء دوقيه(*)

يمر الآن على الأمة حدث كبير، وجاءها نبأ عظيم، ذلك هو معركة “طوفان الأقصى” المجيدة التي انطلقت يوم ٧ تشرين الأول أكتوبر من العام الجاري .. مر عليها أكثر من شهرين ..

وبينما الفكر يجول .. والنفس تموج.. والسمع يُصيخ.. والقلب يحترق .. مع المشاهد والمجريات والامتدادات والتفاعلات والمحافل والمقالات .. تبلور هذا البوح .. وهو غيض من فيض.

*****

طوفان الأقصى وما أدراك ما طوفان الأقصى!.

المحطة التاريخية الحديثة الفارقة من محطات النضال الفلسطيني، والمقاومة والجهاد المسلحين الفلسطينيين لأجل تحرير الأرض والانعتاق من الاحتلال.. وهو الأمر المشروع عقلاً ونقلاً ووضعاً..

هو يوم من أيام الله التي جعل فيها سبحانه آيات لأولي الألباب والأبصار، لعلهم يعقلون، إلا من أبى ودس نفسه في الأوهام والأساطير والأضاليل وأقنعها بالأكاذيب.. ﴿وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾ [الشمس:١٠].. يومٌ ستتذكره أجيال وراء أجيال .. وسيُروى على مر الأيام والسنون.. فلن يُمحى من ذاكرة التاريخ:﴿وَذَكِّرۡهُم بِأَیَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم:٥] ..

طوفان الأقصى وما أدراك ما طوفان الأقصى!.

الصدمة الصاعقة للعدو الذي لم يفق منها إلى الآن .. ويبدو أنه لن يفيق منها إلى أن يزول ..

صدمة أصابته بالجنون فانبعث كما﴿ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا﴾ [الشمس:١٢] .. يدمر ويكسر الحجر والشجر والبشر.. ويذبِّح ويقتِّل.. لكنه لا يرتد إلا خائباً حسيراً .. فاقداً توازنه مرتبكاً .. لا يدري أين يذهب وأين يجيء .. ولا يعرف كيف يواري وجهه من خيبته والعار الذي وصم جبينه .. حاله موصوف في قوله تعالى:﴿أَفَمَن یَمۡشِی مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِ﴾ [الملك:٢٢]، وهو مثل لمن يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه، أي: لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب؟ بل تائه حائر ضال [1].. يسير وهو يعثر في طريقه فينكب على وجهه، ثم ينهض ليعثر من جديد ! وهذه الحال كتلك، حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول! .. هو حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله، المحروم من هداه، الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته، لأنه يعترضها في سيره، ويتخذ له مساراً غير مسارها، وطريقاً غير طريقها، فهو أبداً في تعثر، وأبدا في عناء، وأبداً في ضلال.. شتان بين من هذا حاله وبين:﴿منْ یَمۡشِی سَوِیًّا عَلَىٰ صِرَ ٰ⁠طٍ مُّسۡتَقِیمٍ﴾ [الملك:٢٢]، يمشي سويا في طريق مستقيم، وطريق الحق، لا عوج فيه ولا عثرات، وغايته أمامه واضحة مرسومة؟! [2]..

طوفان الأقصى وما أدراك ما طوفان الأقصى!.

الصدمة الشديدة للعدو التي أنطقته بالحق .. وجعلته يعترف أن الكيان مهدد في وجوده .. صدق وهو الكذوب ..

وهو من هو !!

“الجيش الذي لا يقهر” .. و”الآمن الذي لا يتزلزل”..

تسقط كل هذه المقولات بطريقة مدوية مخزية.. لتعلو مكانها مقولات من قبيل:

“الشعب الذي لا يقهر” .. و “لا أمن للظالم مع المظلوم”

طوفان الأقصى وما أدراك ما طوفان الأقصى!.

المفاجأة السارة للمؤمنين ﴿نَصۡرٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٌ قَرِیبٌ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [الصف:١٣].. والإفاقة التامة للأمة العربية والإسلامية التواقة للانعتاق والتحرر.. بث فيها الأمل.. وأراها معاني الإيمان.. وجدد لها مفردات وعيها الحضاري .. رغم ما يصاحبه من آلامٍ غائرةٍ وجراحٍٍ نازفةٍ .. لكن :

*﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرًا﴾ [الشرح:٥] ..

*﴿فَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـٔاً وَیَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِیهِ خَیۡراً كَثِیراً﴾ [النساء:١٨] ..

*﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـٔاً وَهُوَ خَیۡرٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـٔاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة:٢١٦]..

ثم إنه الابتلاء ليعلم الله عز وجل الذين آمنوا ويتخذ منهم الشهداء، وليمحصهم:﴿إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٌ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٌ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ* وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [آل عمران:١٤٠-١٤١]..  وليميز الخبيث من الطيب:﴿مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِیَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِ﴾ [آل عمران:١٧٩].. كل ذلك والبشرى للصابرين والمحتسبين: ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءٍ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٍ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [البقرة:١٥٥].. وما عند الله خير وأبقى:﴿وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرٌ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى:٣٦].. كما أنه المكر والكيد الإلهيين بالعدو، والإملاء له ومده في طغيانه، ليزداد إثماً، واستدراجه إلى نهايته وتدميره وذهاب ملكه:

*﴿وَیَمُدُّهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ﴾ [البقرة:١٥]..

*﴿إِنَّمَا نُمۡلِی لَهُمۡ لِیَزۡدَادُوۤا۟ إِثۡماً﴾[آل عمران:١٧٨]..

*﴿وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَیۡثُ لَا یَعۡلَمُونَ * وَأُمۡلِی لَهُمۡۚ إِنَّ كَیۡدِی مَتِینٌ﴾ [الأعراف:١٨٢-١٨٣]..

*﴿أَفَأَمِنُوا۟ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ [الأعراف:٩٩]..

*﴿وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ﴾ [الأنفال:٣٠]..

*﴿إِنَّهُمۡ یَكِیدُونَ كَیۡداً* وَأَكِیدُ كَیۡداً﴾ [الطارق:١٥-١٦]..

طوفان الأقصى وما أدراك ما طوفان الأقصى!.

التسلل الكبير .. والرد العظيم .. والصفعة في وجه العدو المدوية .. والمعركة الكبرى لدفع العدوان .. ودحر المحتل وتحرير الأقصى والأسرى بعون الله .. هو ردٌّ على العدوان القائم المستمر والمتواصل منذ خمس وسبعين عاماً .. لم يتوقف ولا يتوقف .. ردٌّ جاء بعد تحذيرات تلو التحذيرات .. وإنذارات تلو الإنذارات .. وبيانات تلو البيانات .. فمن كبير الحمق.. وعميق السخف .. وظاهر التزييف .. وبيِّن التضليل .. أن يقول قائل أنه “هجوم لا مبرر له ولا مسوغ.. والبادئ أظلم .. والمحتل مظلوم معتدى عليه.. وما يفعله دفاع عن النفس”!!

وكأن الناس في فلسطين يعيشون في رغد من العيش .. وفي هناء نعيم وسعادة وترف وسعة!!

ألم يأتك نبأ التضييقات في اليوميات الفلسطينيات .. وشتى صنوف الاعتداءات .. وماذا عن التدنيس للمقدسات .. وعن الاعتقالات للرجال والنساء والشيوخ والعجائز والفتيان والفتيات .. وعن تلك الفظاعات في تلك الغرفات المظلمات ..

بل وماذا عن الحصار الخانق المطبق على غزة منذ خمسة عشر عاما أو أكثر ؟!!

وقبل هذا وذاك .. ماذا عن الاحتلال ذاته ابتداءً.. وما صاحبه من إطلاق اليد للسرقات .. للأراضي والبيوتات.. وعن الاستيطان وتوسيع المستوطنات .. والتهويد بطرق متعددات .. وهلم جراً مما نعلم ومما لا نعلم ..؟!!

طوفان الأقصى وما أدراك ما طوفان الأقصى!.

رأينــا فيـه مصداق آيات الله كثيرة .. ورأينا في نفس الآن كذبَ وزيف ادعاءاتٍ ومفاهيم كونية قيل أنها تقدمية .. وقوانين إنسانية قيل أنها لسعادة الإنسان في هذا العالم.. ولسلام وأمن وتقدم شعوب العالم في كـل مكــان .. فإذا بها تقصد إنساناً خاصاً وشعوباً بعينها .. ليس كل إنسان .. وليس كل مكان ..

هل تعلم ألا شيء اليوم مُستثنىً من تلك القوانين الإنسانية إلا العدو الصهيوني .. لا تعنيه ولا تنطبق عليه مهما فعل .. فهو المتعالي المستغني:﴿وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّاً كَبِیراً﴾ [الإسراء:٤]..﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ* أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾  [العلق:٦-٧]..

فواعجبي !! كيف يكون التطبيعُ وربط العلاقات بمختلف مجالاتها مع هذا العدو القاتل المجرم والكائن غير الطبيعي أمراً طبيعياً .. تسقط كل المسوغات .. وكل المبررات .. وكل الدواعي .. وكل المفاهيم والادعاءات .. وهي الساقطة أصلا ومنذ زمن بعيد ..

فكيف ساغ التطبيعُ لدينا وجُعِلَ له مكان عندنا .. فضلاً عن أن يبقى ..

يسقط التطبيع وتسقط معه أساطيره وأباطيله.. ويسقط هذا الكائن غير الطبيعي، محتل الأرض، مختل النفس، معتل العقل، سارق البيوت، منعدم الضمير والمنطق، ناقض العهود، كافر بالسلام.

طوفان الأقصى وما أدراك ما طوفان الأقصى!.


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

الهوامش:

[1]– تفسير القرآن العظيم، عماد الدين إسماعيل بن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1999م، (٨/١٨١).

[2]– في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط9، 1989م، (٢٩/٣٦٤٤).

اترك تعليق