مقدمات لمستقبل الإسلام (5) – الحلقة الأخيرة

بقلم فضيلة الشيخ المربي عبد السلام ياسين، رحمه الله تعالى

إحدى الحسنيين

النظرة الثورية الواردة المستوردة تركز على التكتيل والتعبئة وصراع الطبقات وما يواكب ذلك في قطار الإديولوجية محررة الإنسان في زعمها. وشباب المسلمين يحسون الظلم الواقع على الشعوب الإسلامية ويتفاعلون مع الناقم على الظلم ويلتفون حول الصارخ على الظلم، وتجيش عواطفهم فيتجندون تحت لواء الاشتراكية الثورية يلعب بهم المثقفون المغربون وطلاب الزعامات. ذلك أن غثائية الأمة ووهنها، وهما ناتجان عن قرون العض والجبر، فتتت العزائم الإيمانية وسكنت رياح الإيمان التي تحمل لعشاق الشهادة عبير الجنة.

واليوم برز المؤمنون لميدان الجهاد. فهم معرضون لعَدْوَى الحوافز الأرضية التي تسلح الأعداء وتدفعهم. فعلى اللسان تظهر عبارات الثورة والنضال وما إليهما. وفي النفوس يتسلل الحقد على العدو والاعتماد على مجرد الوسائل الأرضية. وفي الآمال يتخايل النصر على صورة رئاسة وعلو نبلغُهما باسم الإسلام. عَدْوَى مُهَدِّدَة لا بد من التماس المنعة ضدها.

لئن اتكل المسلمون على كثرتهم وحيلتهم وذكائهم يوشك أن لا يُغْنِيَهم ذلك من الله شيئا. من الممكن أن يبدأ تحركنا استجابة لموعود الله واستقبالا للخلافة الموعودة. ثم إذا توغلنا في المعركة ووقفنا وجها لوجه مع شاغلات المدافعة نسينا الله ورسوله، ونسينا طلبنا الأول، وذبنَا في طلب الظهور حبا للظهور. ويومئذ لا تكون الخلافة على منهاج النبوة لأنَّ من بيدهم سيف السلطان نبذوا القرآن.

إن دولة القرآن ما هي معنى نازل من السماء. إنما هي نصر من الله يسعى على الأرض ممَثّلا في صف جند الله، وتنظيم جند الله، وتولي جند الله الخلافة في الأرض عن الله. ما داموا جنداً لله، عبيداً لله، طالبين وجه الله فهي الخلافة.

إن جند الله لا ينشأون نشأة عفوية على أخلاق الرجال وإيمان الرجال وعزائم الرجال وعبودية الرجال لله عز وجل. إنما تؤلفهم التربية، ويؤلفهم التنظيم، ويجمعهم ويوحدهم آصرة الإحسان. نذكر هنا بهذا الحق لكيلا ننسى أن تربية جند الله وتأليفهم مقدمة لكل عمل جهادي ينبري للعظائم. وقد كتبنا في الموضوع ما شاء الله من فهمنا «للمنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا» في كتابنا الذي يحمل هذا العنوان. فليكن هذا مقررا. فإن هذا الكتاب الذي بين أيدينا مبني على ذاك. يشرحه ويكمله.

ونختم بوصف جند الله من كتاب الله وصفا جامعا.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة، 112).

انظر كيف سبقت وظائفَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحفاظ لحدود الله شروطُ التوبة والعبادة والحمد والسياحة (وهي الصيام كما فسرت عائشة وابن عباس رضي الله عنهم) والركوع والسجود. عندما غلب جند الله الأولون جيوش الروم كان الروم يصفون المسلمين بوصف مزدوج غريب عليهم. قالوا: «هؤلاء رهبان بالليل فرسان بالنهار». في نظر الروم اجتمع المتناقضان: الرهبانية الخاشعة والفروسية الفاتكة.

إن شمولية جهادنا لنْ تقوم إلا بتربية شاملة، وعقيدة لا تعطل قدر الله بتعظيم الأسباب، ولا شرع الله باحتقارها وإهمالها. وإن الذي يناجي ربه بالليل يطلب حسنى المعاد والزلفى عند الله فذلك الطلب لُبُّ حياته وغايتُها. حتى إذا أصبح في صف الجهاد انبعثتْ له مسألة ثانية تابعة للأولى مرتبطة بها فهي حسنى بهذا الارتباط لا بنفسها، وهي مسألة النصر والخلافة في الأرض. فإن انقلب الميزان، وكان طلب الظهور يمسك بالزمام، فالإيمان في تقلص، والجهاد آئل لمعاني النضال الأرضي، والخلافة المزعومة متردية إلى ملك عاض وجبري فغثائية وانهزام.

لا نمل التذكير بهذا ولن نكف عنه، فلأن نرابط في مساجدنا تائبين حامدين ذاكرين تالين مائة سنة حتى يولد إيماننا فَيَشِبَّ فيَقْوَى خيرٌ من مغامرة باسم الإسلام والقلوب فارغة إلا من طلب السيف للتسلط على العباد. لست ممن يقول بإمكان إعداد الرجال في الخدور وبين أساطين الانزواء لكنها نكتة ساقها القلم. والله المستعان.

اترك تعليق

  1. يقول graliontorile:

    I’ve read several excellent stuff here. Definitely worth bookmarking for revisiting. I wonder how a lot attempt you set to make the sort of wonderful informative website.