سُنَن قيام الأُمم (2-2) – دراسة

بقلم أ.د. فتحي حسن ملكاوي*

ثالثاً: القِيَم في سُنَن قيام الأُمم

  1. 1. السُّنَن والقِيَم والـمُقوِّمات

انتهى بنا الحديث عن السُّنَن إلى أنَّـها قوانين جعلها الله تعالى في صفات مخلوقاته وفي سلوكها، سواء كانت هذه الـمخلوقات من الأشياء والأحياء وما ينتابها من ظواهر وأحداث وتغيُّرات أو من الأقوام والأُمم البشرية وما تقوم به من أفعال، ومن نتائج هذه الأفعال. وقد بيَّن الله سبحانه بعض هذه السُّنَن بياناً صريحاً، فقال في كتابه العزيز: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح: 23]. ثـمَّ أكثر الله سبحانه من الدعوة إلى اكتشاف بعض هذه السُّنَن بالسَّيْر والنظر، وبالتعقُّل والتفكُّر، فقال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام: 11].

ويُمكِننا استثمار التعبير عن السُّنَّة بالقانون، كما وجدنا ذلك عند أمثلة من العلماء، لا سيَّما فخر الدين الرازي، ومحمد عبده، وابن عاشور، وعبد الكريم زيدان، مع ضرورة التمييز بين القانون الطبيعي الذي وضعه الله سبحانه في الـمخلوقات (سواء في الأشياء المادِّية في الكون الطبيعي والحيوي أو في العلاقات والسلوكات والتغيُّرات في حياة الأفراد والأُمم في الجنس البشري) والقانون الوضعي الذي وضعه الناس، لتنظيم شؤون حياتـهم في الـمجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وهنا لا بُدَّ من ملاحظة أنَّ الأصل هو التساوق وعدم التناقض بين القانون الوضعي والقانون الطبيعي. وهذا الاستثمار يُـحتِّم السعي الـمتواصل لفهم ما بيَّنه الله سبحانه من السُّنَن (القوانين الطبيعية)، والسعي لاكتشاف ما دعا الله تعالى الإنسان إلى اكتشافه من هذه القوانين، وجعلها على اتِّساق وانسجام مع القوانين الوضعية.

وقد انتهى بنا الحديث عن الأُمَّة إلى أنَّ سُنَّة الله تعالى في التجمُّع البشري أنْ تتكوَّن القبائل والشعوب والأقوام والأُمم، وأنَّ الأُمَّة في التصوُّر الإسلامي هي الأصل في الـمسؤولية عن قيامها وبقائها، وأنَّ سُنَّة الله تعالى في الأُمم أنْ تُفرِز الأُمَّة مَنْ يَؤُمُّها ويـحكمُها وَفق عقود ومبادئ وتشريعات.

أمّا الحديث عن سُنَن قيام الأُمم فيَلزمه أنْ نتذكَّر طبيعة العلاقة بين مفهوم “السُّنَّة” ومفهوم “القيام”. وأصل “القيام” من “قَوَمَ”. وقد جاءت مشتقات هذا الأصل في القرآن الكريم مئات الـمَرّات بـمعانٍ مختلفة، منها: القَوْم، والقيامة، والقِيام، والقَوام، والقَيِّم، والقَيِّمة، والمستقيم. وقد تحدَّثْنا عن الآيات القرآنية التي وردت فيها الـمعاني الـمختلفة، وعن تصنيف دلالاتها ومعانيها ضمن عدد من الفئات، في سياق البحث في موضوع القِيَم، في عدد من البحوث السابقة (ملكاوي، 2012، ص225-237؛ وملكاوي، 2016؛ وملكاوي، 2020).

وثـمَّة علاقة وطيدة بين القِيَم والـمُثُل والأخلاق والفضائل، وغلب استعمال مصطلح “الأخلاق” بمعنى القِيَم الفاضلة، ولكنَّ ما ورد من الأحاديث النبوية عن فضائل الأخلاق ومكارمها يُؤكِّد أنَّـها صفات وخصائص إنسانية بالطبع والفطرة، جعلها الله تعالى في نفوس الناس، وجاءت الأديان لتعزيزها وتهذيبها وتوجيهها. وقد جاء الثناء على خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم بالتنويه بعظيم خُلُقه. قال تعالى: ﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ  ﱠ [القلم: 4]. وجاء في الحديث الشريف ما يُعبِّر عن مكانة مكارم الأخلاق في رسالة الإسلام بصيغة الحصر: (إنَّـما بُعِثْتُ لأُتـمِّم مكارم الأخلاق)[1] وعندما كلَّمَتْ سفّانة بنت حاتم الطائي، وهي أسيرة، النبيَّ r، فذكرت من أخلاق أبيها، قدَّر عليه الصلاة والسلام تلك الأخلاق، ومَنَّ على سفّانة، وأكرمها، وكان مـمّا قاله عنها: “خلّوا عنها، ‏فإنَّ أباها كان يُحِبُّ مكارم الأخلاق.”[2] وكان لهذا الـموقف من النبيِّ r أثرُه حين ذكرَتْ ذلك لأخيها عدي، وأقنعته بأنْ يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الـمدينة مُسلِماً.

وإذا لزم التمييز بين القِيَم والأخلاق في سياقات الاستعمال، فيكفي أنْ نقول: إنَّ القِيَم هي الـمعايير التي تحكم السلوك، والأخلاق هي السلوك نفسه.

ومع أنَّ سلوك الفرد في نفسه وفي مجتمعه تحكمه قِيَم مُعيَّنة، مثل: الصدق، والوفاء، والإيثار، والحياء، والتواضع … فإنَّ هذه الـمعاني تحمل صفات يشترك فيها أفراد الـمجتمع. ومن ثَـمَّ، فإنَّ الـمُهِمَّ في الحديث عن القِيَم هو هذه الصفة الجمعية التي يتوافق عليها الأفراد في الـمجتمع، وتضبط العلاقات التي يُفترَض وجودها فيه.

وقد نجد تأصيل مفهوم “القِيَم” ومفهوم “الأخلاق” بمرجعية دينية، فيقال: “القِيَم الإسلامية”، و”القِيَم الـمسيحية”، و”القِيَم البوذية”، لكنَّ هذا الـمفهوم يجد مرجعية قومية ووطنية كذلك؛ فكل الـمجتمعات والأُمم تصوغ لنفسها قِيَماً تعتمدها، وتفتخر بها، ورُبَّـما تَدَّعي كل أُمَّة فضلَها وتـميُّزها -بـهذه القِيَم- عن غيرها من الأُمم. لذلك شاعت عبارات، مثل: القِيَم الأمريكية، والقِيَم الألمانية، والقِيَم الصينية، وغيرها. ونحن نجدها على مستوى الكيانات الإقليمية مثل “القِيَم الأوروبية”، وحتى الكيانات الدولية، مثل مؤسسات الأُمم الـمتحدة التي تتحدَّث عن “قِيَم إنسانية”، و”قِيَم عالمية”. وكل ذلك يُؤكِّد مركزية القِيَم في الوجود البشري؛ فخصوصية أيِّ مجتمع أو أيَّة أُمَّة تتجلّى في ما تعتمده أو تَتَّصِف به من قِيَم على الـمستوى الفردي، وعلى مستوى الـمجتمع والأُمَّة، سواء كان ذلك في “القيمة” التي تحملها هذه القِيَم في ذاتـها أو في ما تُحقِّقه من مصالح عاجلة أو منافع آجلة.

ومع أنَّ في الإنسان (فرداً، وأُمَّةً) ميولاً إلى التمايز بالطمع والكسب والتملُّك والأَثَرة، فإنَّ فيه (فرداً، وأُمَّةً) كذلك حرصاً ظاهراً وخَفِيّاً على الشعور بالسعادة الغامرة عندما يـميل إلى العطاء والبذل والإيثار. وقد تـمرُّ بالإنسان (فرداً، وأُمَّةً) حالات تستدعي نوعاً من السلوك يُعبِّر عن مخزونه من قِيَم مُعيَّنة. لذا، فإنَّ بعض القِيَم تتجلّى عند الحاجة إليها، وتكشف هذه الحاجة عن حضور القِيَم أو غيابها، كما ظهر ذلك واضحاً في ظروف جائحة كورونا التي مَرَّت بمجتمعات العالَـم منذ مطلع عام 2020م.

ومع ذلك، فلا بُدَّ أنْ نُقرِّر أنَّ مفهوم “القِيَم” و”الأخلاق” و”الـمُثُل” و”الفضائل” -كما قرَّرها الإسلام- هي قِيَم إنسانية عالمية، يصعب على عقلاء البشر الشكُّ في صلاحيتها للوجود البشري. وقد أوضح الـمودودي كيف أنَّ الأخلاق الإسلامية هي -بالضرورة- أخلاق إنسانية، بحُكْم أنَّها خصائص للطبيعة البشرية التي خَلَقها الله في أحسن تقويم، ولكنَّ الإسلام يُوسِّع دائرتها إلى ما بعد حدود الشعور النفسي، وتحقيق الـمصالح (الفردية، والجماعية) العاجلة في الدنيا، لتشمل القريب والبعيد على مستوى الوجود البشري والكوني، ويصل بها إلى نتائجها في ثواب الآخرة (المودودي، 1980، ص25-28).

وما يهمُّنا في سياق الحديث عن سُنَن قيام الأُمم هو ربط هذا القيام بالقِيَم والـمُقوِّمات. فقيام الشيء لا بُدَّ له من مُقوِّمات، والـمُقوِّمات في حالة الأشياء المادِّية أركانٌ وأعمدة وقواعد لا يستقرُّ كيان الشيء دون وجودها وتوازنها. قال الأفوه الأودي:

وَالْبَيْتُ لا يُبْتَنى إِلّا لَهُ عُمُدٌ         وَلا عِمادَ إِذا لَمْ تُرْسَ أَوْتادُ

والـمُقوِّمات في حالة الكيانات الاجتماعية شروطٌ ومواصفات وقوانين ومؤسسات، فهي من ثَـمَّ سُنَن الله تعالى في الاجتماع البشري. غير أنَّ الرابط بين مُقوِّمات الكيان الاجتماعي هو القِيَم التي تضبط هذه الشروط والقوانين والمؤسسات، وتحكم علاقات الناس في داخل الـمجتمع، وعلاقة الـمجتمع بالمجتمعات الأُخرى. وتأخذ القِيَم معناها من كونها معايير وضوابط لسلوك الأفراد في الـمجتمع، وتَتَّصِف هذه القِيَم بقَدْرٍ من الثبات والاستقرار في بُعْدها النظري، وبشيءٍ من الـمرونة والنسبية في بُعْدها التطبيقي العملي. وبوجه عام، تُصنَّف القِيَم وَفق أُسس مختلفة، مثل: الـمحتوى، والمقصد، والوضوح، والشِّدَّة، وغير ذلك.

ونحن نُفضِّل أنْ يكون منهجنا في الحديث عن القِيَم والـمُقوِّمات مُستمَدّاً من فهمنا لِما ورد في القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية -بطبيعة الحال-، بوصفها بياناً للقرآن الكريم. فجذر “القِيَم”، وهو “قَوَمَ”، ورد في القرآن الكريم، ووردت مشتقاته في القرآن الكريم ستمئة وتسع وخمسين مَرَّةً، منها: قام، وأقام، وقيام، وقائم، وقَيّوم، وقِيَم، وقَيِّم، وقَوَام، وتقويم، ومستقيم، وقيامة، وقَوْم. وجِماع الـمعاني اللغوية في أصولها القرآنية تشير إلى أنَّ الكون كلَّه قائم على نظام تتقوَّم به أشياؤه وظواهره، وأنَّ حياة الإنسان في الكون تتقوَّم بمنظومة من القِيَم تُحدِّد تصوُّراته وعلاقاته وأعمالَه الظاهرة والباطنة. فكما أنَّ رؤية العالَـم عند الـمُسلِم تتضمَّن نظاماً في الاعتقاد يُنشِئ تصوُّرات الإنسان وعباداته، ونظاماً في الـمعرفة يُنشِئ التشريعات والعلاقات، فكذلك تتضمَّن هذه الرؤية نظاماً للقِيَم تتحدَّد به دوافع السلوك والعمل (ملكاوي، 2008، ص5-22).

وتأصيل سُنَن الله الكونية في قيّوميته التي تتجلّى في كل ما خَلَق الله سبحانه؛ فالنظام الذي تقوم به هذه الـمخلوقات هو آيات النظر والتعقُّل والتفكُّر، ومن هذه الآيات -مثلاً- قيامُ السماوات والأرض بأمره سبحانه. قال تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱠ [الروم: 25]؛ أيْ تثبت، وتستقرُّ في وجودها وحركاتها وتغيُّراتها وَفق النظام الكوني. فمعنى “القيام” هنا هو البقاء الكامل … الـمُعبَّر عنه في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ  ﲅ ﲆ ﲇﱠ [فاطر: 41] … والأمر الـمضاف إلى الله تعالى هو أمره التكويني؛ وهو مجموع ما وضعه الله تعالى من نظام العالَـم العلوي والسفلي، ذلك النظام الحارس لهما من تطرُّق الاختلال، بإيجاد ذلك النظام. ولفظ “بأمره” مُتعلِّق بفعل “تقوم”، والباء للسببية (ابن عاشور، 1984، ج21، ص80). والقيام يتمُّ بمُقوِّمات، ومُقوِّمات الشيء وقِوامه؛ أي ما يتكوَّن به كيان ذلك الشيء، فتعطيه خصائصه التي تُميِّزه عن غيره من الأشياء. لذا، فإنَّها تتصف بقَدْر كبير من الثبات والاستقرار والدوام.

إنَّ مُقوِّم الشيء عنصر أساسي لا بُدَّ منه لوجود الشيء كاملاً وتامّاً، وقد أوضح ابن عاشور كيف أنَّ السُّنَّة التي شرعها الله تعالى في بعض العلاقات الاجتماعية تقتضي الوجود الكامل والتامَّ لهذه العلاقة، وذلك في حديثه عمّا شرعه الله تعالى في أمر الشهادة على الوصية، بتفاصيل دقيقة تستهدف أنْ تقوم الشهادة على وجهها. فالسُّنَّة التي أرادها الله سبحانه في هذا التشريع هدفُها أنْ تأتي الشهادة على وجهها؛ “أيْ على سُنَّتها، وما هو مُقوِّم تـمامها وكمالها” (ابن عاشور، 1984، ج7، ص93). وقد استعمل ابن عاشور هنا لفظ “السُّنَّة”؛ أي الطريقة الـتي شرعها الله سبحانه في تفاصيل أداء شهادة الشاهدين. ولهذه الشهادة مُقوِّمات، ومجيئها على السُّنَّة أو الطريقة التي شرعها الله سبحانه واحدٌ من مُقوِّمات تـمام الشهادة وكمالها.

وتصوُّرنا البشري الذي تهدي إليه آيات القرآن الكريم يقوم على مُقوِّمات، أهمُّها الإيمان بالغيب، ويتضمَّن ذلك وجود الله سبحانه ووحدانيته وقيّوميته، لكنَّنا مهما عدَّدْنا من هذه الـمُقوِّمات، فإنَّ أيّاً منها مُنفرِداً لا يقوم وحده، وإنَّـما يؤدّي مهمته عندما يكون إلى جانبه غيره من الـمُقوِّمات، وإلّا فإنَّ الكيان لا يكون كياناً سليماً يَتَّصِف بالتكامل والتوازن والاستقرار، مثلما أنَّ أيَّ عمود من أعمدة البناء لا يقوم بالبناء وحده، وإنَّـما يقوم بمهمته مع الأعمدة الأُخرى.

والإيمان بالغيب هو أوَّل مُقوِّم من مُقوِّمات إيمان عباد الله الذين يَتَّصِفون بالتقوى، ولذلك جاء في مطلع آيات سورة البقرة من صفات الـمؤمنين الـمُتَّقين: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة: 3]. أمّا الصفات والخصائص والـمُقوِّمات الأُخرى فتأتي بعد ذلك.

فسُنَّة الله سبحانه أنْ تقوم أمور العالَـم الطبيعية والاجتماعية على أساس مُقوِّماتٍ، وكل مُقوِّم منها هو قيمة في حَدِّ ذاتـه؛ لِـما لـه من فضل ومكانة وقيمة في أنَّـه الضابط والمعيار في الوجود والسلوك. وهذه القِيَم كثيرة، ولها تفاصيل وأمثلة وشواهد، ولكنَّنا سنحاول تحديد ما يُمكِن أنْ تكون قِيَماً عُليا حاكمة، تتفرَّع من كلٍّ منها مجموعةٌ من القِيَم الفرعية.

ونحن نرى أنَّ ارتباط السُّنَن والقِيَم والـمُقوِّمات هو ارتباط وجودي في طبائع ما خَلَق الله سبحانه، ولكنَّ الإنسان هو الـمُستهدَف في إدراك هذا الارتباط وفهمه وتوظيفه. فالله سبحانه خَلَق الإنسان، وزوَّده بمبادئ العِلْم والمعرفة التي يحتاج إليها في حياته، وبالضوابط التي تَلزمه في سلوكه وتعامله مع الوجود الكوني والبشري، وبِـمَلَكة التطلُّع إلى مزيد من العِلْم والمعرفة بكسبه واجتهاده، وكانت النتيجة أنَّ هذا الإنسان قد اهتدى وضلَّ، وعَلِم وجَهِل، وأصاب وأخطأ. وقد تفضَّل الله تعالى على الإنسان في مسيرة حياته بإرسال الرُّسُل والأنبياء لهدايته، وكانت كل هذه الرسالات تُقدِّم له معرفة يقينية حاسمة في مسألة “الوجود”، وهي الـمسألة التي تشعَّب فيها تفكير الإنسان في مجالات الدين والفلسفة والعِلْم.

وخُتِم الهدي الإلهي برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعه كتاب مقروء محفوظ، فيه خبر السابقين، والحُكْم ما بين الحاضرين واللاحقين، في الأمور الخاصّة والعامّة، والمسائل الجزئية والقضايا الكلية. وفيه بيان صريح واضح عن القضية الكبرى التي كان دين الله يتناولها في كل الرسالات، وهي الرؤية الكلية التي تجمع مفاهيم الدين الكبرى ومقاصده الأساسية في حياة البشر؛ إذ تُقدِّم هذه الرؤية للإنسان منظومة من الوعي والإدراك عن الحقيقة الكبرى في الوجود، وهي أنَّ ثـمَّة وجودين: وجود الله سبحانه، وهو واحد خالق مُدبِّر، ووجود الـمخلوقات، وهي كلّ ما عدا الخالق. ويتميَّز من بين هذه الـمخلوقات وجودُ الإنسان الـمُستخلَف، في كلّ ما عداه منها.

وهكذا يتبيَّن لنا أنَّ الرؤية الإسلامية الكلية للعالَـم هي رؤيةٌ لله الخالق الواحد سبحانه، ورؤيةٌ للكون الـمخلوق، ورؤيةٌ للإنسان الـمُستخلَف. وخطاب هذه الرؤية مُوجَّه إلى هذا الإنسان؛ ليُدرِك وجود الخالق، ووجود نفسه، ووجود الـمخلوقات التي يصل عِلْمه إليها، بالدليل النقلي أو الدليل الحِسّي، وعقل الإنسان أداة في كلا الدليلين. فالإنسان خليفة في كل ما عداه من الـمخلوقات؛ فهو مُـمكَّن فيها، وهي مُسخَّرة له. ووظيفة الإنسان في الحياة هي حمل الأمانة، وأداء العبادة، وتحقيق الخلافة والعمران.

وبهذا الفهم نستطيع أنْ نُـميِّز بين ثلاثة مُقوِّمات في رؤية العالَـم هذه، وكل مُقوِّم منها يُعَدُّ قيمةً في حَدِّ ذاته، وقيمةً في ما يَتَّصِل بالـمُقوِّميْنِ الآخرينِ، وفي قيام الحياة البشرية وتقييمها وتقويمها. وهذه الـمُقوِّمات الثلاثة هي: توحيد الله سبحانه، وتزكية الإنسان الـمُستخلَف، وعمران الأرض. فالتوحيد والتزكية والعمران هي الـمُقوِّمات الثلاثة لدين الله سبحانه، وهي قِيَمٌ تضبط وَعْيَ الإنسان وسعْيَه، وهي مقاصد الدين الأساسية. وتنبثق عن هذه الـمُقوِّمات الثلاثة، وتتفرَّع منها، سائرُ الـمُقوِّمات والقِيَم والمقاصد التي تشمل تفاصيل الوجود الإنساني في حياة الفرد، وفي نتائج سعيه في هذه الحياة. وقد سبق أنِ اجتهدْنا في بيان الصلة بين القِيَم والمقاصد في منظومة القِيَم العُليا (ملكاوي، 2019)،[3] ونجتهد الآن في بيان الصلة بين عناصر هذه الـمنظومة وسُنَن الله سبحانه في قيام الأُمم.

  1. 2. موقع منظومة القِيَم العُليا في بناء الأُمم:

سُنَّة الله سبحانه في قيام الأُمم أنْ يتوافر للأُمَّة عدد من مُقوِّمات الوجود والاستمرار والبقاء. ولكل مُقوِّم من هذه الـمُقوِّمات قيمته ومهمته؛ فوجوده معيار للوجود، وغيابه يُضعِف الكيان الـموجود، أو يُسهِم في محوه من الوجود. وهذه سُنَّة الله تعالى في وجود كل الأُمم.

وسنختار أنْ نتحدَّث عن ثلاثة مُقوِّمات تُعَدُّ الأركان الأساسية للوجود والبقاء، وهي: وحدة الأُمَّة، والخصائص النفسية والاجتماعية بين أفرادها وجماعاتها، ونوعية النُّظُم والتشريعات التي تحكمها. وعندما نتحدَّث عن الأُمَّة الإسلامية تحديداً، فإنَّ هذه الـمُقوِّمات الثلاثة هي:

  • وحدة الأُمَّة في وجودها ومرجعيتها وخصائصها. والأُمَّة الإسلامية تقوم وتتقوَّم أوَّلاً بعقيدة التوحيد وتـمثُّلاتـها في فكر الأُمَّة وحياتـها.
  • قوَّة الخصائص الـمُميِّزة للأمَّة، وتتمثَّل في حالة الفرد الـمُسلِم والمجتمع الـمُسلِم، فنجد أنَّ هذه الخصائص تقوم وتتقوَّم بالتزكية للنفس، والمشاعر، والعلاقات، والممتلكات.
  • نوعية النُّظُم والتشريعات التي تحكم حياة الأُمَّة، وما تؤدّي إليه هذه النُّظُم والتشريعات من إنجازات البناء والعمران في الـمجالات المادِّية والمعنوية.

ونختصر القول في هذه الـمُقوِّمات بقِيَم ثلاث، هي: التوحيد، والتزكية، والعمران، في صورة منظومة مُتكامِلة، لا يُغْني واحدٌ منها عن غيره، وهي تعمل معاً بصورة دائمة، ولكنَّها ليست مُتكافِئة؛ فالتوحيد أعلاها، والقيمتان الأُخريان تستندان إليه. ونصطلح على تسميتها: منظومة القِيَم العُليا؛ فليس ثمَّة ما هو أعلى منها في القيمة والأهمية، فهي التي تعطي لأمَّةٍ وجودَها وخصائصها وحضورها وإنجازاتها.

ومن ثَمَّ، فإنَّ واقع الأُمَّة الإسلامية ومدى اتِّصافها بالصفة الإسلامية، إنَّـما يُقاس بحضور هذه القِيَم وتجلِّياتها. وأيُّ قصور في هذا الحضور أو خلل في ظهور هذه التجلِّيات، يعني الحاجة إلى إصلاح البناء أو إعادة البناء من جديد؛ ذلك أنَّ سُنَّة الله تعالى في قيام الأُمَّة وبقائها هي وحدتُـها، وتفرُّقها يعني فشلها وذهاب ريـحها. وسُنَّة الله في تـماسك الأُمَّة هي عمق مشاعر الودِّ والرحمة، وعلاقات التكامل والتكافل بين أفرادها، وغياب هذه الـمشاعر والعلاقات نذير الفشل في بناء الأُمَّة. وسُنَّة الله تعالى في اجتماع كلمة الأُمَّة على نُظُم الإدارة والحُكْم التي تضمن استثمار طاقات أفرادها وجماعاتها في امتلاك عناصر القوَّة، وتواصل خُطَط التنمية والتطوير والتقدُّم، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بضمان الحرية وإقامة العدل؛ فالظلم والاستبداد مُؤذِن بخراب العمران المادي والمعنوي.

أ. التوحيد الـمُقوِّم الأوَّل في قيام الأُمم:

إنَّ مصطلح “قيام الأُمم” في السياق الذي نتحدَّث عنه يعني وجود الأُمَّة في حالة من الوجود الـمستقل والقوي والفاعل والقائم على تحقيق مراد الله سبحانه في توفير “الـمُقوِّمات” الـمادِّية والمعنوية للحياة الكريمة للناس، وعمران الأرض، والقيام على توظيف طاقاتها الـمُسخَّرة في جلب الـمصالح ودرء الـمفاسد.

ويعني الوجود الـمستقل للأُمَّة أنْ تكون كل شؤونـها بيدها لا بيد غيرها؛ سياسةً، واقتصاداً، وعِلْماً، وتعليماً، ويكون ما يَلزم من علاقاتها بغيرها محكوماً بقرارها في تبادل الـمنافع والمصالح، وأنْ تكون حاجة غيرها إليها هي أساس العلاقة، وحاجتها إلى غيرها في استكمال ما يكون لديها من نقص، وتقديم ما عندها من خير. ومن ثـَمَّ يكون استقلال الأُمَّة تعبيراً عن قوَّتها وكرامتها وهيبتها بين الأُمم، وفاعليتها في توظيف الإمكانيات والموارد، وخصائصها في البناء القِيَمي والأخلاقي.

وإذا لم تكن الأُمَّة في مثل هذه الحالة من القيام الـمستقل في القوَّة المادِّية والأخلاقية، بل يتحدَّد أمرها ومواقفها وشؤونها من خارجها، ويكون وجودها مُعتمِداً على الوجود الـمادي والمعنوي لغيرها؛ فإنَّ هذه الأُمَّة لا قيمة لوجودها، وهي تفتقد مُقوِّمات بقائها، وليست في حالة قيام يمتنع عن السقوط، وإنَّما هي في حالة قعود عن اكتساب مُقوِّمات القوَّة والـمَنَعة، وتخلُّف عن مقام العِزَّة والكرامة. وقد جعلت أساليب البيان العربي أشدَّ صيغ الهجاء للإنسان الذي لا يعمل على توفير طعامه وكسائه، فيكون قاعداً عن الـمكارم.[4]

وإذا كان قيام الأُمم، إنَّـما يكون وَفق السُّنَن التي جعلها الله تعالى لهذا القيام، كما هو الحال في قيام كل أمر من أمور الوجود، فإنَّ هذه السُّنَن تُعبِّر عن وجود “الـمُقوِّمات” اللازمة لكل “قيام” مادي أو معنوي. ومن سُنَّة الله تعالى في قيام أيّةِ أُمَّة أنْ تَتَّصِف بوحدة الكيان وترابطه وتماسكه، بما يتوافر من حرص كل مُكوِّن من مُكوِّنات الكيان؛ أفراداً، وجماعاتٍ، على رعاية الـمصالح العُليا لهذا الكيان؛ فأُمَّة الـمؤمنين تكون علاقة أفرادها في بناء الأُمَّة بوصفها عناصر البناء “الواحد” يشدُّ بعضه بعضاً،[5] فتتماسك بِنيته، ويظهر استقراره وقوَّته، ومثَلُهم في الـمشاعر الـمُتبادَلة بينهم مثلُ الجسد “الواحد”، في ترابط أعضائه، وقيام كلٍّ منها بوظيفته، وأيُّ خلل في أيِّ عضو ينعكس على الأعضاء كلها.[6] وصفة الإيمان بين أفراد الأُمَّة الـمؤمنة توجِب علاقة الأُخوَّة التي تستدرك أيَّ خلل، وتُصلِح أيَّة خصومة. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].

إذن، قيمة التوحيد تُعبِّر عن سُنَّة الله سبحانه في وجود الأُمَّة وقوَّتها وكرامتها. ولا عجب في ذلك في التفكير الإسلامي؛ إذ التوحيد هو الـمُقوِّم الأوَّل في كل ما يَتَّصِل بالإسلام، فهو الـمُقوِّم الأوَّل للعقيدة، والـمُقوِّم الأوَّل للنظام العام في وجود الأُمَّة معرفياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والـمُقوِّم الأوَّل للنفس الإنسانية في إيمانها وسلوكها وأخلاقها ومشاعرها.

فقيام الأُمَّة واستمرارها يخضع لسُنَّة الله سبحانه التي تتجلّى في شرط وجودها مُجتمِعة معاً على توحيد الله ومنهاجه وسُنَنه. والذين يتفرَّقون شِيَعاً، فإنَّ سُنَّة الله ألّا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم في شيء. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). [الأنعام: 159]. وسُنَّة الله في حياة الأُمَّة أنَّ التفرُّق والتنازع يتناقضان مع طاعة الله ورسوله، ويكون مصيرهما الفشل وذهاب القوَّة والهيبة. قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين) [الأنفال: 46]. قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: “التنازع من شأنه أنْ يَنْشأ عن اختلاف الآراء، وهو أمر مُرتكِز في الفطرة … والفشل: انحطاط القوَّة … تمثيلاً لحال الـمُتقاعِس عن القتال بحال مَنْ خارت قوَّته، وفشلت أعضاؤه، في انعدام إقدامه على العمل … فيصرف الأُمَّة عن التوجُّه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم، فيتمكَّن منهم العدوُّ، …. والمعنى: وتزول قوَّتكم ونفوذ أمركم، وذلك لأنَّ التنازع يُفْضي إلى التفرُّق، وهو يوهِن أمر الأُمَّة” (ابن عاشور، 1984، ج10، ص31-32). أمّا في الآخرة، فإنَّ سُنَّة الله سبحانه في الذين يتفرَّقون ويختلفون في أمر دينهم بعد أنْ جاءتهم البيِّنات أنْ ينتهي أمرهم إلى عذاب عظيم. قال تعالى: ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 105].

ولا شكَّ في أنَّ الأُمَّة الواحدة يكون فيما بين أفرادها وجماعاتها من الـمودَّة والرحمة والأُلفة والوفاء ما يُقوّي عزائمهم، ويقف فيها كلُّ فرد على ثَغرة من الـمسؤولية والرعاية، ويصبح كلُّ فرد فيها بمنـزلة الراعي لشؤون الأُمَّة جميعها، لا سيَّما أنَّ مفهوم “الرعاية” لا يختصُّ بفرد دون آخر؛ فكلُّ فرد في الأُمَّة راعٍ، فالرجل والمرأة مسؤولان عن الأُسرة، وكلٌّ منهما قد يكون له مهمة خارج الأُسرة؛ رئيساً أو مَلِكاً أو وزيراً أو مديراً أو مُزارِعاً أو صانعاً أو تاجراً أو معلماً… وكل راعٍ مسؤول عن رعيَّته.

وقيمة التوحيد في الرؤية الإسلامية لا تقتصر على الجانب الاعتقادي الذي يُعبِّر عن توحيد الله سبحانه في أُلوهيته وربوبيته وصفاته، وإنَّما يمتدُّ ليكون له تجلِّياته في حياة الـمؤمنين به في جميع مجالاتها. وقد اجتهد كثير من العلماء -في القديم والحديث- في الكشف عن هذه التجلِّيات، بل إنَّ التوحيد يُمثِّل قيمة عُليا لها تجلِّياتها في جميع الأنظمة التي تُعبِّر عن وجود الأُمَّة الواحدة:

في نظامها الـمعرفي؛ إذ يتجلّى ذلك في الـمرجعية التوحيدية في مصادر الـمعرفة وأدوات اكتسابها وتوظيفها وَفق منهجية التكامل الـمعرفي.

وفي النظام الاجتماعي، بوحدة الـمرجعية في الحقيقة والقِيَم التي تُحقِّق السلام الاجتماعي، وتُوسِّع دائرته لوحدة الاجتماع البشري.

وفي النظام السياسي؛ إذ يتجلّى التوحيد في وحدة الأُمَّة في نظامها، ورؤيتها للعالَـم، وتعاملها مع الوقائع، وتوفير الكرامة والحرية والتعاون والتكامل.

وفي الـمجال الاقتصادي؛ إذ تتجلّى قيمة التوحيد في العلاقة الـمُتوازِنة بين الـمادي والروحي، وتكامل مبادئ الاقتصاد وأخلاقيات الإنتاج والاستهلاك.

وفي النظام الجمالي الذي تغيب فيه الفنون التشخيصية تعبيراً عن التوحيد الـمُطلَق، وابتداع تعبيرات لِما لا يُمكِن التعبير عنه، فتكون قمَّة الوعي بالجمال أنَّ الله الواحد يتعالى على الـمِثْل والشبيه.

وقد وعى الصحابة هذا الجمع بين مجموعة الـمُقوِّمات التي تقوم بها الأُمَّة؛ لا سيَّما موقع التوحيد بين هذه الـمُقوِّمات؛ إذ يُروى أنَّ عمر بن الخطاب t مَرَّ بمعاذ بن جبل t، فقال: ما قِوام هذه الأُمَّة؟ قال معاذ: ثلاث، وهُنَّ الـمنجيات: الإخلاص، وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها. والصلاة، وهي الـمِلَّة. والطاعة، وهي العصمة. فقال عمر: صدقت” (المتقي، 1985، كتاب: الـمواعظ والرقائق والخطب والحكم/ قسم الأفعال، ج16، ص231). وقد علَّق ابن عاشور على هذا الأثر، فقال: يريد معاذ بالإخلاص التوحيد، كقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة: 5] (ابن عاشور، 1984، ج22، ص92).

ب. التزكية الـمُقوِّم الثاني في قيام الأُمم:

“التزكية” مصطلح ومفهوم قرآني مركزي، يَتَّخِذ موقعاً مُهِمّاً ضمن منظومة القِيَم القرآنية؛ فالتزكية موضوعها الإنسان الـمُستخلَف، وهو موضوع الإصلاح في الواقع الإنساني؛ إصلاح الفرد والجماعة والأُمَّة. والإنسان مادَّة وروح، والتزكية تشمل المادَّة والروح. وأيُّ حديث عن قضايا الإصلاح لا معنى له إلّا إذا تعلَّق بالإنسان، واستهدف ترقيته في مراتب التزكية، فهي ليست مسألة مشاعر وخلجات وخواطر نفسية مقصورة على مستوى الإصلاح الفردي، بل تدخل في صميم البناء الاجتماعي والعمران البشري. وسنرى لاحقاً كيف أنَّ التزكية هي هدف العمران ووسيلته.

ولا شكَّ في أنَّ التوحيد هو رأس الأمر في التفكير الإسلامي، وأساس البناء في الحضارة الإسلامية، لكنَّ قيمته -في حياة الإنسان- رُبَّـما تبقى حبيسة التجريد الفكري والتصوُّر الغيبي إذا لم تنبثق عنه تزكية الإنسان في عقله وقلبه ومشاعره، وفي معاملاته وأنماط سلوكه. وهذه التزكية ليست زهداً يكتفي فيه الفرد الإنساني بأخذ الحَدِّ الأدنى من مُقوِّمات الحياة دون أنْ يضيف إلى الحياة شيئاً، وإنَّما هي تزكية استخلافية عمرانية، تتجلّى فيها حيوية ذلك الفرد وإسهامه الفاعل في تحقيق الاستخلاف البشري والعمران الحضاري. وهي تزكية للفرد؛ ليكون أساساً لتزكية الجماعة والأُمَّة، ثمَّ تكون هذه التزكية قيمة من القِيَم العُليا في وجود الأُمَّة وتماسكها وبقائها.

وقد جاءت ألفاظ التزكية في القرآن الكريم في خمسة مجالات، واحد منها هو التزكية المذمومة حين يُزكّي الإنسان نفسه بما ليس فيه من الخير، والله أعلم به، وأربعة منها محمودة. وأوَّل صور التزكية التي أعلى الله سبحانه من شأنـها هي التي يصطفي فيها سبحانه مَنْ يشاء مِنْ عباده، فيختصُّه بالتزكية، كما زكّى الله تعالى نبيَّه يحيى عليه السلام: (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا) [مريم: 12-13]، وكما زكّى الله تعالى نبيَّه عيسى عليه السلام: (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) [مريم: 19]. ولا شكَّ في أنَّ تزكية الأنبياء كانت بالاصطفاء الإلهي، لا بالتعلُّم والممارسة البشرية.

وثاني صور التزكية المحمودة هي التي يكتسب فيها الإنسان صفة التزكية بمجاهدة النفس الإنسانية وتطهيرها، وترقية المشاعر النفسية والعلاقات الاجتماعية، فيكون من ذلك فلاح الإنسان. وقد جاء أطول قسم في القرآن الكريم في سورة الشمس، على فلاح مَنْ يُزكّي نفسه، بكَفِّها عن نـزواتها: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 9-10]. وظهرت هذه التزكية في احترام خصوصيات البيوت والمنازل بما هو أزكى للعلاقات الاجتماعية: (فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [النور: 28]. وغضُّ بصر المؤمنين والمؤمنات وحفظ فروجهم سبيلٌ إلى تزكية النفس وتطهيرها من أسباب الفتنة، والوقوع في الفاحشة، وما قد ينتهي إليه عدم طاعة أمر الله سبحانه من فساد العلاقات الاجتماعية: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور: 30]. والله سبحانه وتعالى يُذكِّر بضرورة تزكية العلاقات، وتطهير المشاعر، وتزكية العلاقات عندما تقع حالات الخلاف بين الزوجين، وتنتهي بالطلاق، فلا يكون الخلاف سبباً في إيقاع الظلم، وتقطيع الرحم: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 232].

وثالث صور التزكية التي وردت في القرآن الكريم هي جعل التزكية واحدةً من أربع مهام للرسول r؛ فقد دعا إبراهيم u ربَّه أنْ يبعث في ذُرِّيته نبيّاً يتلو عليهم آياته، ويُعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويُزكّيهم: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 129]. وقد تفضَّل الله سبحانه، فاستجاب الدعاء، ومَنَّ الله تعالى على الأُمَّة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل مهمة التزكية في المرتبة الثانية بعد تلاوة الآيات، وقبل تعليم الكتاب، وتعليم الحكمة: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران: 164]، مع أنَّ التزكية في دعاء إبراهيم u كانت المهمة الرابعة. ونُلاحِظ هنا أنَّ مهمة النبيِّ في التزكية هي تزكية جماعية للأُمَّة، وأنَّها لا تقتصر على التزكية الفردية التي انتشر مفهومها في بعض دوائر التصوُّف.

ورابع صور التزكية المحمودة هي تزكية المال بأشكاله المختلفة؛ في وسائل اكتسابه، وفي طرق إنفاقه، وفي إيتاء زكاته، فيكون في ذلك تزكية للنفس، وتطهير لها من الشُّحِّ، ومن ثَـمَّ الفلاح في الدنيا والآخرة. ولكنَّها كذلك تزكية لمجموع الأُمَّة في تكافلها وتعاون أفرادها على بناء الأُمَّة الـمُتراحِمة الـمُتكافِلة. وتزكية المال تعني كل صور الممتلكات التي تَدُرُّ منفعة؛ فهي في التجارة، والصناعة، والزراعة، وغير ذلك.

والتزكية لا تقتصر على دفع النسبة (أو النسب) المفروضة، وإنَّـما هي تزكية في وسائل اكتساب المال، وطرق إنفاقه كذلك. وإذا تأمَّلْنا في مصارف الزكاة الثمانية، فإنَّنا نجد أنَّ القيمة المقصدية هنا أنْ تسدَّ حاجة كل محتاج في الأُمَّة، ثمَّ يكون سهم “في سبيل الله” مفتوحاً لكل أبواب الخير، تترقّى فيه الأُمَّة في كلِّ وسيلة من وسائل العِلْم والقوَّة والتمكين.

وقد يتبادر إلى الذهن في مفهوم “التزكية” أنَّها تُعْنى بالجانب الفردي للإنسان في مشاعره القلبية، بما يُمثِّله ذلك من مشاعر الأُلفة والوفاء والمودَّة والرحمة، لكنَّنا نجد القرآن الكريم يُؤكِّد أنَّ تزكية الفرد تـمتدُّ إلى تزكية الجسد والقلب والعقل؛ ليكون كل فرد لَبِنَةً في بناء كيان الأُمَّة. وقد أدّى النبيُّ r مهمته في تزكية الأُمَّة في هذه المجالات كلها، بصورة أصبحت تزكيته هي الأُسوة الصالحة في سبيل احتفاظ هذه الأُمَّة بمقام التزكية. أمّا المهام الثلاث الأُخرى للنبيِّ r فكانت: تلاوة الآيات، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة. وهي تتكامل مع مهمة التزكية في توفير المنهج التربوي الصالح لجعل الأُمَّة خير أُمَّة أُخرِجت للناس. ونحن نرى أنَّ هذا المنهج التربوي للأُمَّة يتكامل في تحقيق تزكيتها عبر ثلاثة أنواع، هي: التزكية بالإيمان والأخلاق، والتزكية بالعِلْم والحكمة، والتزكية بالشريعة والنظام.

ت. العمران الـمُقوِّم الثالث في كيان الأُمَّة:

العمران في القرآن الكريم واحد من القِيَم المقاصدية العُليا في وجود الإنسان في هذه الحياة، لذلك جاء لفظ “العمران” بمجموعة من الدلالات، منها: عمران الحياة نفسها، وعمران المكان، وعمران الأُمَّة في اجتماعها البشري بنوعيه: المادي والمعنوي. فعمران الحياة للفرد بوجوده الحي، وعمران الحياة للأُمَّة بقوَّتها وفاعليتها وحضارتها، وإذا لم يتوافر عمران الحياة هذا للفرد والأُمَّة فهو الموت والغياب والخراب. وجاء لفظ “العمران” منسوباً إلى المكان الذي قد يكون قريةً، أو مدينةً معمورةً بالناس، أو بيتاً مسكوناً بأهله، أو أرضاً مُستصلَحةً نافعةً. وجاء هذا اللفظ أيضاً بمعنى العمران المادي للمباني والطرق ووسائل النقل والتواصل، وعمران الأرض بالسعي في مناكبها؛ زراعةً، وصناعةً، وتجارةً، وتقانةً. فإذا لم يكن هذا العمران، وعُطِّلت الأرض عن الإنتاج، وكُفَّت أيدي الناس عن العمل، وسادت الفاقة، وانتشرت الأمراض؛ فهو الخراب الذي يتناقض مع مقصد العمران. أمّا العمران المعنوي فلا يقلُّ أهمية عن العمران المادي، وهو يتمثَّل في صور مُتعدِّدة من العِلْم والفكر والثقافة، وإنشاء المؤسسات، وسَنِّ القوانين، وتطوير نُظُم الإدارة والحُكْم، وبناء الحضارة. فإذا لم يتوافر هذا العمران، فإنَّ البديل هو الجهل والأُمِّية، وانتشار الفوضى والفساد، وعموم الظلم والاستبداد.

وحين خلق الله سبحانه الإنسان، وأسكنه هذه الأرض، فإنَّه سبحانه قد يسَّر له أسباب وجوده فيها، وأعلمه بمُقوِّمات هذا الوجود، فأمره أنْ يسعى في مناكب الأرض، ليحصل على ما قَسم له من الرزق بصوره الـمُتعدِّدة. وزوَّده بالتمكين العقلي والعملي، ليكسب بذلك معايشه. قال تعالى: ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) [الأعراف: 10]. بل إنَّ كل ما في الأرض وما حولها مُسخَّر للإنسان. قال تعالى: ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية: 13].

وقد عبَّر الله سبحانه عمّا يجنيه الإنسان، ويمتلكه من صور المال والممتلكات، بأنَّـها رزق الله الذي يسَّره للإنسان. فالرزق هو الـمال بكل أشكاله ممّا لا وجود للبشر دونه؛ من: ضروريات الـمَأْكل، والـمَشْرب، والـمَلْبس، ومُتطلَّبات الاستقرار والسكن والحماية، وحاجيات التشريع التي تُنظِّم شؤون الضروريات، وما يَتَّصِل بها من علاقات ومعاملات، وتحسينيات الترقّي والزيادة في الـممتلكات وأساليب الحياة وأدواتها. وهذا الرزق الدنيوي يتيحه الله تعالى للإنسان بسَعْيه وحَرْثه بصرف النظر عن معتقداته وأخلاقه، فمَنْ يُرِدْ من الناس حَرْث الدنيا يُؤْتِهِ الله منها، حتى لو لم يُرِدْ شيئاً من حَرْث الآخرة. قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى: 20]. بل إنَّه سبحانه وتعالى يقول في حقِّ هؤلاء: ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) [هود: 15]. أمّا الذي يريد حَرْث الآخرة فالله سبحانه يزيد له فيه، سواء بما يُيسِّره له، ويُعِينه عليه من زيادة في أعمال الـحَرْث في الدنيا أو بـما يَدَّخِره له من ثواب الآخرة. قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ) [الشورى: 20] (ابن عاشور، 1984، ج26، ص74).

وليس أوضح من أنَّ الزرق بمعنى الـمال والممتلكات من مُقوِّمات الأُمَّة الـمُستخلَفة في هذا الـمال، من تأكيد الله سبحانه أنَّ ما يكون من مالٍ لآحاد الناس، إنـَّما هو في الأصل مالُ الله، استخلف فيه الأُمَّة كلَّها، فلا يجوز لسفيهٍ أنْ يتصرَّف فيه بِسَفَهٍ، حتى لو كان الـمالُ مالَه الخاص. وذلك قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء: 5].[7] “وقد جاء بعد هذه الآية الأمر بأنْ تُدفَع الأموال الخاصة باليتامى إليهم عندما يُؤْنَس فيهم الرشد. والسفهاء يجوز أنْ يراد به اليتامى؛ لأنَّ الصغر هو حالة السَّفَه الغالبة، … ويجوز أنْ يراد به مُطلَق مَنْ ثبت له السَّفَه، سواء كان عن صغر أو عن اختلال تصرُّف، فتكون الآية قد تعرَّضت للحجر على السفية الكبير استطراداً للمناسبة. وهذا هو الأظهر؛ لأنَّه أوفر معنى، وأوسع تشريعاً … (و) الـمال الرائج بين الناس هو حقٌّ لمالكيه الـمُختصّين به في ظاهر الأمر، ولكنَّه عند التأمُّل تلوح فيه حقوق الـمِلَّة جمعاء؛ لأنَّ في حصوله منفعة للأُمَّة كلها، … فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع الـمخاطبين؛ ليكون لهم الحق في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة. وهذه إشارة لا أحسب أنَّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآنَ إلى بيانـها … والقيام ما يتقوَّم به الـمعاش … والمعنى أنَّـها تقويم عظيم لأحوال الناس” (ابن عاشور، 1984، ج4، ص234-235).

ولا يُتوقَّع أنْ يتحقَّق العمران في الأرض وفي حياة البشر دون أنْ يسعى الإنسان ليُوفِّر مُتطلَّباته المادِّية من الأشياء والأدوات والوسائل، وكلُّها من صور الرزق والمال والممتلكات. فالعمران المادي يقوم على توظيف ما أوجده الله سبحانه للإنسان، ليسكن هذه الأرض؛ “لأنَّ في خَلْق الأرض وجميع ما فيها، وفي كون ذلك لمنفعة البشر، إكمالاً لإيجادهم …؛ لأنَّ فائدة الإيجاد لا تكمل إلّا بإمداد الـموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مُقوِّمات وجوده” (ابن عاشور، 1984، ج1، ص378).

ولم يكتفِ الله سبحانه بتيسير هذه الـمُتطلَّبات المادِّية لقيام العمران المادي في الأرض، وإنَّـما يسَّر له سُبُل تحقيق مُقوِّمات العمران المعنوي؛ من: عِلْم، وتشريعات، وتوجيهات أخلاقية. فحين أرسل الله تعالى الأنبياء بالدين القَيِّم؛ ليستقيم أمر الناس على أساسه، جعل لهم تشريعات وأنظمة هي مُقوِّمات هذا الدين، ومن ذلك بسْطُ العدل والقِسْط في حياة البشر، فقال سبحانه: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 28]؛ لأنَّ في هذا القسط “جِماع مُقوِّمات الدين الحقِّ الذي يجمعه معنى القِسْط؛ أي العدل تعليماً لهم” (ابن عاشور، 1984، ج8، ص86). وأمرهم بتنظيم شؤون الحياة في أنظمة وتشريعات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وإدارية، وتربوية، …، يكون فيها كلُّ فرد في الأُمَّة عنصراً في هذه الأنظمة، مُتحمِّلاً فيها ما يكون عليه من مسؤولية، ومُحاسَباً على تقصيره في أدائها.

فالعمران المعنوي الذي يتمثَّل في هذه الأنظمة والتشريعات هو قيمة عُليا من القِيَم التي تقوم بها الأُمَّة، وتتقوَّم بها. ولو بلغت الأُمَّة في العمران المادي ما بلغت، ولم يتحقَّق في وجودها العمران المعنوي، فإنَّـما هو ظِلٌّ لا يلبث أنْ يتحوَّل عنها. فظروف الظلم والاستبداد في الحُكْم -مثلاً- تُؤْذِن بخراب العمران. والعجز عن إدارة الاقتصاد؛ حفظاً وعِلْماً وأمانةً، يُؤْذِن بانتشار الفساد والاحتكار والفقر، وانعدام الحرية. وغياب الشورى مُؤْذِن بتقطيع أواصر الأُمَّة، وسيادة البغضاء، والاختلاف في صفوفها.[8]

إنَّ قيمة العمران في حقيقتها وأهميتها لا تتحقَّق إلّا بالتكامل بين العمران المادي والعمران المعنوي. فالعمران المادي يحتاج -مثلاً- إلى بناء القدرة العسكرية التي تدفع بها الأُمَّة مخاطر الوقوع تحت سيطرة غيرها، ويحتاج إلى تطوير الوسائل والأدوات والتجهيزات التي تَلزمها من مُتطلَّبات الزراعة والصناعة والنقل والتواصل …؛ حتى لا تكون تحت رحمة غيرها. وكل ذلك يحتاج إلى عِلْم وتعليم، وأنظمة وتشريعات.

وقد تطوَّرت بعض المفاهيم الـمُتَّصِلة بقيام الأُمم بصورة تتداخل فيها مجالاتها وتتكامل إلى درجة يصعب فيها تصوُّر قيام أيِّ مجال دون المجالات الأُخرى، ومن ذلك على سبيل المثال قيمة الأمن، التي جاء الإعلاء من شأنها في القرآن الكريم بصورة لافتة. فنبيُّ الله إبراهيم u دعا الله تعالى أنْ يجعل بلد البيت الحرام بلداً آمناً، فقدَّم طلب الأمن على توفير الرزق. قال تعالى: (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ )[البقرة: 126]. وقد استجاب الله سبحانه لدعاء إبراهيم u، وامتنَّ على قريش؛ فأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف. قال تعالى: ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)ﱠ [قريش: 3-4]. وقد وعد الله سبحانه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين، وتبديل خوفهم أمناً. قال تبارك وتعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ) [النور: 55]. وعندما تحدَّث القرآن الكريم عن بعض أنواع الابتلاء التي يتعيَّن على الأُمَّة أنْ تحسب حسابها، وتتدبَّر شؤونها لمواجهته، كان أوَّل أنواع الابتلاء هو غياب الأمن وسيطرة الخوف. قال سبحانه وتعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].

فقد كان الأمن -ولا يزال- مقصداً ضرورياً للإنسان في مواجهة ما يُهدِّد وجوده في حياته وكرامته؛ فرداً وأُمَّةً. فقيمة الأمن في أهميتها المعاصرة تعني مواجهة الأسباب التي تُهدِّد الأمن من داخل الأُمَّة وخارجها. وكثيراً ما ترتبط مُهدِّدات الأمن بالداخل والخارج معاً، لا سيَّما في الحياة المعاصرة التي تزداد فيها اعتمادية المجتمعات بعضها على بعض. فإلى جانب الأمن السياسي والعسكري، تزداد أهمية أنواع مُتعدِّدة من الأمن، مثل: الأمن المائي، والأمن الغذائي، والأمن الثقافي، والأمن الديني، والأمن الاقتصادي، والأمن الإعلامي، والأمن البيئي، والأمن الصحي، وأمن مصادر الطاقة، وأمن المعلومات … فتحقيق الأمن يُوفِّر للأُمَّة فرصة توفير مُتطلَّبات أفرادها وجماعاتها، والاطمئنان على مصالحهم ومستقبلهم؛ ليُمكِّنهم ذلك من الإسهام في برامج التطوير والتنمية، والترقّي في حياة الأُمَّة بما يَلزم من فاعلية وكفاءة. ولكنَّ هذا الأمن لا يتحقَّق لأيَّة أُمَّة إلّا إذا كانت هذه الأُمَّة بمنـزلة اليد العُليا بين الأُمم؛ فهي تأخذ وتعطي بإرادتها، وليس لحاجتها.

رابعاً: سُنَّة التغـيُّر وقيام الأُمم

أشرْنا في مواقع مختلفة من هذا البحث إلى ارتباط سُنَن قيام الأُمم بالقِيَم والـمُقوِّمات التي يستند إليها هذا القيام، ثمَّ أشرْنا إلى أنَّ منظومة قِيَم التوحيد والتزكية والعمران تتجلّى في سائر سُنَن قيام الأُمم وبقائها. ومن هذه السُّنَن سُنَّةُ التغيُّر. فإذا كانت سُنَّة الله تعالى لا تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، فما علاقة هذه الصفة من صفات السُّنَّة بسُنَّة التغيُّر؟

إنَّ الله سبحانه وتعالى يُرسِل رُسُله إلى الناس لدعوة الـمشركين إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى، فيدعوهم إلى التغيُّر من الشِّرْك إلى الإيمان، ولدعوة مَنْ أقاموا حياتهم على ظلم الناس واستضعافهم واستعبادهم إلى إقامة العدل والقِسْط، فيدعوهم إلى التغيُّر من الظلم إلى العدل. وإذا كان الناس على حالة من الخير، فإنَّ الله تعالى لا يُغيِّر ذلك فيهم حتى يُغيِّروا هم مُقوِّمات الخير، ويأخذوا بمُقوِّمات الشَّرِّ وأسبابه. وهكذا، فإنَّ ظاهرة التغيُّر والتطوُّر هي سُنَّة من سُنَن الله تعالى في الخَلْق وفي الناس؛ ذلك أنَّ حكمة الله سبحانه أنَّ دينه الذي ارتضاه للناس يتفاعل مع طبائعهم ووقائع حياتهم.

ثمَّ إنَّ الفكر الذي يستمدُّه البشر من الدين هو تفاعلٌ بين ما يفهمه البشر من حكمة الله وما يفهمونه من طبيعة البشر. وما نفهمه نحن من طبيعة البشر أنَّ الواحد منهم يولَد في حالة مُعيَّنة، ثمَّ تتغيَّر حالته، ويستمرّ في التغيُّر؛ إذ يكون صغيراً فينمو ويكبر، ويكون جاهلاً فيتعلَّم. وبالرغم من اختلاف التغيُّر من حيث المقدار والاتجاه، فإنَّ حقيقة التغيُّر هي الأمر الثابث. فالتغيُّر سُنَّة من سُنَن الله التي لا تجد لها تبديلاً، وهو صفة أصيلة في حياة الإنسان، وفي حالة العالَـم الذي يعيش فيه. وهذا التغيُّر الدائم يَطَّرِد في الأشياء والأحوال والنفوس. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ )[الرعد: 11]، وقال سبحانه:(ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53].

إنَّ توظيف سُنَّة التغيُّر في قيام الأُمم يتجلّى في حاجة الأُمَّة إلى مواكبة التغيُّر الذي يحصل في الحالة الداخلية للأُمَّة، وفي علاقاتها بغيرها. فقد تطرأ ظروف تُسبِّب شيئاً من الضعف والقصور يَلزم معالجتها، بالتعامل مع الأسباب التي أدَّت إلى هذه الظروف، ومعالجتها بإجراء ما يَلزم من تغييرات. وتأتي أهمية الحديث عن سُنَّة التغيُّر، وطرق الاستجابة له في الظروف المعاصرة، من أنَّ حالة العالَـم تتغيَّر اليوم بصورة سريعة جداً، وأيُّ تغيُّر في مكان من هذا العالَـم يظهر تأثيره مباشرة في معظم الأماكن الأُخرى من العالَـم؛ ما يستدعي أنْ يتوافر للأُمَّة من الخُطَط والبرامج الاستشرافية ما يجعل استجابتها للتغيُّرات وسيلة لتوظيف هذه التغيُّرات لمصلحتها.

وقد شهد العالَـم في القرنين الأخيرين العديد من التغيُّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والتقانية؛ ما دعا كثيراً من الأُمم إلى التعامل مع هذه التغيُّرات والانتفاع بها. ومن الـمُؤسِف أنَّ الأُمَّة الإسلامية -في سائر مجتمعاتها ودولها- كانت أضعف من غيرها في الاستجابة المناسبة لهذه التغيُّرات واستثمار فرصها، فكانت في معظم الأحيان بيئة سهلة لترويج التيّارات الفكرية الـمُتناقِضة، والخضوع للضغوط السياسية والاقتصادية التي تمارسها القوى الفاعلة في العالَـم، ولم تستطع توظيف الموارد الهائلة التي تملكها لخدمة أنماط حياتها أو فرض هيبتها وكرامتها والحضور الفاعل على ساحة العالَـم، فضلاً عن احترام قِيَمها المرجعية، ومصالحها السياسية والاقتصادية، واكتفت بأنْ تكون سوقاً لكلّ ما يأتيها من الخارج، وعالةً على الآخرين في ضرورياتها وحاجياتها. ولا تزال وتيرة التغيُّر والتطوُّر في حالة من التسارع المستمر في أحوال العالَـم كلِّه. فكلُّ تغيُّر يَلزمه استجابة مناسبة له؛ فإنْ كان التغيُّر إيجابياً بوجهٍ من الوجوه، فإنَّ الاستجابة المناسبة هي في توظيفه واستثماره في تغيير إيجابي على أرض الواقع. وإنْ كان التغيُّر سَلبياً بوجهٍ من الوجوه، فإنَّ الاستجابة المناسبة هي التغيير اللازم لتقليل أثره والحَدِّ من سَلبياته.

ونحن نرى أنَّ سُنَّة التغـيُّر هذه تَتَّصِل بمنظومة القِيَم التي تحدَّثْنا عنها. فالتوحيد -مثلاً- يعني في جُمْلة ما يعنيه أنَّ الله سبحانه يريد للناس أنْ يكونوا أُمَّة واحدة في إيمانهم بالله الواحد، ويريد أنْ يجمع الناس جميعاً؛ ليكونوا في ظِلِّ ما يُوفِّره لهم دين الله الواحد من رحمةٍ وعدلٍ وبِرٍّ، حتى لو اختلفت درجات إيمانهم بهذا الدين ما بين الإيمان والكفر. وضمن هذا المقصد التوحيدي، فإنَّ الإسلام لا يتوقَّع أنْ يظلّ الناس على حالة واحدة؛ لذا جاءت تشريعاته للتعامل مع التنوُّع والاختلاف والتغيُّر في عقول الناس وقلوبهم ومواقفهم. ويبقى مجتمع الأُمَّة الإسلامية مفتوحاً لمَنْ يريد أنْ يدخل فيه مُؤمِناً مُسلِماً، أو يريد أنْ يدخل فيه مُستأنِساً ومُستأمِناً؛ لِما تُوفِّره له تشريعاته من أمان في نفسه ودينه وماله. فأُمَّة التوحيد الواحدة ليست مُغلَقة على نفسها إزاء سائر الناس، وإنّما تأمُل أنْ يدخل كلُّ الناس في أُمَّة التوحيد، وتسعى لتحقيق هذا التغيير. وسواء دخل غير الـمسلمين في أُمَّة الإسلام مسلمين أو ظلّوا على أديانهم، فإنَّ باب الدخول يبقى مفتوحاً؛ استلهاماً لسُنَّة التنوُّع في واقع المجتمع، وقِيَم البِرِّ بالمختلفين، ومبدأ الحرية في الاعتقاد.

وقد ظهرت تجلِّيات التوحيد في التعامل مع التغيُّرات التي طرأت على حياة الأُمَّة، لا سيَّما في بناء المؤسسات التي كانت تستجيب للخبرات والتجارب البشرية في حياة الأُمَّة، أو تجد النافع عند الأُمم الأُخرى، كما في حالة تدوين الدواوين وتوحيد لغتها إلى العربية بدلاً من اللغات الرومية والفارسية والقبطية التي بدأ التدوين بـها. وكما هو الحال في سَكِّ العُمْلة الخاصة بالأُمَّة الإسلامية بدلاً من اعتماد الدينار الرومي والدرهم الفارسي. وقد بدأ التعليم في المسجد، ثمَّ بُنِيت المؤسسات التعليمية على اختلاف مستوياتها، وبدأ الطِّبُّ بمجموعة من الأطِبّاء، ثمَّ أصبح مُمثَّلاً بمؤسسات المارستانات أو المستشفيات، وبدأت الأوقاف بداية بسيطة، ثمّ تطوَّرت لتشمل مؤسساتُ الأوقاف سائرَ الخدمات الاجتماعية والتعليمية والدفاعية التي تحتاج إليها الأُمَّة، ولتصبح عنصراً أساسياً في النظام الاقتصادي في حياتها. وهكذا، فإنَّ بناء المؤسسات وتطوُّرها كان نموذجاً لحالة التغيُّر الإيجابي المستمر، وواحداً من الـمُقوِّمات التي مكَّنت الأُمَّة من الاستمرار في وحدتها، وتماسكها الداخلي، وقوَّتها، وهيبتها بين الأُمم.

وحتى في الجانب الفني والجمالي، فقد تجلَّت قيمة التوحيد في حياة الأُمَّة بصورة مُتميِّزة، فكانت الفنون الجمالية في الأشكال والألوان والأصوات وسيلة من وسائل التعريف بالأُمَّة، والتعبير عن شخصيتها ومرجعيتها التوحيدية، عِلْماً بأنَّ الأُمَّة في بداية عهدها كانت مُنشغِلةً عن كثير من جوانب الفن والتعبير الجمالي، ولكنَّ التغيُّر والتطوُّر والاستقرار الذي طرأ على الحياة الثقافية والاجتماعية استدعى شيئاً من هذا الاهتمام، وكانت الاستجابة في تطوير فَنٍّ إسلامي مُتميِّز، أهمُّ ما يَتَّصِف به أنَّه فنٌّ توحيدي خالص؛ فقمَّة الوعي بالجمال هي الإيمان بأنَّ الله سبحانه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، وأنَّه يتعالى عن المثيل والنظير. وللتعبير عن التوحيد الـمُطلَق، فقد غابت عنه الفنون التشخيصية تـماماً، وحتى الزخرفة الإسلامية كانت زخرفة تجريدية تمتدُّ في اللانهائي؛ تعبيراً عمّا لا يُمكِن التعبير عنه.

وهكذا، فإنَّ جميع التغيُّرات التي طرأت على حياة الأُمَّة؛ تعبيراً عن سُنَّة التغيّر، كانت تجد الاستجابات المناسبة لها استناداً إلى عقيدة التوحيد، فكان للتوحيد تجلِّياته في نُظُم الحياة جميعها؛ المعرفية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والفنية، وغير ذلك.

وتاريخ الأُمَّة الإسلامية شهد كثيراً من حالات التغيُّر والتغيير في نُظُم الحُكْم، والإدارة، والتعليم، والرعاية الصحية، وأدوات الإنتاج الصناعي والزراعي، وطرق التواصل، وأدوات الحرب، وغير ذلك. ومع ذلك بقيت وحدة الأُمَّة في مرجعياتها وقِيَمها محفوظة قروناً طويلةً، بالرغم مـمّا كان يحصل من فتن وحروب نتيجة اختلاف الرؤى والاجتهادات، أو تضارب المصالح والأهواء.

وقيمة التوحيد تتجلّى في صور مختلفة، وقد تتغيَّر من صورة إلى أُخرى، ومن مستوى إلى آخر. فسُنَّة الله تعالى في الخَلْق أنْ يبقى الناس مختلفين في كثير من الأمور، وهم مختلفون أساساً في درجة الهدى والضلال. قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )[هود: 119-118]؛ ذلك أنّ “الحكمة التي أُقيم عليها نظام هذا العالَـم اقتضت أنْ يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوُّح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى، على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة، …، ولو شاء الله تعالى لخلق العقول البشرية على إلهام مُتَّحِد لا تعدوه، كما خلق إدراك الحيوانات العجم على نظام لا تتخطّاه من أوَّل النشأة إلى انقضاء العالَـم … فلا جَرَمَ أنَّ الله تعالى خلق البشر على نظام من شأنه طريان الاختلاف بينهم في الأمور، ومنها أمر الصلاح والفساد في الأرض” (ابن عاشور، 1984، ج12، ص187-188). ومع ذلك، فإنَّه سبحانه كان يُرسِل إليهم الأنبياء والرُّسُل، ويُيسِّر لهم من دعاة الخير من أتباع الرُّسُل؛ لأنَّ إمكان التغيير بين الهدى والضلال يبقى مفتوحاً للبشر في كل حين.

ومن تجلِّيات قيمة التوحيد في توجيه عِلْم الإنسان والسعي الدائب لزيادته وترقيته وتصحيحه، بوصفه يخضع للتغيُّر الدائم، رؤيتُه لمبدأ وحدة الحقيقة؛ فالله سبحانه خالق الحقائق الـمُطلَقة التي يحيط بعِلْمها، وخالق الحقائق الواقعية التي يوحي إلى الإنسان بما يريد سبحانه منها، ويُيسِّر لعقله أنْ يكتشفها. ومن ثَمَّ، فهو سبحانه الموجود الحقُّ الواحد الذي يعلم الحقيقة كاملة. “والحقيقة التي هي موضوع العقل مُتضمَّنة في قوانين الطبيعة التي هي سُنَن الله في خَلْقه، وهي بأمر الله سُنَن دائمة ثابتة. ومن هنا يُمكِن أنْ تُكتشَف، وتُقنَّن، ويتمُّ تعامل الإنسان معها، وتُستخدَم للوفاء بمسؤولية الإنسان في الإصلاح والإعمار وخدمة مصالح الإنسان …

إنَّ وحدة الحقيقة أو طبيعة قوانين الـمخلوقات والسُّنَن الإلهية، تفرض أنَّ باب النظر في طبيعة الخَلْق أو في أيِّ جزئية منه، لا يُمكِن أنْ يُغلَق؛ وذلك لأنَّ سُنَن الله في خَلْقه غير محدودة، فمهما عرفنا ومهما تعمَّقنا في هذه الـمعرفة، فلا يزال هناك دائماً الـمزيد منها ليُكتشَف ويُسخَّر. ومن هنا، فإنَّ الاستعداد لقبول الجديد من الـمدركات والبراهين، والإصرار على متابعة البحث، هي خصائص لازمة للعقل الـمُسلِم … فالموقف الناقد لكل الدعاوى الإنسانية، والبحث الدائب وراء قوانين الطبيعة التي لا تكون نهائية أبداً، هما في الوقت ذاته شرطان لازمان للمنهج الإسلامي وللعِلْم الأصيل” (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، إسلامية المعرفة، 1992، ص90-93).

والتغيُّر سُنَّة أساسية تَتَّصِل بقيمة التزكية؛ فالتزكية تغيُّر متواصل في حالة النفس الإنسانية من الأهواء والشهوات والشُّبُهات في اتِّجاه الترقية والتطهير والزيادة في أبواب الخير. والواجب على الـمُؤمِن أنْ يسعى للكسب من أشكال الرزق؛ من: زراعة، وصناعة، وتجارة، وتقديم أنواع الخدمات، فيجتمع إليه من أشكال الرزق ما يؤدّي عليه زكاته. ولا يوجد حَدٌّ لكسب الرزق؛ فالغنيُّ لا ينبغي أنْ يتوقَّف عن الكسب المشروع، ليتمكَّن من الاستمرار في دفع الزكاة ضمن مصارفها المشروعة، التي تتواصل فيها عمليات التغيُّر والتغيير من حال إلى حال أفضل. ولا ينبغي للفقير أيضاً أنْ يبقى فقيراً ما دام أنَّه قادر على التغيُّر من حالة الفقر إلى حالة السعة والاكتفاء، وفي ذلك تزكية لنفسه، وتغيير لحالة يده من أنْ تبقى اليد السفلى (البخاري، 1998، كتاب: الزكاة، باب: لا صدقة إلّا عن ظهر غنى، حديث رقم1429، ص278).[9]

والعلاقات الاجتماعية الـممتدة في النسب والمصاهرة، وما يكون فيها من مشاعر وعلاقات، لا بُدَّ أنْ تسعى لتحقيق مقاصد هذه العلاقات من سكن ومودَّة ورحمة، وتتجاوز ما قد يحصل من مشكلات وخلافات، ومعالجتها بالمعروف والتراضي من أجل تحقيق ما هو أزكى وأطهر لجميع الأطراف. فالتشريعات والتوجيهات القرآنية تمنع تحقُّق الأسباب التي تُحدِث التغيُّر من حالة التزكية بما فيها من ودٍّ ومرحمة إلى حالة من البغضاء والكراهية والخصومة.

وتدور قيمة التزكية مع واقع الأُمَّة مهما كانت الحالة التي يتغيَّر فيها كيان الأُمَّة؛ فالقِيَم الـمُعبِّرة عن علاقات التماسك والتكامل في الـمجتمع، وهي الأساس في وحدة كيان الأُمَّة، إنَّما تبدأ بالشعور الجمعي بالأُخوَّة الإيمانية والتعاطف الوجداني، وتتواصل بالسعي الدائب لبناء أدوات الاجتماع والائتلاف في مشاريع الدعم والمؤازرة والنموِّ والتطوير ضمن روح التعاون والتكامل، وليس التنافس والتسابق. وإذا لم تسمح الظروف لأدوات الاجتماع والائتلاف على الكيانات السياسية القائمة، فإنَّ ذلك لا يمنع أنْ تقوم تلك العلاقات على مستوى الـمؤسسات والجمعيات ومراكز البحث والدراسات، ليتمَّ عن طريقها تبادل الخبرات وتطويرها، وتيسير سُبُل التعاون بين الكيانات السياسية.

إنَّ قيام الأُمم وبقاءَها يقوم على قواعد وأُسس وقِيَم، منها قيمة العِلْم والمعرفة، وهي تشمل العِلْم في مجالات الوجود كلها؛ العِلْم بما يوحي به الله تعالى عن وجوده الـمُطلَق سبحانه، والعِلْم بسُنَن الوجود المادي الطبيعي في الآفاق والـمُسخَّرات، والعِلْم بسُنَن الاجتماع البشري، والعِلْم بسُنَن النفس الإنسانية وطواياها. فالعِلْم بهذه السُّنَن والقوانين والعادات عِلْم ضروري، دعا القرآن الكريم إلى اكتسابه بطرقه وأسبابه؛ لتحقيق المقصد الأساس من هذا العِلْم، وهو الاعتبار. والاعتبار هو تدبُّر العلاقات القائمة بين الأسباب والنتائج، والـمُقدِّمات ومآلاتها؛ ليَتَّعِظ الإنسان بذلك، ويُصحِّح ما قد يكون عنده من خطأ في العِلْم، ويتجنَّب أسباب الخطأ والضلال، ثمَّ يمارس حياته وسلوكه في الواقع العملي بوَعْي وعلى هدىً وبصيرة.

وسُنَّة اكتساب العِلْم والتبحُّر فيه تشمل علوم الماضي، وعلوم الحاضر، وعلوم المستقبل، وقد تكرَّر ذكر سُنَن الله تعالى في الماضي، ومنه قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137]. قال ابن عاشور إنَّ السُّنَّة “هي السيرة من العمل أو الخُلُق الذي يُلازِم الـمرءُ صدور العمل على مثالها … والمعنى: قد مضت من قبلكم أحوال للأُمم، جاريةً على طريقة واحدة، هي عادة الله في الخَلْق … “وهي أنَّ قوَّة الظالمين وعُتوَّهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمُتَّقين الـمُحِقّين”،… وفي الآية دلالة على أهمية عِلْم التاريخ؛ لأنَّ فيه فائدة السَّيْر في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأُمم وفسادها. قال ابن عرفة في ذلك: “السَّيْر في الأرض حِسِّي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ، بحيث يحصل للناظر العِلْمُ بأحوال الأُمم، وما يُقرِّب من العِلْم، وقد يحصل به من العِلْم ما لا يحصل بالسَّيْر في الأرض لعجز الإنسان وقصوره” (ابن عاشور، 1984، ج4، ص95-97).

ولكنَّ العِلْم الضروري لا يقتصر على العِلْم بالماضي؛ فالاعتبار بالماضي يعني الحاضر والمستقبل، والعِلْم بالحاضر والمستقبل ميدان مفتوح للتغيُّر الدائم؛ لضرورته البالغة في قيام العمران البشري. والتغيُّر فيه جزء من الطبيعة البشرية؛ إذْ يولَد الإنسان جاهلاً، لا يعرف من العِلْم شيئاً، ثمَّ يبدأ بالتعلُّم. قال تعالى: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [النحل: 78]. وهذه الثلاثة التي جعلها الله للإنسان هي له أدوات للمعرفة والعِلْم. وما يعلمه الإنسان عمّا خلقه الله تعالى في هذا العالَـم يبقى قليلاً، مهما تغيَّر وتزايد. قال U: ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﱠ [الإسراء: 85]. وحتى لو أحاط الإنسان عِلْماً بكل شيء أُتيح له أنْ يعلمه في وقت مُعيَّن، فإنَّ الله سبحانه (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [فاطر:1]، وهو سبحانه (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 8]، والله سبحانه يزيد في عِلْم الإنسان عِلْماً بما لم يكن يعلمه: ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)ﱠ [البقرة: 151]. ولذلك طلب الله سبحانه من رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يدعو ربَّه أنْ يزيده عِلْماً، فقال: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114]. وكلُّ ذلك تعبير عن سُنَّة التغيُّر التي تقتضي من الأُمَّة أنْ تُواصِل سعيها في الزيادة من العِلْم؛ لضرورة ذلك، وأهميته في مُقوِّمات وجود الأُمَّة واستمرار عمرانها.

ومثل ذلك التغيُّر في حالة العِلْم والمعرفة يتجلّى في استمرار التطوير في مُتطلَّبات السلامة الصحية والوقاية من الأمراض، والتغيُّر في استخدام مستجدات الحضارة وتطبيقات العِلْم والتكنولوجيا؛ لتيسير أسباب الحياة؛ من: طعام، وشراب، وسكن، وتنقُّل، واتصال، وغير ذلك.

ومن أظهر صور التغيُّر الدائم في حالة العِلْم، وصلتها بعمران الأُمَّة، التغيُّرُ في إعداد أسباب القوَّة الـمادِّية اللازمة لحماية الأُمَّة قَدْر الاستطاعة. وقَدْرُ الاستطاعة مفتوحٌ نوعاً وكَمّاً، ويتغيَّر مُتواكِباً مع مستجدات القوَّة في عناصرها وأدواتها، فإذا كان من أدوات القوَّة، في مرحلة من المراحل، رباطُ الخيل، ثمَّ تغيَّر إلى الدبّابة والطائرة، فقد تغيَّر اليوم إلى تسيير الأدوات المقاتلة عن بُعْد دون ركوبها المعروف والمألوف. ومن الواضح أنَّ التغيُّر في وسائل الحرب والقتال سوف يتواصل ويستمرُّ. وكل أُمَّة تسبق غيرها في هذه الوسائل تكون أقدر على توفير مُقوِّمات القوَّة التي تفرض هيبتها، وتمنع إمكانية العدوان عليها.

والآية القرآنية التي تشير إلى ضرورة إعداد القوَّة اللازمة تفتح آفاق الفكر على حالة العِلْم وصلتها بمُقوِّمات قيام الأُمَّة وحمايتها من مخاطر، بعضها معروف، وبعض آخر مجهول. فهذه الآية: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60] تُوضِّح عدداً من المسائل اللافتة في نصِّها:

فالمسألة الأولى: الإعداد، سواء استُعمِلت المعدات أو لم تُستعمَل.

والمسألة الثانية: تعميم قَدْر الطاقة من أسباب القوَّة التي تتغيَّر باستمرار.

والمسألة الثالثة: التمثيل على نموذج من نماذج القوَّة، وهو رباط الخيل. وقد جاء ذكر النموذج في صيغة الرباط تعبيراً عن جاهزيته للانطلاق عند الحاجة.

والمسألة الرابعة: ملاحظة أنَّ الإعداد ليس للاستعمال بالضرورة، وإنَّما لإرهاب العدوِّ الظاهر المعروف الذي يتربَّص بالأُمَّة، فيمنعه عِلْمه بما أعدَّتْه من الطمع فيها.

والمسألة الخامسة: الانتباه إلى أنَّ الإعداد المطلوب ليس فقط للعدوِّ الظاهر المعروف، وإنَّما لعدوٍّ قد لا يكون معروفاً، وهو نوع من الإعداد الإضافي لمواجهة طوارئ عدوانية مجهولة.

والمسألة السادسة: بيان أنَّ الإشارة إلى الأعداء الذين لا تعرفهم الأُمَّة في مرحلة من المراحل تدعو الأُمَّة إلى الحذر والانتباه، فتزيد من قدرتها على تحرّي مصادر العداوة الـمُتوقَّعة، واكتشافها بطرق الاستخبار المناسبة، حتى يشمل إعداد القوَّة المطلوبة ما يَلزم لمواجهة هذه المصادر.

والتغيُّر سُنَّة أساسية تَتَّصِل بقيمة العمران بصورة أوضح ظهوراً؛ إذ يتطلَّب العمران الاستفادة من التجارب، والاعتبار بالخبرات التي تمرُّ بها الأُمَّة وغيرها من الأُمم، في التحديث والتطوير من أجل ضمان استمرار عناصر التقدُّم العمراني الـمادي في الأساليب والوسائل والأدوات، وعناصر التقدُّم العمراني الـمعنوي في الأنظمة والتشريعات. فالتغيُّر الذي يحدث في العالَـم يقتضي مواكبته، والتكيُّف معه بما يَلزم من تغيير في الوسائل والأدوات، وتغيير في الأنظمة والقوانين والإجراءات.

وسُنَّة التغيُّر تَتَّصِل بحاجة الأُمَّة إلى الإصلاح كلَّما طرأ النقص والفساد في حياتـها؛ إذ من الطبيعي أنْ تكون نشأة أيَّة أُمَّة مُرتبِطة بظروف النشأة ونوعية الـمُنشِئين، ولكنَّ الأُمَّة الإسلامية منذ بَدْء تشكُّلها في عهد النبوَّة سرعان ما بدأت تتجاوز ظروف النشأة؛ فبعد عقود قليلة من الزمن وجدنا الأُمَّة تتكوَّن من أجناس وأعراق ولغات وثقافات، تجتمع حول الـمعتقدات والأفكار الـمُؤسِّسة، ووجدنا السلطة الفعلية فيها تنتقل من فئة إلى أُخرى، ووجدنا عاصمتها تنتقل من مكان إلى آخر. ومن الـمُؤكَّد أنَّ الأساس الفكري لبناء الأُمَّة الإسلامية هو الذي حافظ على وجودها واستمرارها عبر القرون. وقد مَرَّت الأُمَّة الإسلامية في تاريخها بمراحل ودورات من التقدُّم والتخلُّف في الاجتهاد والتجديد الفكري؛ لذا وجدنا أنَّ جهود الإصلاح الفكري الإسلامي لم تتوقَّف عبر العصور. ومع ذلك، فإنَّ هذا التاريخ لم يَخْلُ من حركات شابتها انحرافات فكرية، أشغلت الأُمَّة، واستنـزفت جزءاً من طاقاتها الفكرية والعملية، لكنَّها لم تنحرف بالأُمَّة في مُجمَل معتقداتها وأفكارها؛ فالمخزون الفكري في الوحي الإلهي والهدي النبوي كان دائماً -ولا يزال- حاضراً في حماية الأُمَّة من إمكانية اجتماعها على ضلال.

والأُمَّة الإسلامية اليوم تحتاج إلى أنْ تُغيِّر واقعها بجهود إصلاحية في جميع مجالات حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنَّ الإصلاح الفكري سيبقى الـمُنطلَق للإصلاح في هذه الجوانب وغيرها؛ فالإصلاح السياسي يحتاج إلى فكر سياسي، والإصلاح الاقتصادي يحتاج إلى فكر اقتصادي، وهكذا. والإصلاح الفكري الـمقصود هنا يقتضي استيعاب الفرص والتحدِّيات التي تُواجِهها الأُمَّة اليوم في ضوء ما أشرْنا إليه من مصادر استمداد الفكر في الخبرة البشرية الـمعاصرة، وتكييفها وتوظيفها في ضوء الـمقاصد التي تهدي إليها الـمرجعية الحاكمة في الوحي الإلهي والهدي النبوي.

إنَّ الحضور الفاعل للأُمَّة على ساحة العالَـم يتحقَّق بشرط الإصلاح في جانبين؛ الأوَّل: إصلاح الفرد ليكون عضواً نافعاً في بناء الأُمَّة، ساعياً طوال حياته من أجل مجدها. والثاني: إصلاح نظام الأُمَّة القائم على منظومة من القِيَم التي تُحقِّق لها القوَّة من داخلها والهيبة من خارجها. ولا شكَّ في أنَّ هذين الجانبين من شرط الإصلاح مُتكافِئان في حاجة كلٍّ منهما إلى الآخر.

وتتجلّى سُنَّة التغيُّر في علاقتها بسُنَن أُخرى، مثل: سُنَّة التمكين، وسُنَّة التدافع، وغير ذلك. فتمكين الأُمم في الأرض هو شيءٌ من عطاء الله سبحانه، وهو عطاءٌ مبذول للمؤمنين والكافرين، وقد يفتح الله للكافرين أبواب كل شيء، في حين يبتلي المؤمنين بالفقر والهزيمة، وليس في ذلك تناقض مع وعد الله بالتمكين للمؤمنين.

إنَّ سُنَّة التمكين تجيء بإرادة الله سبحانه وَفق أسبابها؛ فمَنْ أخذ بأسباب التمكين من غير المؤمنين، فإنَّ الله سبحانه يُمكِّن له من باب الاستدراج والإملاء إلى حين. ويوم لا يأخذ المؤمنون بأسباب التمكين، فإنَّ الله يحرمهم منه من باب الابتلاء، إلى أنْ يُغيِّروا ما بأنفسهم من التخلُّف عن الأخذ بالأسباب، ويصبحوا أهلاً للتمكين. وهكذا يُداوِل الله سبحانه الأيام بين الناس.

ومن سُنَّته تعالى أنْ يتواصل التدافع بين الناس حتى لا تفسد الأرض تمام الفساد. فما يظهر من تمكين لغير المؤمنين، إنَّما هو نتيجة “غياب أهل الحقِّ عن الساحة، بتخلُّفهم عن الأخذ بالأسباب. فقد اقتضت مشيئة الله سبحانه أنْ يكون للتمكين أسبابه، وأنَّ هذه الأسباب تفعل فعلها، وتؤدّي نتائجها بمشيئة الله U. فالمؤمنون يأخذون بالأسباب، ويتوكَّلون على الله تعالى، وغيرهم يأخذون بالأسباب، ويَتَّكِلون عليها، فإذا نجحوا في تحقيق أهدافهم فُتِنوا بالأسباب، وزاد بُعْدهم عن الله، فتأتي سُنَّة الله وإرادته، فينتهي التمكين بقَدَر من أقدار الله التي لم يكونوا يحتسبونها. وأمثلة التاريخ كثيرة في هذا الباب” (قطب، 1991، ص53-64).

خاتمة

حاول هذا البحث أنْ يربط بين السُّنَن التي يَلزم الاعتبار بها والقِيَم التي يَلزم الاستناد إليها في بناء الأُمم أو تجديد بنائها وضمان بقائها واستقراها. وقد تبيَّن لنا أنَّ نظام الاعتقاد -كما يتجلّى لنا في نصوص القرآن الكريم- يتكامل مع كلٍّ من نظام المعرفة، ونظام القِيَم. وتشترك هذه النُّظُم الثلاثة في تكوين رؤية كلية، تُنظِّم فكر الإنسان وسلوكه في ثلاثة عناصر من هذه الرؤية، هي: رؤيته لله الخالق، وصفاته، وأفعاله سبحانه. وتحتكم رؤيته إلى التوحيد؛ ورؤيته للإنسان وحياته ووظيفته، وتحتكم إلى التزكية؛ ورؤيته للعالَـم الطبيعي والاجتماعي والنفسي، وتحتكم إلى العمران، فالتوحيد والتزكية والعمران هي منظومة قِيَم عُليا، تحكم الفكر والسلوك في حياة الفرد والجماعة والأُمَّة.

فسُنَن قيام الأُمَّة وبقائها تقوم على وحدتها واستقلالها الـمُستمَدَّيْن من تجلِّيات قيمة التوحيد، وتقوم على تماسك عناصرها في صفاء النفوس ومشاعر المودَّة، والتكافل المادي والمعنوي، وهو ما يُستمَدُّ من تجلِّيات قيمة التزكية، وتقوم على بناء النُّظُم والتشريعات وتنظيم العلاقات وتوظيف الطاقات المادِّية والبشرية في تيسير سُبُل الحياة وترقيتها، وهو ما يُستمَدُّ من تجلِّيات قيمة العمران المادي والمعنوي. ومن ثَـمَّ، فإنَّ منظومة القِيَم هذه هي معايير للحُكْم على تحقيق الإنسان مقصدَ الاستخلاف في الأرض.

وإذا كان ظهور الأُمَّة وبقاؤها، إنَّما يكون وَفق سُنَن إلهية، فإنَّ هذه السُّنَن تَتَّصِل اتصالاً مباشراً بكلٍّ من التوحيد، والتزكية، والعمران، بوصفها قِيَماً حاكمةً عُليا للوجود البشري، ويتفرَّع منها سائر مستويات القِيَم التي تحكم حياة الإنسان وفكره وسلوكه، ويتأسَّس عليها كل الـمُقوِّمات التي يقوم عليها بناء الأُمم.

وقد تبيَّن لنا أنَّ سُنَّة الله تعالى في قيام الأُمَّة وبقائها هي وحدتها، ووجودها المستقل عن غيرها، والمكتفي بموارده ومصادره التي تكفيه الضروريات والحاجيات والتحسينيات، دون أن يمنع ذلك من تعاون الأمة مع غيرها في المشترك من جلب المصالح ودرء المفاسد. ولا تقوم علاقة الأُمَّة بغيرها إلّا على شروطها وقراراتها. وسُنَّة الله تعالى في تماسك كيان الأُمَّة هي عمق مشاعر الودِّ والرحمة، وعلاقات التكامل والتكافل بين أفرادها، وقيام نظامها على حقِّ أفرادها في المشاركة في الرأي والقرار، وبسط العدل، وضمان الحرية.

وبناء الأُمم ليس مرحلة تـمرُّ بها الأُمَّة وتنتهي، فإذا كان البناء المادي يحتاج إلى صيانة بين الحين والآخر، أو ترميم جذري في بعض الأحيان، أو تنتهي صلاحيته تماماً، ليعاد بناؤه من جديد؛ فإنَّ البناء البشري لا يَسَعُه إلّا التغيُّر الدائم؛ إذ تستجدُّ الظروف الداخلية والخارجية التي تحتاج إلى التكيُّف معها أو مواجهة مُتطلَّباتها. والأجيال التي نشأت على نـمط من الثقافة والفكر والممارسات، قد لا تكون مُؤهَّلة للتكيُّف مع التطوُّرات والظروف الـمستجدة؛ فيكون بناء الأجيال الجديدة للأُمَّة أمراً لازماً.

ولذلك، فإنَّ قِيَم الإصلاح والتجديد والنهوض لا تأخذ موقعها المناسب في الثقافة الإسلامية والحضور الإسلامي على ساحة العالَـم دون أنْ تكون امتدادات مُتفرِّعة من منظومة القِيَم العُليا: التوحيد، والتزكية، والعمران، التي لا بُدَّ من استدعائها في واقع الأُمَّة في كلِّ حين.

وإذا كان المسلمون يعتزّون بقوَّة القِيَم التي يعتمدونـها معايير معنوية لوجودهم وسعيهم، فإنَّ ذلك لا يغني شيئاً إذا لم تستند قوَّة القِيَم إلى قيمة القوَّة التي تُعبِّر عن السند الحقيقي لوجودهم وحضورهم؛ فلا بُدَّ من التوازن بين الأمرين. ولا يُعَدُّ ذلك تقليلاً من شأن الإيمان بالقِيَم، وإنَّـما هو تأكيد لضرورة العمل بمقتضيات الإيمان، وإنَّ قيمة العمل تتمثَّل في نتائجه، وهذه النتائج هي الـمُعوَّل على حضوره، وتقويـمه، والمسؤولية عنه.

وقد اخترنا في هذا البحث أنْ نتحدَّث عن سُنَّة التغيُّر وامتداداتـها في منظومة القِيَم العُليا، ويُمكِن بالطريقة نفسها الحديث عن سُنَن أُخرى، مثل: سُنَّة التمكين، وسُنَّة التدافع، وغيرهما من السُّنَن، بحيث يتأسَّس عندنا نوع من الفهم والفِقْه الذي يُمكِن أنْ نُطلِق عليه اسم فِقْه السُّنَن. فإذا كان فِقْه الصلاة هو العِلْم بالأحكام الشرعية الخاصّة بالصلاة واستنباط هذه الأحكام من أدلَّتها، فإنَّ فِقْه السُّنَن هو العِلْم بالأحكام والتوجيهات التي تختصُّ بالسُّنَن والقوانين التي جعلها الله ضابطة وحاكمة لسلوك الأشياء الطبيعية والحياة البشرية، ومعرفة هذه الأحكام من النصوص الشرعية التي تتعلَّق بـها. ومن ذلك فِقْه سُنَن قيام الأُمم؛ أي العِلْم بمعرفة القوانين التي تحكم قيام الأُمم وبقاءَها واستقرارها؛ فاكتشاف هذه السُّنَن أو القوانين وفهمها وتوظيفها يعني فهم واقع الأُمَّة وما يَتَّصِف به هذا الواقع من قوَّة وضعف، وصحَّة ومرض، وما يحتاج إليه من تغيير وإصلاح.

ولا شكَّ في أنَّ الأُمَّة الإسلامية تعاني في واقعها المعاصر جُمْلةً من المشكلات، وأصبح من فِقْه السُّنَن في واقع الأُمَّة أنْ ندرس هذا الواقع، والتحدِّيات والصعوبات التي تُواجِهه، والفرص والإمكانيات المتاحة له. ومن ذلك الأسبابُ التي أدَّت إلى هذه الصورة من الواقع، وكيفية الخروج منه بما يَلزمه من إجراءات التغيير والإصلاح. ومن فِقْه السُّنَن كذلك امتلاك الوعي اللازم بتفاصيل الأزمة التي تعانيها الأُمَّة؛ والكيفية التي بدأت بها، وزمن بَدْئها، ومراحل تطوُّرها، والحجم الذي وصلت إليه، وأعراضها التي تُعبِّر عنها، واتِّجاهات التحوُّل التي لا تزال تـمرُّ بـها.


المراجع

البخاري، محمد بن إسماعيل (1998). صحيح البخاري، عناية: أبو صهيب الكرمي، الرياض: بيت الأفكار الدولية.

برغوث، عبد العزيز (2007). “ملاحظات حول دراسة السُّنن الإلهية في ضوء الـمقاربة الحضارية”، مجلَّة إسلامية الـمعرفة، عدد 49.

البشري، طارق (2011). نحو تيار أساسي للأُمَّة، القاهرة: دار الشروق.

البيهقي، أحمد بن الحسين (1994). السنن الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكة المكرمة: مكتبة دار الباز.

ابن حنبل، أحمد (2001). مسند أحمد، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، بيروت: مؤسسة الرسالة.

ابن خلدون، عبد الرحمن (2004). مُقدِّمة ابن خلدون، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، القاهرة: دار نهضة مصر، طبعة جديدة ومزيدة ومنقحة.

الرازي، فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر (1420ﻫ). مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، ط3، بيروت: دار إحياء التراث العربي.

الريسوني، أحمد (2012). الأُمَّة هي الأصل: مقاربة تأصيلية لقضايا الديمقراطية، حرية التعبير، الفن، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

زيدان، عبد الكريم (1993). السُّنَن الإلهية في الأُمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، بيروت: مؤسسة الرسالة.

شيري، إريك (2016). الجدول الدوري، ترجمة: محمد عبد الرحمن إسماعيل، مراجعة: هاني فتحي سليمان، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.

طه عبد الرحمن (2005). الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، الدار البيضاء-وبيروت: الـمركز الثقافي العربي.

ابن عاشور، محمد الطاهر (1984). تفسير التحرير والتنوير، تونس: الشركة التونسية للنشر.

عبده، محمد (2011). الإسلام بين العلم والمدنية، القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر.

عبده، محمد، ورضا، محمد رشيد (1947). تفسير القرآن الحكيم (تفسير الـمنار)، القاهرة: دار الـمنار.

الفاروقي، إسماعيل راجي (2016). التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة، ترجمة: السيّد محمد السيّد عمر، هيرندن، عمّان: الـمعهد العالمي للفكر الإسلامي.

أبو الفضل، منى (1996). الأُمَّة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأُمَّة في الإسلام، القاهرة: الـمعهد العالمي للفكر الإسلامي.

قطب، محمد (د.ت). حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ط2، القاهرة: دار الشروق.

قطب، محمد (1991). رؤية إسلامية لأحوال العالَـم المعاصر، الرياض: دار الوطن للنشر.

ابن القيِّم الجوزية، محمد بن أبي بكر (1429ﻫ). الداء والدواء، تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي، إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد، جدة-مكة الـمكرمة: مطبوعات مجمع الفِقْه الإسلامي، دار عالم الفوائد.

لوبون، غوستاف (2014). السُّنَن النفسية لتطوُّر الأُمم، ترجمة: عادل زعيتر، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.

مالك بن أنس، (1412ﻫ). الموطأ، تحقيق: بشار عواد معروف، بيروت: مؤسسة الرسالة.

الـمتقي، علاء الدين علي البرهان (1985). كنـز العمال في سُنَن الأقوال والأفعال، عناية: الحياني والسقا، ط5، بيروت: مؤسسة الرسالة.

مُسلِم، أبو الحسين مُسلِم بن الحجاج القشيري (1998). صحيح مُسلِم، عناية: أبو صهيب الكرمي، الرياض: بيت الأفكار الدولية.

مصطفى، نادية (2015). العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي: منظور حضاري مقارن، القاهرة: دار البشير ومركز الحضارة للدراسات السياسية.

الـمعهد العالمي للفكر الإسلامي (1992). إسلامية الـمعرفة: الـمبادئ العامة خُطَّة العمل – الإنجازات، ط2، واشنطن: الـمعهد العالمي للفكر الإسلامي.

ملكاوي، فتحي حسن (2008). “التأصيل الإسلامي لمفهوم القِيَم”، مجلَّة إسلامية الـمعرفة، عدد54.

ملكاوي، فتحي حسن (2012). استنباط القِيَم في حقل معرفي: التربية نموذجاً، في: القِيَم في الظاهرة الاجتماعية، تحرير: نادية مصطفى وآخرون، القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم.

ملكاوي، فتحي حسن (2016). الصراع على مرجعية القِيَم في العالَـم المعاصر، المؤتمر الرابع لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق في جامعة حمد بن خليفة، بعنوان: تزاحم القِيَم في العالَـم المعاصر: إسهامات إسلامية، قطر، 2-3 نيسان.

ملكاوي، فتحي حسن (2020). القِيَم الـمقاصدية وتجلِّياتها التربوية، هيرندن، عمّان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم (1997). لسان العرب، بيروت: دار صادر.

الـمودودي، أبو الأعلى (1980). الأُسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، بيروت: مؤسسة الرسالة.

References

ʿAbduh, M. & Riḍā, M. (1947). Tafsīr al-Qur’ān al-Ḥakīm (Tafsīr al-Manār). Cairo: Dār al-Manār.

ʿAbduh, M. (2011). Al-Islām bayn al-ʿIlm wa al-Madaniyyah. Cairo: Kalimāt ʿArabiyyah li al-Tarjamah wa al-Nasht.

Abū al-Faḍl, M. (1996). Al-Ummah al-Quṭub: Naḥwa Ta’ṣīl Manhājī li Mafhūm Al-Ummah fī al-Islām. Cairo: Al-Maʿhad al-ʿᾹlamī li al-Fikr al-Islāmī.

Al-Bayhaqī, A. (1994). Al-Sunan al-Kubrā (M. ʿAṭā, Ed.). Makkah al-Mukarramah: Maktabat Dār al-Bāz.

Al-Bishrī, Ṭ. (2011). Naḥwa Tayyār Islāmī li al-Ummah. Cairo: Dār al-Shurūq.

Al-Bukhārī, M. (1998). Ṣaḥīḥ al-Bukhārī (A. Al-Karmī, Ed.). Riyadh: Bayt al-Afkār al-Dawliyyah.

Al-Fārūqī, I. (2016). Al-Tawḥīd wa Maḍāmīnuh fī al-Fikr wa al-Ḥayāt (A. ʿUmar, Translator). Herndon, Amman: Al-Maʿhad al-ʿᾹlamī li al-Fikr al-Islāmī.

Al-Maʿhad al-ʿᾹlamī li al-Fikr al-Islāmī (1992). Islāmiyyat al-Maʿrifah: Al-Mabādiʿ al-ʿᾹmmah- Khuṭṭat al-ʿAmal- al-Injāzāt (2nd ed.). Washington: Al-Maʿhad al-ʿᾹlamī li al-Fikr al-Islāmī.

Al-Mawdūdī, A. (1980). Al-Usus al-Akhlāqiyyah li al-Ḥarakah al-Islāmiyyah. Beirut: Mu’assasat al-Risālah.

Al-Muttaqī, ʿA. (1985). Kanz al-ʿUmmāl fī Sunan al-Aqwāl wa al-Afʿāl (5th ed.) (Al-Ḥayyānī & Al-Saqqā, Ed.). Beirut: Mu’assasat al-Risālah.

Al-Raysūnī, A. (2012). Al-Ummah Hiya al-Aṣl: Muqārabah Ta’ṣīliyyah li Qaḍāyā al-Dīmuqrāṭiyyah, Ḥuriyyat al-Taʿbīr, al-Fann. Beirut: Al-Shabakah al-ʿArabiyyah li al-Abḥāth wa al-Nashr.

Al-Rāzī, F. (1420 AH/ 2000 CE). Mafātīḥ al-Ghayb (Al-Tafsīr al-Kabīr) (3rd ed.). Beirut: Dār Iḥyā’ al-Turāth al-‘Arabī.

Barghūth, ʿA. (2007). Mulāḥaẓāt Ḥawl Dirāsat al-Sunan al-Ilāhiyyah fī Ḍaw’ al-Muqārabah al-Ḥaḍāriyyah. Majallat Islāmiyyat al-Maʿrifah, 49.

Ibn ʿᾹshūr, M. (1984). Tafsīr al-Taḥrīr wa al-Tanwīr. Tunisia: Al-Sharikah al-Tūnisiyyah li al-Nashr.

Ibn Ḥanbal, A. (2001). Musnad Aḥmad (Sh. Al-Arna’ūṭ, et al. Ed.). Beirut: Mu’assasat al-Risālah.

Ibn Khaldūn, ʿA. (2004). Muqaddimat Ibn Khaldūn (ʿA. Wāfī, Ed.). Cairo: Dār Nahḍat Miṣr, a new edition.

Ibn Manẓūr, J. (1997). Lisān al-ʿArab. Beirut: Dār Ṣādir.

Ibn Qayyim al-Jawziyyah, M. (1429 AH). Al-Dāʿwa al-Dawā’ (M. Al-Iṣlāḥī, Ed.) (B. Abū Zayd, Rev.). Jedda-Makkah al-Mukarramah: Maṭbūʿāt Majmaʿ al-Fiqh al-Islāmī, Dār ʿᾹlam al-Fawā’id.

Le Bon, G. (2014). Al-Sunan Al-Nafsiyyah li Taṭawwur al-Umam (ʿA. Zʿayter, Translator). Cairo: Mu’assasat Hindāwī li al-Ta‘līm wa al-Thaqāfah.

Mālik I. (1412 AH/ 1992 CE). Al-Mawaṭṭa’ (B. Maʿrūf, Ed.). Beirut: Mu’assasat al-Risālah.

Malkāwī, F. (2008). Al-Ta’ṣīl al-Islāmī li Mafhūm al-Qiyam. Majallat Islāmiyyat al-Maʿrifah, 54.

Malkāwī, F. (2012). Istinbāṭ al-Qiyam fī Ḥaql Maʿrifī: Al-Tarbiyyah Namūthajan. In N. Muṣṭafā, et al. (Eds.), Al-Ẓāhirah al-Ijtimāʿiyyah. Cairo: Dār al-Bashīr li al-Thaqāfah wa al-ʿUlūm.

Malkāwī, F. (2016). Al-Ṣirāʿ ʿalá Marjiʿiyyat al-Qiyam fī al-ʿᾹlam al-Muʿāṣir, Al-Mu’tamar al-Rābiʿ li Markiz Dirāsāt al-Tashrīʿ al-Islāmī wa al-Akhlāq fī Jāmiʿat Ḥamad bin Khalīfah. Tazāḥum al-Qiyam fī al-ʿᾹlam al-Muʿāṣir: Ishāmāt Islāmiyyah. Qatar, March 2-3.

Malkāwī, F. (2020). Al-Qiyam al-Iqtiṣādiyyah wa Tajalliyātuhā al-Tarbawiyyah. Herndon, Amman: Al-Maʿhad al-ʿᾹlamī li al-Fikr al-Islāmī.

Muslim, A. (1998). Ṣaḥīḥ Muslim (A. Al-Karmī, Ed.). Riyadh: Bayt al-Afkār al-Dawliyyah.

Muṣṭafā, N. (2015). Al-ʿAlāqāt al-Dawliyyah fī al-Tārīkh al-Islāmī: Manẓūr Ḥaḍārī Muqāran. Cairo: Dār al-Bashīr wa Markiz al-Ḥaḍārah li al-Dirāsāt al-Siyāsiyyah.

Quṭub, M. (1991). Ru’yah Islāmiyyah li Aḥwāl al-ʿᾹlam al-Muʿāṣir. Riyadh: Dār al-Waṭan li al-Nashr.

Quṭub, M. (n. d.). Ḥawl al-Tafsīr al-Islāmī li al-Tārīkh (2nd ed.). Cairo: Dār al-Shurūq.

Shīrī, I. (2016). Al-Jadwal al-Dawrī (M. Ismāʿīl, Translator) (H. Sulaymān, Ed.). Cairo: Mu’assasat Hindāwī li al-Taʿlīm wa la-Thaqāfah.

Ṭāha, ʿA. (2005). Al-Ḥaq al-Islāmī fī al-Ikhtilāf al-Fikrī. Casablanca-Beirut: Al-Markiz al-Thaqāfī al-ʿArabī.

Zaydān, ʿA. (1993). Al-Sunan al-Ilāhiyyah fī al-Umam wa al-Afrād fī al-Sharī‘ah al-Islāmiyyah. Beirut: Mu’assasat al-Risālah.

 

 

The Sunan (Divine Laws) of Nation Building

Fathi Hasan Malkawi *

Abstract

The concepts of Sunnah (pl. Sunan; in the broad sense of Divine Laws that govern human beings and nature), value, and nation are central in Qur’anic terminology. Though reflection on these concepts is always necessary, the present situation in the contemporary Muslim world makes it a top priority. This reflection becomes even more urgent when we realize the centrality in the life of nations of the culture of Sunan and of Sunani thinking, as well as the importance of contemplating on Sunan and extracting lessons as indicated in the Holy Qur’an. The founding and survival of a nation depend on several factors that support its existence, or, if lacking, cause its demise. This is Allah’s Sunnah, His Cosmic Divine Law. This study comprises four topics: a discussion of Sunnah as Divine Laws that govern human beings and nature; a discussion of the nation concept; an examination of the Divine Laws (Sunan) of nation-building by connecting the Divine Laws with the values and supporting factors, emphasizing the significance of higher values for a nation’s wellbeing; and lastly, it deals with the relationship between the Divine Law of Change and higher values, especially those that are essential for the wellbeing of nations.

Keywords: Sunnah, Divine Law, value, nation, Sunani culture, Sunani thinking, the science of Sunan, higher values


الهوامش:

* دكتوراه في التربية العلمية وفلسفة العلوم، تربوي وأستاذ جامعي أردني، مستشار في المعهد العالمي للفكر الإسلامي. البريد الإلكتروني: [email protected]

ملكاوي، فتحي حسن (2023). سُنَن قيام الأُمم، مجلة “الفكر الإسلامي المعاصر”، مجلد 29، العدد 105، 55-128. DOI: 10.35632/citj.v29i105.7721

كافة الحقوق محفوظة للمعهد العالمي للفكر الإسلامي 2023 ©

[1] حديث: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق.” رواه البيهقي في: السُّنَن الكبرى (ج10، ص191)، والبزار في: مسنده كشف الأستار، حديث رقم 2740، والبغوي في: شرح السُّنَّة، حديث رقم 3622، وغيرهم، بهذا اللفظ: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق” (ابن حنبل، 2001، ج14، حديث رقم8952، ص513). وأخرجه البخاري في: الأدب المفرد، حديث رقم 273. وابن أبي الدنيا في: مكارم الأخلاق، حديث رقم 13. والحاكم في: المستدرك، ج2، حديث رقم 4221، ص670، وغيرهم بلفظ: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاق.”

[2] روى ابن عساكر في: تاريخ دمشق خبر مَقْدَم ابنة حاتم ‏الطائي في الأسرى، فقالت: “يا محمد، إنْ رأيْتَ أنْ تُخلِّي عنّي، ولا تُشمِت بي أحياء العرب؛ ‏فإنّي بنت سيِّد قومي، وإنَّ أبي كان يحمي الذِّمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويطعم ‏الطعام، ويفشي السلام، ولم يردَّ طالب حاجة قطُّ، أنا ابنة حاتم الطائي. فقال صلّى الله ‏عليه وسلَّم: يا جارية، هذه صفة الـمؤمنين حقّاً، لو كان أبوك مُسلِماً لترحَّمْنا عليه، خلّوا عنها، ‏فإنَّ أباها كان يـُحِبُّ مكارم الأخلاق، والله يـُحِبُّ مكارم الأخلاق.” وعند ابن كثير في: البداية والنهاية عددٌ من الروايات، وفي بعض هذه الروايات من التفاصيل في السند والمتن ما لا يصمد للقبول عند الـمُحدِّثين دون أنْ يُشكِّك ذلك في قيمة مكارم الأخلاق.

[3] عرضنا تفاصيل الصلة بين القِيَم والمقاصد في منظومة القِيَم العليا: التوحيد والتزكية والعمران، وتجلِّيات هذه القِيَم الثلاث في العمل التربوي.

[4] إشارة إلى بيت شعر قاله الحُطَيْئة في هجاء الزبرقان بن بدر، وهو:

دع الـمكارم لا ترحل لبغيتها                   واقعد فإنَّك أنت الطاعم الكاسي

ومن شِدَّة تأثُّر الزبرقان بقسوة هذا الهجاء، ذهب إلى عمر بن الخطاب يشكو الحطيئة، قائلاً: أو ما تبلغ مروءتي إلّا أنْ آكل وألبس؟! قال عمر: عليَّ بحسّان، فجيء به ليحكم، فقال: “لم يهجُه، ولكنْ سلح عليه” (أيْ تغوَّط، كناية عن شِدَّة الهجاء).

[5] “الـمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً، وشبك بين أصابعه” (البخاري، 1998، كتاب: الـمظالم والغصب، باب: نصر الـمظلوم، حديث رقم2446، ص461).

[6] “مَثَلُ الـمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” (مسلم، 1998، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تراحم الـمؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، حديث رقم2586، ص1041).

[7] وقد ربط ابن منظور معنى “القيام” في هذه الآية بالقِوَام: فقال: “وقِوَام الأمر، بالكسر: نظامه وعِماده. … ويقال: هذا قِوام الأمر ومِلاكُه الذي يقوم به، ومعنى الآية: أي التي جعلها الله لكم قياماً تقيمكم، فتقومون بها قياماً، … والمعنى جعلها الله قيمة الأشياء، فبها تَقُوم أمورُكم” (ابن منظور، 1997، مج12، ص499-500).

[8] قال المستشار طارق البشري عن صلة القضاء والمحاكم بالعمران: “ترى لو لم تقع مثل هذه القاعة (قاعة الـمحكمة) لاقتضاء الحقوق، ما الذي سيفعله الـمتخاصمون في تنازعهم حول ما يَدَّعيه كلٌّ منهم من حقٍّ له على الآخر؟ كان الاشتباك الـمادي سيقوم بدلاً من التشابك الكلامي، والتشابك الكلامي يقتضي صيغة يرتضيها الطرفان الـمتخاصمان، وهيئة يطمئنون إلى حياديتها بينهم، وإذا غاب هذان الأمران، فعلى العمران السلام.” (البشري، 2011، ص42).

[9] يشهد لهذا المعنى الحديث النبوي الذي أخرجه البخاري: “اليد العُليا خير من اليد السفلى، فالعُليا هي الـمُنفِقة، والسفلى هي السائلة.”

*  Fathi Hasan Malkawi holds a Ph.D. in Education and the Philosophy of Science. He is an educator, university professor, and consultant at the International Institute of Islamic Thought.Email: [email protected]

اترك تعليق

  1. يقول gralion torile:

    I conceive this web site has got some very excellent information for everyone :D. “The ground that a good man treads is hallowed.” by Johann von Goethe.