العلامة الدكتور يوسف القرضاوي من وجهة نظر أستاذ الفلسفة وتاريخ العلم (3)

بقلم أ.د. محمد الجوادي(*)

(11)

أكاد استشفُّ أن الشيخ القرضاوي استحضر قصة تفضيلات الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان لمستقبله، حين اختار أن يسلك سبيل الفقه، لا النحو ولا الأدب ولا السير، وأنه لم يكن – كما كان الإمام – مولعًا بالقضاء، وإنما بالفقه.

ولا أظن القرضاوي رغم هوايته للشعر والأدب، ومحصوله المختزن والمكتنز منهما، فكَّر أبدًا في أن يتم دراسته العالية في اللغة العربية أو دار العلوم.

(12)

كان القرضاوي واعيًا كل الوعي لما يُنتظر منه في جيله، من ضبط لأصول علوم مجتمعه العلمي الأزهري، لتقود مجتمعه المدني العام، وقد أدرك منذ ممارسته المبكرة للخطابة والدعوة والوعظ والتدريس، أن التفوق في هذا الدرب يقتضي منه أن يحيط بالفلسفة، حتى من قبل أن يتعمق في الفقه، وهكذا صنعت الهداية من القرضاوي، أبرز نموذج في المجتمع الشرقي للنموذج الفذ الذي مثله جان كالفن رائد الكالفينية، التي هي الآن المذهب الأول بين البروتستانت في فرنسا وسويسرا.

كالفن الذي وصفه أهل العلم بالفلسفة وتاريخ الأديان، بأنه من النوادر من الفلاسفة، الذين استطاعوا أن يطبقوا ما أنتجوه من الفلسفة.

وأزعم أن دراسة القرضاوي في كلية الأصول للشهادة العالية، ثم في كلية اللغة العربية للشهادة العالمية، ثم لمقررات التربية العالية وعلم النفس في أثناء دراسته لتخصص التدريس المقترن بالعالمية، ثم دراسته للبحث وأصوله في معهد الدراسات العربية، الذي كان يتفوق في سعة أفق أساتذته على الجامعة المصرية التقليدية: كانت صمامات متوالية للنجاح لدراسته لعلوم الشريعة، وقد نظر إليها من محيطها – كما ألمحنا من قبل – بدلًا من أن ينظر إليها في قلبها، وقد اضطرب قلبه بحبها عن عقل ومعرفة، ولهذا اضطرب قلبها هي الأخرى بحبه.

(13)

رُزق القرضاوي بالإضافة إلى هذا لذة معاناة من نوع آخر، يتأذى بها طلاب البحث العلمي حين يتركهم أساتذتهم بالوفاة أو السفر وهم في منتصف الطريق، وينتقلون برسائلهم إلى مشرف آخر، فيبدؤون الطريق من الخطو الأول مرة أخرى، وأقول من الخطو لا من الخطوة عن قصد، والفارق كبير ومفهوم، وكان بالطبع بمثابة عبء على القرضاوي.

وقد جرت العادة على أن يتشاءم طلاب العلم من مثل هذا الذي يحدث لهم، ويعتبرونه من ظلم القدر لهم، بينما أراه أنا من حسن حظهم ومن توفيق الله، كي يعرفوا منذ مرحلة مبكرة معنى المدارس والتعدد والاختلاف والمذهب والتسامح، ويتخلصوا من تفضيل التعصب وإيثاره، لو أنهم رزقوا خلية واحدة مؤثرة من خلايا العاطفة.

وقد مرَّ القرضاوي بهذا كله، فصقلته التجربة صقلًا، وأسَّسته تأسيسًا، لم يكن من السهل عليه أن يحصل عليه بسهولة، لو أنه مضي في طريق ممهد.

(14)

مضى القرضاوي في إعداد رسالته فواجه العلم وحده دون عون من مشرف أو (سمنار بحث)، ولقي من صنوف المعاناة كل ما يلاقيه وما يواجهه الباحث الصادق في توجهه العلمي، من بحث عن الحقيقة وسط ما يظهر له من قوة وسطوة وجاذبية أهرام السابقين، التي تعتمد في استنتاجاتها ومعطياتها (على حد سواء) على ما هو متاح في الخريطة المعرفية السابقة، وهي خريطة تراكمية، كأنها طبقات الأرض الجيولوجية، لا تخلو طبقة فيها من تشابه مع الطبقة الأخرى، وإن كانت بالطبع تحتفظ لنفسها بطوابع مميزة عن الطبقات الأخرى.

ولم يكن متاحًا للقرضاوي أن يجد – على نحو جاهز – ما يوجز له تاريخ العلم في هذه الجزئية، وإنما كان يجد الآراء وقد جردت نفسها من عصر الزمان الذي قيلت فيه، وانحازت فحسب في نسبتها وتسميتها إلى المذاهب الكبرى أو الصغرى.

وعلى سبيل المثال، فإنه كان يرى مثلًا قولهم: ورأى بعض المالكية. دون أن يعرف إن كان هذا البعض متقدمًا أو متأخرًا، فإذا تعمق البحث وجده من السابقين في الزمن، على مَن يرون رأيًا أكثر منه تحفظًا، أو أكثر منه اتصالًا بالماضي، ومع هذا فإنه يراه وقد تموضع بجهد السابقين، وأخذ مكانه في سياق الصياغة المذهبية، وربما ورد في نهاية النص، بعد أن أورد المؤلف أو الشارح (الأول أو الثاني، الخ) أو المُحشِّي أو المقرِّر أو المعلِّق، إلخ.

(15)

هكذا تأكد القرضاوي بحواسه مما كان يعرفه من قبل بعقله، من أن الفقه – وهو ذلك العلم المكتمل في مراجعه وطبقاته – لا يزال بحاجة إلى دراسة تطوره مع الزمن، حتى لو أن الزمن نفسه لم يؤثر أبدًا في بعض الفقهاء وأصحاب المؤلفات الفقهية.

وأصبح على القرضاوي – بلغة العلم – أن يدرس مسارات الفقه متعددة التوجه، لا تاريخ الفقه العام فحسب، كما أصبح عليه أن يبحث في ميادين التسويغ، والإجازة، والتجويز والسماح، والاستثناء، والإلحاق، والتبرير، والتشبيه، والقياس، والاستصحاب، والاستفتاء، والاستنباط، والاستقصاء، والاستقراء، والاستنتاج؛ مع أن لبعض هذه الكلمات معاني أوسع مما استقرَّ عليه الفقهاء والأصوليون، ومع أن لبعضها الآخر معاني أدق.

وكان على القرضاوي مع هذا: أن ينتبه حين يشتق مصطلحًا، أو يصف ظاهرة، إلى الحرص الواجب على احترام مبدأ (السبق إلى الاصطلاح)، وهو الذي لخَّصه الأصوليون والعلماء في قولهم: (لا مشاحة في الاصطلاح).

وهكذا كان على القرضاوي يومًا بعد يوم أن يتفوق في سلم العلم، بأن يصل إلى الكلمة الدقيقة، التي تهيئ لنفسها مكانًا في الاصطلاح، وإلى توصيف المصطلح من بعد وصفه، وإلى التفريق بين المصطلحات المستقرة، وشرح مغازيها ومدلولاتها، وإلى الإفادة من هذا كله في المسارات الفقهية وتوظيفها (بالموازاة لهذا كله)، في الخطو الحثيث إلى طريق جديد في الكتابة الفقهية، على نحو يستلهم الواقع المعاش، وينتصر له على النسق المتاح في كتب الفقه ومراجعه.

(16)

كان القرضاوي قد تأهل لكتاباته التجديدية والتأصيلية بما كان درسه وهضمه وتمثَّله في شبابه من علوم الأزهر الفكرية الأصيلة، التي لا بد منها لكل رائد مجدد، وهو في هذا يذكرنا تمامًا بمارتن لوثر الذي تلقي تكوينه العلمي في ثلاث مدارس متتالية، كان القاسم المشترك بينها عنايتها بالفنون الثلاثة، التي هي النحو والبلاغة والمنطق، (هي نفسها العلوم التي كانت تُعنى بها معاهد الأزهر في فترة دراسة القرضاوي فيها). وقد تنقل مارتن لوثر ما بين هذه المدارس الثلاث في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر.

وكان لدراسة كل من الرجلين القرضاوي ومارتن لوثر لهذه الفنون أكبر الأثر في نجاح عرضهما لفلسفتهما، وفي نجاحهما في الإبهار بها، حتى إنه يستحيل على أي مؤرخ أو محلل أن يقفر على دراسة القرضاوي أو مارتن لوثر لهذه العلوم أو الفنون الثلاثة.

وبدأ القرضاوي كتاباته الجديدة التي عبرت بأصالتها عن تيار جديد قوي من الوعي الفقهي والوعي المجتمعي متآزرين، حتى لو لم يكن القرضاوي نفسه في بداياته يتصور مدى قوة هذا التيار وجاذبيته، لكن الله سبحانه وتعالى هداه حين بدأ، لأن يحفر مسارًا متميزًا لإنجازه الفقهي فيما تناوله من قضايا العصر بأسلوب جديد في الترتيب والعرض، وهو أسلوب شائق لا تتوقف أدبياته عند الألفاظ والفقرات، وإنما تبدأ – وهذا هو الإنجاز الأعظم – بالمشكلة لا بالمعرفة.

(17)

كأن القرضاوي، والقرضاوي وحده وأقولها بفخر، قد اكتشف ما اكتشفه اليابانيون المنفتحون على الفكر العالمي وتجلياته من مذهب تربوي جديد ومتمايز، حققت اليابان فيه تقدمها الساحق، حين ربطت التعليم بالتوجه نحو حل المشكلات، لا بتكرار أو تقطير المعرفة المتاحة من قبل.

وهكذا انطلق القرضاوي ليكتب عن المشكلات التي تواجه مجتمعه الحضاري وغير الحضاري، من منطلق معرفة عميقة وكثيفة بالتراث الفقهي والأصولي، وبما انضم لهذا التراث وانضوى تحت جناحه من تجلياته الفقهية في مدارسه المختلفة وفي مواطنة المتعددة.

وهكذا قاد العلم القديم عالم العصر إلى علم جديد.

وهذا في رأي مؤرخ العلم: هو أسمى الدرجات التي يتجلى فيها انصهار الأصولية في الأصالة، وذوبان العلم في الفقه.

(18)

هذا إذن هو ما أنجزه إخلاص القرضاوي للعلم الذي واصل تعلمه، وهو يواصل تعليمه، فإذا به ينطلق مع توليه مسؤولياته الجامعية مسؤولية بعد أخرى، إلى إدراك الحقيقة الإبستمولوجية التي ألقت عليه واجبًا مختلفًا في إعادة صياغة المقررات؛ لأن الزمن الهادر يطلب منه أن يعمل في طريق جديد، يعلي من قيمة الحياة، وواجب الإسلام أن يقودها لا أن يتجنبها أو يتركها تبتعد عنه. وقد تواكب هذا على سبيل المثال مع إلحاح القرضاوي نفسه – بحكم اتصاله بالمجتمع العلمي والمجتمع المدني على حد سواء – على فكرة فقه الأولويات.

وهكذا وجد القرضاوي نفسه، ولي أن أفخر له بهذا، يصل إلى أرقى ما وصلت إليه فلسفة التعليم الطبي في المدرسة الغربية، من ضرورة الفصل بين التعليم الطبي العام في مجال الحوادث والكوارث والاضطرابات، وبين التعليم الطبي العالي للموضوعات الباردة على حد تعبير الأطباء الصريح، في وصف الحالات التقليدية التي لا تتطلب إلا التعامل الكلاسيكي أو الروتيني.

وهكذا فتح القرضاوي الباب واسعًا أمام النظر الجاد، بروح النقد والمراجعة في إعادة تقييم وتصميم مناهج الدراسات الإسلامية (لا الفقهية فحسب)، في مؤسسات التعليم الديني التقليدية وغير التقليدية.

(19)

على أن القرضاوي في عمله الأكاديمي، منذ توج عميدًا لكلية الشريعة، سرعان ما أضاف مجدًّا جديدًا لم يحزه مناظروه في مؤسسته الأم، وهي الأزهر الشريف، وهو أنه – على النقيض منهم – اشتبك مع قضايا العصر اشتباكًا صريحًا مباشرًا، ووظف اتصاله بالإعلام المرئي في هذا الاشتباك الإيجابي، بينما استأثر التحفظ بأداء زملائه الآخرين، الذين كانوا قد شُغلوا إلى أقصى حد بتنمية مهاراتهم الأكاديمية، القادرة على تجنب بطش السلطة، ولغط المجتمع، وانتقادات الأقران.

لكن عصرًا جديدًا من الاتصال المجتمعي المتشعب كان قد أدرك المجتمع البشري، ففسح للقرضاوي مكانة لم يفسحها للآخرين الذي قنعوا واقتنعوا واكتفوا بتطوير وتأطير مكانة الأسلاف فحسب.

فرض هذا التطور المنهجي نفسه، في الوقت الذي كان القرضاوي يواجه محاذير أكثر بكثير من المحاذير التي يواجهها نظراؤه، أو من يفترض أن يكونوا نظراء له في مؤسسة الأزهر، وعلى سبيل المثال كان القرضاوي يغض الطرف عن أن يرنو جهة اليمين أو اليسار، مفضلًا أن يواجه مجتمعه باستبطان معرفته السابقة، التي كانت من حسن حظه، معرفة مكتملة البنيان منضبطة الإطار.

وللقرضاوي أن يفخر بأنه استكنه القضايا قبل أن يستكنه الفتوى، وكأنه الشاعر الفحل الذي لم يشغله عروض الشعر ولا عاموده عن روح الشعر ولا عن مجازه، ولهذا فإنك تشهد في كل ما كتبه القرضاوي فقهًا كتب بفقه، على حين تجد فيمن حاولوا أن يقلدوه، ولو بالباطل، نصوصًا من نصوص الآحاد كتبت بمصطلحات فقهية.

(20)

عُني القرضاوي بالتربية بمعناها الواسع عناية تكاد تقترب من عنايته بالفقه، وكان هذا أمرًا متوقَّعًا بحكم ماضيه في دعوة الإخوان، وفي ممارسة السياسة، وتجلت في حياته الفكرية المرتبطة بالتعليم صورة باهرة للحرص على الدين في التعليم، وللدفاع عن التدين كنشاط إنساني وعلمي، وإذا كان للسوربون أن تفخر بتوما الأكويني وتخرجه فيها، فإن مكانة القرضاوي من الأزهر هي نفسها مكانة الأكويني من السوربون تمامًا بتمام.

ومن الطريف أن كلا الرجلين عاني السجن الظالم في بداياته، لعله يترك ما اقتنع به، لكن السجن زاد كلًّا منهما تأمُّلًا واقتناعًا واعتقادًا، وقد عُرف عن توما أثناء أستاذيته للاهوت في السوربون: تصديه لمن كانوا يهاجمون العبادة والدين، ودفاعه عن حقوق الرهبان في تدريس اللاهوت، ضد من نجحوا في تغييب فرصة الرهبان في تولي الوظائف التعليمية، وحاربوا فرصة الجماعات الدينية والطوائف الرهبانية في إدارة مؤسساتٍ تعليمية، على نحو شبيه بما أصاب الإسلام على يد أتاتورك وعبد الناصر وصبيانهما.

(21)

وللقرضاوي أن يفخر بأن طول معاشرته لنصوص أسلافه هيَّأت له القامة التي استطالت لا بوقوفها على تراث الآخرين، وإنما القامة التي استطالت لأنها مزجت نموها في مراحله الجنينية والحياتية باستصفائها وتقطيرها لتراث الآخرين.

وإذا كان العلم قد علمنا أن الإنسان منا حسب علوم الوراثة لا يستطيع أن يغيِّر كثيرًا من طوله الذي يتحدد مبكرًا جدًّا، حتى من قبل أن تكتمل رضاعته، فإن في وسع كل إنسان أن يجتهد مدعومًا بفطرة نقية، وتربة سوية على أن تكون قامته العلمية سامقة، فيجتهد منذ مراحل تكوينه الأولى في أن يكمل النقص المعرفي أو المنهجي، وأن يستكمل مقومات العلم الحقيقية في ثلاثة ميادين: العلم الشارع، والعالم الشارح، والعلم الزراع. وقد نجح القرضاوي وله أن يفخر في هذه الميادين الثلاثة، من التشريع والتبيين والتربية نجاحًا قلما تحقق لعالم في مثل ظروفه.

(22)

لا يدري القرضاوي – ومن حسن حظ العالم من طبقته أن يغفل عن بعض الأمور في مجده – أن عشرين عامًا من حياته قد ضيعت عمدًا وعَنوة بفضل البروتوكولات التي طبقتها الناصرية في عداء الإسلام والأزهر والعلم الديني والحركات الإسلامية.

وبتوفيق الله يعرض يوسف عن هذا كله، لأنه لم يشغل نفسه به، ولم يكن في أفذاذ جيله مَن يفكر بمثل هذا التفكير القاصر ولا الضيق ولا المحدود، لكن القرضاوي يدري بكل تأكيد أن هذه الأعوام العشرين التي خصمت من مجده الوظيفي (1953-1973م)، ما بين الأضابير الظالمة والنوايا المبيتة، قد عوضته عن هذه الأمجاد الوظيفية وعن الألقاب الأكاديمية تعويضًا فريدًا، تمثَّل فيما أضيف إلى تكوينه العلمي والإسلامي من بناء راسخ على مهل وإتقان.

وحتى أُقرِّب الصورة للقرضاوي نفسه، ولتلاميذ القرضاوي، ومحبي القرضاوي، فإنني أصوِّر وجود قرين للقرضاوي ولد في العام نفسه (1926م)، ولحق معه بالتعليم الأولي والكتَّاب، ثم مضي في مسار التعليم المدني بدلًا من أن يتشرف بالأزهر، ومضى في سُلَّم التعليم المدني، حتى أتم كلية الحقوق على سبيل المثال، فتخرج في عام 1947م أو 1948م على أقصى تقدير، وأتيح له العمل بالنيابة والقضاء حتى أصبح مستشارًا بالقضاء قبل أن ينال القرضاوي نفسه الدكتوراه، ثم أصبح مستشارا بالنقض، ونائبًا لرئيس النقض حتى خرج للتقاعد في 1986م، بعدما ترافع من منصة الاتهام، وبعدما حكم من منصة العدالة، وبعدما أفتى من خلال لجان التشريع، وبعدما أشار من خلال مناصب الاستشارة.

وللقارئ أن يقارن بين إنجاز هذا النموذج وذاك في الحياة والعلم والتاريخ على وجه العموم.

(23)

كان النظام الناصري عن عمدٍ (ربما لا يعرف عبد الناصر نفسه أبعاده) يظلم خريجي الأزهر بتأخيرهم عن أقرانهم من خريجي الحقوق عشرين عامًا كاملة، إذا مضوا في سلك القضاء، بعد أن فرض عليهم القرار الجائر بتوحيد القضاء الشرعي مع القضاء المدني، مع تأخير رجال القضاء الشرعي عمليًّا بهذا المبرر الظالم عشرين عامًا.

هنا تتجلى عظمة العلم في ذاته وفي لذاته التي لا يعرفها مَن لم يذقها، فإن كل هذا الظلم – على مدى سنوات التكوين – لم يحطم القرضاوي، ولم يثبطه، ولم يحبطه، بل ربما تجاوز القرضاوي عنه إلى حد أنه لا يعلم حجمه إلا الآن، إذا قدر له أن يقرأ هذه السطور.

وكأنما تجلت في سيرة حياة القرضاوي التعويضات الربانية التي كشف الله لي أن أراها مشرقة زاهرة أمام عيني الفاحصتين، ومن أمثلتها: أن الذين يحبسون أو يسجنون ظلمًا في قضايا الرأي، يعوضهم الله عن سنوات حبسهم سنوات أخرى ينسئ لهم بها في أعمارهم، ويعطيهم إياها صحة بلا مرض، وعافية بلا شكوى، وقد شهدت هذا مرارًا وتكرارًا، وأشهد به وأنا طبيب القلب الأثير عند هذه الطبقة من رجال الرأي على اختلاف مشاربهم.

(24)

وظني أن الله سبحانه وتعالى منَّ على القرضاوي بما لا عين رأت ولا أذن سمعت؛ لأنه خاض ما لم يخضه غيره من نظرائه في الجيل السابق عليه، ولا الجيل اللاحق به.

فلو تصورنا مَن سبقوا القرضاوي بعشر سنوات في تخرجهم من كليته، لوجدناهم قد استقامت لهم الوظيفة، وسهلت عليهم العالمية الكبرى، فعاشوا حياة أيسر بكثير من حياة القرضاوي، وإذا نظرنا إلى اللاحقين به بعد عشر سنوات من تخرُّجه وجدناهم بدؤوا مسيرتهم العلمية، وقد تهيأت لهم أرض الدراسات العليا الميسرة على النحو الذي كان للقرضاوي فضل فيه في تعبيد الطريق. وقد أدي هذا الفضل بعلمه قبل عمله، وبالقدوة قبل المكانة.

مهَّد القرضاوي الصحراء، وأسس جيدًا لبناء الطريق الراسخ فيها، ثم تحمَّل الشمس المحرقة وهو يصب المواد الممهدة والراصفة بكل ما يكتنفها من قسوة الرائحة، وقسوة الحرارة، وثقل المادة، لكنه في نهاية الأمر عبَّد طريقًا تعبَّدت من حوله، وتفرَّعت منه طرق كثيرة. ثم شقت بموازاته طرق أخرى أكثر.

وهكذا اكتملت للقرضاوي نجاحاته في صراعات الاغتراب للحرية، والعلم للفقه، والموسوعية للتخصص، والمذهبية للتكوين، والاجتهاد للتيسير.

(25)

لا شك في أن القرضاوي صادف حظًّا فريدًا ومواتيًا في غربته في قطر، التي طبَّقت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، في بناء جامعتها على نحو ما رأت النبي يفعل في بناء مدينته، وإذا بقطر حريصة على أن تكون كلية الشريعة في قلب جامعة قطر، كما كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، في قلب مدينته، وإذا بقطر تحرص على يكون اسمها الشريعة فحسب، بلا إضافة للقانون أو الدعوة أو غير ذلك مما يستحب، أو مما لا يستحب، ومما يجذب أو لا يجذب.

ولا تقتصر قطر ومعها القرضاوي على ذلك من امتنان بكلمة الشريعة، وإنما هي تجعل كلية الشريعة وعاء لكل العلوم الإسلامية.


(*) مفكر عربي معاصر، جمع بين الطب والأدب والتاريخ والنقد واللغة والفكر السياسي والتنموي، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وعضو مجامع اللغة والمجامع العلمية واتحادات الكتاب، وهذه الورقة كانت ضمن كتاب: “التسعينية” بمناسبة بلوغ الإمام القرضاوي تسعين عاما، ونشرت أعمالها في خمسة مجلدات كبيرة.

اترك تعليق

  1. يقول Rima Mohammad:

    رحمة الله عليهما

  2. يقول عبدالله السادات:

    اللهم اغفرهما وارحمهما و لا تعذبهما و سكنهما في الجنة.

  3. يقول محمد الحنفي:

    في رحمة الله ورضوانه، القرضاوي والجوادي .

  4. يقول محمد عبده:

    رحم الله
    العالمين الجليلين
    القرضاوي
    والجوادى

  5. يقول موسى بن صالح:

    اللهم اغفر لهما و ارحمهما و اجمعهما في الجنة

  6. يقول 🌍 Hello World! https://national-team.top/go/hezwgobsmq5dinbw?hs=0f3d035561d84ece19695927e1ec182f 🌍:

    iyxllo