المثبطون باسم الواقعية والعقلانية

بقلم الدكتور فؤاد هراجة(*)

يقول الله تعالى في محكم تنزيله: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ”. [سورة الأنفال: 65].

“ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوٓاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ”.  [سورة الأنفال: 66].

أنا جد متأكد أن أصحاب الفلسفة الواقعية، والحاملين شعارات ذرء المفاسد قبل جلب المصالح، وحقن دماء المسلمين، ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وعدم توازن القوى، وأصحاب النهضة الفكرية، حتما وحسب منطقهم  هذا سيتهمون الخالق سبحانه عز وجل ونبيه عليه الصلاة والسلام بالتهور والاختلال والمشاركة في جريمة قتل المومنين، مثلما يقذفون المقاومة بالجنون والاختلال والحمق، في مواجهتها لكيان متغطرس غاصب مجرم مُدَعَّم من كل قوى الاستكبار العالمي. فتعالى الله عن هذا الوصف، بل هو الحق، وأمره حق، وقوله حق، وهو القائل: “وأعدوا  لهم ما استطعتم من قوة”، ولم يقل وأعدوا للعدو قوة متساوية مع قوته!

لهؤلاء المثبطين أقول:

✅ لو كنتم زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لأحبطتم غزوة بدر، وحرمتم الأمة من يوم الفرقان

✅ لو كنتم زمن عمر رضي الله عنه لأحبطتم معركة القادسية واليرموك، ولبقي أهل فارس يعبدون النار، والبزنطيين يعيثون فسادا في الشام.

 ✅ لو كنتم زمن صلاح الدين لأحبطتم معركة حطين، وتركتم الصليبيين يقتلون المستضعفين باسم الرب المزعوم.

✅ لو كنتم زمن قطز لاتهمتموه  بالتهور وتعريض أهل مصر لبطش التتار، ولأحبطتم موقعة عين جالوت وما تبعها من فتوحات، وربما لا زلنا اليوم عبيدا وخدمات عند التتار.

✅ لو كنتم زمن يوسف بن تاشفين لنصحتموه بلزوم ثخوم المغرب وعدم المغامرة والمقامرة بأرواح المغاربة في الأندلس.

✅ لو كنتم زمن الاحتلال والغزو الامبريالي لاعتبرتم الجهاد والمقاومة انتحارا أمام عدو يمتلك كل وسائل القوة المادية، ولأمرتم بالتسليم بأمر الواقع حتى تتكافأ الموازين.

[سنة إلهية سارية على البشرية]

 والأمثلة من التاريخ لا تعد ولا تحصى، ولا تنسحب فقط على المسلمين بل هي سُنّة إلهية سارية على البشرية جمعاء في قوله تعالى: ”أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ“. فلو أناخت الأمة الإسلامية، عبر تاريخها، سمعها لهذه الأصوات المثبطة المحبطة لما بقي لها وجود بعد مرور 15 قرنا. فطوبى لمن تشرب اليقين في كلام الله، وفي معية الله، وتشرب همة وإرادة وعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفرغ الجهده في الإعداد والأسباب، وتوكل على الحي الذي لا يموت، فلم ترعبه ولم تخفه قوة البشر مهما بلغت، فكان للحق ظهيرا، وللمستضعفين نصيرا.

 لقد كانت هذه المعاني مجرد أخبار نتسلى بها ونقرؤها في كتب السِّيَر والتاريخ، حتى شاء الله لنا في هذا الزمن الذي طغت فيه المادة والحسابات المادية، وأصبح فيه التعلق بالغيب تخلفا وخرافة، أن ننتقل من علم اليقين وحق اليقين إلى عين اليقين. جزى الله عنا المجاهدين المقاومين في فلسطين خير الجزاء على هذا البيان المنظور الذي يزيدنا يقينا في الكتاب المسطور؛ رجال ونساء رابطوا وأعدوا وخططوا وصنعوا وصبروا وعزموا فتوكلوا على ربهم، ليعلموا مليار ونصف مليار مسلم، وفي بقعة صغيرة محاصرة، ورغم الاحتلال وتكالب العالم، أن المعادلة لا تقوم على التكافؤ الأعداد والجغرافيا وما يمتلكه العدو من أسلحة ردع برية وجوية وبحرية، تقليدية ونووية وبيولوجية، وإنما المعادلة تقوم على  الإيمان بالله واليقين في الله اولا، ثم الإيمان بعدالة القضية ثانيا، ثم ثالثا  على التوزين الذاتي وعدم التعويل على الخارج ( أقصد بالخارج الدول الغربية والأنظمة العربية العميلة، أما أحرار الأمة من أفراد وهيئات فهم جزء من الذات ولهم واجب ومسؤولية النصرة).

فوحدها القلوب الموصولة بهامات التاريخ من أنبياء وفاتحين وملهمين، القادرة على تعطيل قاعدة التكافؤ بين الحق والباطل لصالح قاعدة :” بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ” مهما كان حجم الباطل. وتعطيل التكافؤ بين الخبيث والطيب لصالح قاعدة ”قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون“، ثم تعطيل التكافؤ بين القلة والكثرة لصالح قاعدة ”كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.“ إننا أمام معايير الغيب موازين القسط الربانية التي لا قِبَلَ لأطر العقل المعاشي بها.

 فاللهم ارزقنا اليقين فيك، وفي كتابك، وفي موعودك، وارفع عنا يا الله الوهن واشفنا من حب الدنيا وكراهية الموت، واقذف في قلوب أعدائنا المهابة، وانصرنا بالرعب، وهيئ لنا كل أسباب النصر، وأخرجنا من أحوالنا وقواتنا وأدخلنا في حولك وقوتك، إننا لا نحسن التدبير وانت المدبر الحكيم، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


(*) دكتور في الفلسفة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل، القنيطرة، المغرب.

اترك تعليق