أهل غزة  .. ملحمة للإيمان والدعوة للإسلام

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد(*)

ما يجري في غزة من أحداث عُرفت بمعركة “طوفان الأقصى” ليس مجرد حرب واعتداء وجرائم صهيونية ضد الشعب الفلسطيني برجاله ونسائه وشيوخه وبنيته التحتية، وإن كان هذا أمرا عظيما وحدثا فارقا لا أكون مبالغا إن قلت: إن طوفان الأقصى سيوضع في تاريخنا ضمن المعارك الكبرى التي تحوّل عندها التاريخ، مثل بدر، وفتح مكة، وحطين، وعين جالوت، وبلاط الشهادء، وذات الصواري، والزلاقة، والعقاب، وعمورية، وفتح الأندلس، وفتح سمرقند، وفتح صقلية، والقادسية، ونهاوند، ووادي المخازن، واليرموك، وغيرها من المعارك والأحداث التي أرخ بها المسلمون أيامهم، وتغيرت عندها الدنيا، وتحول بها التاريخ.

أقول: إن ما يجري على أرض غزة ليس مجرد هذا فقط، على عظمته وجسامته وأهميته البالغة، وإنما صارت غزة برجالها ونسائها وأطفالها ملحمةً دعوية تتجلى فيها معالم الإيمان، وترتسم فيها صور الإسلام، في الرضا والصبر والثبات والعزة والأنفة والإباء واليقين، وتتجسد فيها معاني العقيدة الإيمانية، والعبادة الحقيقية، ويُمارَس على أرضها ذروة سنام الإسلام .. وباختصار إن أرض غزة الآن بثبات أهلها وضمودهم صارت محط أنظار العالم في الوقوف أمام نموذج تاريخي في معاني الإسلام جميعا: إيمانا وأخلاقا وشريعة ومعاملة وآدابًا، يَرمُقه الناس من بعيد بإكبار وإجلال وإعظام يجعل الرامقين في حالة ذهول وشرود ودُهوش!

فهذه أمٌّ تفقد أبناءها، وتراها ثابتة صامدة، ليس هذا فحسب، ولكن يَصدُر عنها كلامٌ كأنما زادها الفقدُ ثباتا وإصرارا على البقاء والصمود والتحدي، وهذه زوجة تفقد زوجها، فتقف صامدة صابرة محتسبة تُتمتم بكلمات الرضا والفخر بالشهادة، ورجل يفقد أسرته فلا يصدر عنه ما يفيد الضجر والبرم والجموح، وإنما هو الصبر والرضا واليقين والصمود والاستسلام لله الكبير المتعال، وتلك أسرة تفقد بيتها ومعاشها ثم تجلس في بساطة ويسر بجوار الركام والأطلال في خيمة تمارس حياتها وتعطي النموذج المثال في إرادة البقاء، والإصرار على التحدي والصمود، وهذا طفل يتكلم بكلمات لا يتكلم بها الدعاة ولا العلماء في معاني العقيدة الحقة والمقاومة المستمرة والإرادة الصلبة والتحمل العظيم .. وهكذا أمثلة وصور لا تقع تحت العبارة، ولا تلحقها الإشارة.

كل هذا جعل العالم كله من أقصاه إلى أقصاه ينظرون لهذه المشاهد وهم في حالة من الإعجاب والتَّسْآل: ما هذا النموذج النادر من البشر؟ هل هؤلاء بشر؟ وما الذي جعلهم يتحملون كل هذا؟ وما الذي حملهم على أن يتكلموا بهذا الكلام؟ وما السر وراء هذه الحالة النفسية العجبة رغم عِظَم الفقد وكِبَر الرُّزْءِ ووحشة الحياة؟!

هل هذا النموذج هو ما كنا نعده إرهابًا قبل السابع من أكتوبر؟ هل هؤلاء إرهابيون؟ إن ما نراه أمامنا من صبر وثبات، وإيمان ويقين، وصمود وتحدٍّ، ورضا واستمرار، لا يمكن أن يصدر عن إرهاب ولا إرهابيين، وإنما يصدر عن بشر استثنائيين في تاريخ البشرية، ولا يمكن أن يصدر هذا عن بشر مجردين بل لابد من وجود سر آخر وباعث مختلف ودافع آخر .. إنه سر الإسلام وباعث الإيمان!

وهنا أخذ الناس يبحثون عن هذا الإيمان، ويقرؤون عن الإسلام: أي دين هذا؟ هل يمكن لإسلام وإيمان أن يقود الناس لهذا السلوك، ويُفضي بهم إلى هذا المسلك في الحياة؟

لقد وجدنا عشرات الناس يدخلون في الإسلام بما رأوه من رضا رغم الفقد، ومن ثبات رغم الفزع، ومن صبر رغم الجزع، ومن إيمان رغم وجود ما يؤدي للإلحاد!

إن ما رأيناه من معاملة المقاومة الراقية لأسرى العدو ليُمَثل صورة إنسانية باهرة من أخلاق الإسلام الذي استمدت منه المقاومة هذه الأخلاق وتلك الصورة الراقية في التعامل من خلال تعاليم الإسلام العظيم وسيرة النبي الكريم، فتجسد واقعا عمليا في خلق المقاومة وسلوك المجاهدين، مما كان له كبير الأثر على هؤلاء الأسرى أنفسهم، وعلى من يتابعون هذه المشاهد في العالم، كما كان له تأثير واضح في المجتمع “الإسرائيلي” نفسه، بما استفز حكومة العدو، وجعل رواياته الكاذبة عما أسموه “التعامل الداعشي” مع أسراه تذهب أدراج الرياح.

ومن هنا نقرر بيقين: أن الإيمان الصادق، والأخلاق السامية، والدماء الزكية، يفتح الله بها ما يشاء من قلوب، ويُغيظ بها ما يشاء من أعداء، ويحيي بها ما يريد من قلوب قاسية وضمائر ميتة، ويوقظ بها النائمين، وينبه بها الغافلين، ويحوّل بها الأحداث، ويكتب بها التاريخ الجديد، ويمحو بها – سبحانه – ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب!

كيف لا، وإنَّ فعل رجل في ألف رجل أبلغ أثرا وأعظم أجرا من كلام ألف رجل في رجل، وإن ما يكتبه الله من آثار ببركة دماء الشهداء لا يدخل تحت تصور بشر، ولا توقع بشر، ولا تفسير بشر .. هذا ما قرره التاريخ، وما يزال الواقع الماثل شاهدًا عليه ودالاًّ عليه.

إن ثبات أهل غزة، وما أبدوه من أخلاق عالية وإيمان صادق، وما أُزهق منهم من أرواح بريئة، وأسيل من دماء زكية، وهُدّم من مبانٍ وعمارة ومساجد، أيقظ الأمة الإسلامية بما لا يمكن أن توقظها به الخطبُ ولا الكتب، ولفت أنظار الإنسانية بما لا يمكن أن تلفتها إليه نازلة ولا واقعة، فأضحت غزة ليست مجرد قطاع يُقاوم تَكالُب العالم الحاقد على الإسلام، ويعاني تخاذل بل تآمر الأشقاء عليه، وإنما  صار – بفضل الدماء الزكية ومقتضى الإيمان الصادق – ملحمةً للدعوة، ومبعثًا للإيمان، وقائدًا للدخول في الإسلام، وهدى وموعظة للمؤمنين!


(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.

اترك تعليق

  1. يقول بلال حسین علی:

    انا مسلم کردی من بلاد کردستان منذ بدا طوفان الاقصی بعد اعتزازنا وغایه سعادتنا بما بذله مجاهدو غزه عندما توحش العدو الصهیونی وابدا للعالم مدا وحشیته من اول يوم بدا عدوان صهیونی وانا کل اسی وحزن وبکاء علی اخوتی فی غزه ارجو الله العلی العظیم القدیر ان ینصر اهل غزه وان یهلک عدوهم… کل الشکر وتقدیر لدکتر علی مقالاته القیم والمفیده جزاه الله خیرا و وفقه لکل خیر

  2. يقول طه هدَّال:

    أحسنتم دكتور جزاكم الله خيرا وبارك بكم
    طوفان الأقصى أيقظ فينا الأمل
    نسأل الله أن يجعل لنا فيه النصر والتمكين