الإنباء التاريخي في القصص القرآني (د. علي الصلابي)

يكتب. د. علي الصلابي

يقدم لنا القرآن الكريم معلومات مهمة عن طريق القصص القرآني عن عصور ما قبل الإسلام وأخبار دولها،

أيّدتها الكشوف الحديثة كل التأييد، فيقدم لنا -عن طريق قصة موسى عليه السلام- كثيرًا من المعلومات عن الملكية الإلهية في مصر الفرعونية،

وعن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها، والأمر كذلك مع قصة إبراهيم التي تقدم لنا كثيرا عن العراق القديم.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم إنما هما قصتا إبراهيم وموسى عليهما السلام،

فهما قصتان مسهبتان في أجزائه، ربما لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعراق أمم الحضارة الإنسانية،

وهما أمة وادي النهرين، وأمة وادي النيل، وكانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم.

وأما عن بني إسرائيل فما من شكٍّ في أنه ليس هناك كتاب سماوي -حتى التوراة نفسها-

قد فصل الحديث عن بني إسرائيل وأفاض في وصف اليهود وأحوالهم وأخلاقهم،

وأبان مواقفهم من الأنبياء كما فعل القرآن الكريم، وصدق الله العظيم إذ يقول

﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (النمل: 76).

الإنباء عن بلاد العرب:

وأما عن بلاد العرب، فإنك تجد في كتاب الله الكريم سورة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وأعني بها «سورة سبأ»،

هذا إلا أن القرآن الكريم قد انفرد من دون غيره من الكتب المقدسة بذكر أقوام عربية بادت كقوم عاد وثمود،

فضلًا عن قضية أصحاب الكهف، وسيل العرم، وقضية أصحاب الأخدود، إلى جانب قصة أصحاب الفيل،

وهجرة الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك .

وصدق الله العظيم إذ يقول:

﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمتَّقِينَ﴾ (هود: 49).

ويقول:

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ (آل عمران: 44).

﴿وَمَا كنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ *

وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ *

وَمَا كنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القصص: 44- 46) .

﴿وَكلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّسُلِ مَا نثَبِّتُ بِهِ فؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 120).

﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ (الكهف: 13).

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كلِّ شَيْءٍ وَهدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111).

ماذا قال الرسول في وصف القرآن:

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول في وصف القرآن «كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم،

وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله،

ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم،

وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع من العلماء،

ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه،

وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا، من علم علمه سبق،

ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».

هدف القرآن من قصصه ومصداقيته الفريدة:

إن هدف القرآن من قصصه ليس التأريخ فقط لهذا القصص، وإنما يريد عبرًا تفرض الاستفادة بما حلّ بالسابقين،

وزجرًا لخصوم الإسلام من قريش، ثم تثبيتًا لقلب النبي صلى الله عليه وسلم أمام أذى الكافرين،

فشاءت رحمة الله بالمصطفى المختار صلى الله عليه وسلم أن تخفف عنه الشدائد والآلام، عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين،

إذ يذكّره الله جلّ وعلا بما لاقاه إخوة كرام له من عنت الظالمين، وبغي الكافرين، فما وهنوا وما استكانوا،

وما ضعفوا وما تخاذلوا، ولكنهم صبروا، وصابروا، ومن هنا يخاطب الله رسوله الكريم في كتابه العزيز

﴿وَكلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نثَبِّتُ بِهِ فؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 120)،

كما أن في هذا القصص بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرّهم الغرور، والجبابرة الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، والله من ورائهم محيط.

القصص هو الحق الصراح:

ومع ذلك يجب ألا يغيب عن بالنا -دائمًا وأبدًا- أن هذا القصص إن هو إلا الحق الصراح، وصدق الله إذ يقول

﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾  (النساء: 87)،

﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ (آل عمران: 62)،

﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (البقرة: 252)،

﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ (آل عمران: 3)،

﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ (فاطر: 31)،

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ (الزمر: 2)،

﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يؤْمِنُونَ﴾ (الجاثية: 6)،

﴿وَآمَنُوا بِمَا نزِّلَ عَلَى محَمَّدٍ وَهوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ (محمد: 2).

ولذلك إنك إذا قرأت ما ورد في القرآن الكريم من قصص،

فإنك لن تجد شيئًا من المبالغات التي وصلت إلينا من كتب التاريخ،

أو في توراة اليهود المتداولة اليوم، فضلًا عن أن ما ذكره القرآن الكريم صحيح تؤيده الاكتشافات الحديثة.

فقصة عاد وثمود تبين أنهما مذكورتان في جغرافية بطليموس،

وأن هناك كثيرا من النصوص التاريخية التي تتحدث عن ثمود،

فضلًا عن أن الكتَّاب اليونان والرومان إنما ذكروا اسم عاد مقرونًا باسم إرم كما جاء في القرآن الكريم.

وصدق الله العظيم إذ يقول

﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 42)،

﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مبَارَكٌ مصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (الأنعام: 92)،

﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (فاطر: 31).

أخبار الأمم البائدة كان العرب يجهلونها جهلًا تامًّا:

وليس صحيحًا كذلك ما ذهب إليه البعض من أنه لا شك أن إشارات القرآن الكريم إلى كثير من القصص

إنما هي دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائد الذي كان يتداوله الناس من بلاد العرب؛

ذلك لأن العرب ما كانوا يعرفون شيئًا عن كثير من قصص القرآن، وعلى سبيل المثال، فإن القرآن الكريم يختم قصة نوح بقوله تعالى

﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ﴾ (هود: 49).

فلو كان العرب يعرفون هذه القصة مثلًا،

وأنها كانت من قصصهم الشعبي الذي يتداولونه في أسمارهم،

أفكان العرب -وفيهم أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم- من يسكت على قوله تعالى

{مَا كنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ}؟

أليس من المنطق أن أعداء المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد كانوا دائمًا على يقظة يتمنون أقل ثغرة،

ليوجهوا من خلالها ضرباتهم، ويحولوها إلى سخرية واستهزاء، سوف يجيبونه أنهم يعرفون القصة،

بل إنها من أساطيرهم التي تفيض بها مجالسهم ونواديهم، ولكن التاريخ لم يحدثنا عمن أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة،

وذلك يدل على أن ما جاء به القرآن الكريم من أخبار الأمم البائدة كان شيئًا يكاد يجهله العرب جهلًا تامًّا،

وإن كان يعلم بعضًا منه أهل الكتاب الذين درسوا التوراة والإنجيل.

المصادر والمراجع

1- علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم، ص 60-65.

2- جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ)، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، 1974م.

3- محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن، دار الفكر العربي، القاهرة، ص15.

4- عباس محمود العقاد، مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية، دار نهضة مصر، القاهرة، 1955م، ص 61.

5- محمد بيومي مهران، دراسات تاريخية في القرآن الكريم، 1/47.

اترك تعليق